ألا فليطمئن هذا الشاعر على أناته وهمساته ! فإنى أراه جازعا خشية أن يدفن الزمان هذه الأنات فلا تجد من يصغى لها فى زحام الحياة وضجة الآباد . وأراه يسأل فى تلهف وتطلع فيقول :
من ترى يصغى إذا رت لت أناتى وهمسى ؟
حين تندى العين بالدم ع فما تكتم يأسى ؟
حين يأوى الطير للوك ر ويطوى كل نبس ؟
ولكن هذا الشاعر غنى عن حيرة السؤال ؛ فإن فى ديوانه كله أنغاما ستظل سارية مع الفجر ومع البدر ومع النهر . . وستظل كل أذن تصغى إليها فى سكون ، وتستوعبها فى لذة ، وتشفق على صاحبها الذى جعل من ديوانه نغمة واحدة هى نغمة الحب الظامئ المتحرق ، الخائف الوجل ، المتعب المكدود ، الباكى على أمسه ، المتوجس من غده .
ولم يسعدنى الحظ أن أعرف عن الشاعر شيئا قبل أن يهدى إلى ديوانه الجديد ؛ فصاحبته فى " الانتظار " و " الحرمان " وفى " السأم " و " القلق " وفى " الهباء " و " زفرة اليأس " . . . وصاحبته فى غير ذلك من قصائد الديوان التى تحمل عناوين تنوء بأعباء السنين ؛ فرأيته قلبا يذوب قطرة قطرة على ( أيام ) كانت له ! ويتشوق إلى ( غد ) ينعم فيه بالفرار بعد أن أكداه السير والسرى ، وبعد أن أطال التطلع فيما وراء الآفاق . ولكنه لا يزال خائفا
من عثار الطريق ، ودوى الضجيج فيقول :
وقفت على الدرب منذ الصباح
أجوب الثرى وأجيل النظر
وها قد ونيت وحل المساء
وضاق الفضاء وغام البصر
وما زلت أطوى سنى العجاف
وراء خيال شحيح حذر . .
وما زلت ثم أمد اليدين
وأصرخ : ربى متى أستقر ؟
ومازلت أخشى عثار الطريق
وأخشى الضجيج وأخشى القدر
وإذا كان الشاعر ( عمر النص ) قد أتعبته السنون ، أو أتعب هو نفسه بهذه النظرات الكئيبات وهذا التشاؤم الذى لا أجد له مسوغا - مهما كانت مناسباته وملابساته - فإنه قد أتعبنى معه حتى كدت أسقط من الإعياء وأنا اقرأ ديوانه مرة ومرة ومرة .
ولم أجد فى أسلوب الشاعر تعبا ولا إعياء ؛ ولم أجد فى تلك الصياغة الشعرية المحكمة نصبا ولا رهقا ؛ ولم أجد فى نفسية الشاعر إجهادا ولا تعقيدا . ولكنى وجدت أخا لى فى الإنسانية ، وزميلا لى فى الشاعرية قد ذهب شبابه .
وأجدب ترابه ، وامتد على الرمل سرابه . ووجدت فى الشاعر رجلا قد آده الدهر بأحماله ، وأناخ عليه بأثقاله . . فراح يندب " أيامه " فى أنغام حزينة ، شاكية ، باكية . وراح لم يجد ما يغريه فى البقاء أو يطمعه فى العيش فقال :
أيها الطيف الذى يع بر دنياى ويجرى !
هاهنا القلب الذى أض فيته أثمن ذخر
لم يجد بعدك ما يح لو من العيش ويغرى
ود لو يعلم لم يب قى . . ولكن كيف يدرى
ترى من يكون هذا الشاعر السورى الذى أراد أن يضيف إلى أوتار العود الحزين وترا جديدا ؟ ترى من يكون هذا الإنسان المعذب الذى لم تشرق من خلال ديوانه ومضة واحدة بأمل جديد ؟ وهلا أبقى من الدموع شيئا ( لغده ) ؛ أو ترك فى قرارة الكأس شيئا ؟ لندعه هنا يحدثنا عن نفسه ، ويعرفنا بهويته فيقول :
أنا شيخ أدب فى شعب الأر
ض وأهذر بغربتى وفراقى
أنزوى فى الحياة أذكر دنيا
ى وأحيا فى الأمنيات العتاق
أنشر الذكريات بين يدى يو
مى وأرنو لهن فى استغراق
وعلى المفلتين نظرة بأس
خلفتها الكروب فوق حدافى
أنا شيخ أمر بالأرض سأما
ن ، وأطوى الحياة فى إشفاق
فهو هنا يعترف بشيخوخة يستعيد فى ظلماتها إشراق ماض قديم ؛ وهو فى مقطع آخر من قصيدة أخرى يتساءل : هل أوغلت فى ظلام الكبر ؟ وهل شاخ القلب فلم يعد يستهويه غناء ، ولا يزدهيه للحياة نداء . ويقول فى أسلوبه الحلو الرصين :
ترى هل أضعت الطريق السوى
وأوغلت فى ظلمات الكبر ؟
أولى زمان المنى والغناء
وأقفر درب الندى والزهر ؟
ومات الشذى فى الربى والبقاع
وجاس الخريف خلال الشجر
أم القلب شاخ . . فما يزدهيه
نداء الحياة وزهو الظفر !
ولقد حمدت الله عند بلوغ هذين النصين . على أن الشاعر عمر النص ليس شابا بائسا . . وإنما هو شيخ نال من الحياة ونالت منه ، وشبع منها وشبعت منه . . فلا ضير عليه بعد ذلك إن بكى أمسه ، أو ندب نفسه . . ! ولا ضير علينا - بعد ذلك - إن قسونا عليه فقلنا : يا شيخ ! فيم البكاء وفيم هذه اللهفة العارمة ، وفيم هذه الزفرة المغتلية . وقد شبعت من الحياة . ! نعم شبعت منها باعترافك وإقرارك ، فلم تعد تبكينا معك - مهما كنت بارعا فى الاستبكاء - على شبابك الذى لن يعود . . .
وقد يقول قائل : إن الشاعر هنا يعالج تجربة شعورية خاصة به ، فما باله يقيم الدنيا ويقعدها من أجل نفسه ، وما باله يتصور أن الأرض ستنطبق عليها السماء لأن شاعرا " كانت له أيام " ثم فتح عينيه على الأفق ، وعلى الفضاء ، وعلى الماضى والحاضر والمستقبل ، فإذا هذه الأيام قد ذهبت إلى غير عودة ، ومضت إلى غير رجعة ! .
ولكننا جميعا - أعنى الناس - لنا أيام ؛ وسنقف فى النهاية على غاية الدرب بعد طول الجواب . . . نجيل النظر فلا نرى غير ظلام المساء وهو يطبق على النهاية . فإذا استطاع شاعر - كالأستاذ عمر النص - أن يعبر عن تفاهة الحياة ، وفراغ الحياة ، وبأس الحياة ، وخداع الحياة بالنسبة إليه فقد استطاع أن يعبر عن ذلك جميعا بالنسبة إلى كل واحد منا - منا نحن الحيارى الهائمين فى تيه قد تشغلنا عنه قليلا بعض ألقاء الطريق . . .
ومن هنا لم تكن " أيام " عمر النص أيامه وحده ، ولا كان ماضيه له وحده ، ولا كانت مخاوفه من الحياة مخاوفه وحده ، وإنما هى شكاة كل إنسان ، وعلة كل موجود .
يتطلع الشاعر عمر النص فى ديوانه المحزن إلى الماضى ؛ ولكن هذه النظرات لا تشغله عن التطلع إلى " الغد " . وتطلعه إلى الأمس هو تطلع المتحسر . أما تطلعه إلى " الغد " فهو تطلع مشوب بالخوف أولا ، ومقرون بالخيبة ثانيا . . لأن الشاعر تصوره أخضر يانعا ، فإذا هو مقفر موحش كئيب كما يقول :
أمامى غد قفر يكاد يضيق بى وخلفى من ذاك النعيم حقول ! وكما يقول فى قصيدة أخرى :
وفتحت للأنوار أفق غدى فإذا الدجنة فيه تنصب
أما خيبة الأمل فى هذا الغد المرتقب ، والصورة التى تخيلها الشاعر له خضراء مورقة فإذا هى على الضد من ذلك ، والتلهف الحبيب إلى استشراف الغد . . . أما ذلك كله فقد عبر عنه الشاعر أصدق وأجمل تعبير فى قوله :
وكان لنا غدنا السرمدى
نعد خطاه ونستبشر
ونرمقه بارتقاب اللهيف
ويرصده القلب والمحجر !
تمثلته أخضر الضفتين
يموج به النور والكوثر
وقد نضرته رؤى من هواى
وزينه أمل مزهر !
تبينته فى الفضاء القصى
وقد غمض النبأ المخبر
فأتبعته القلب وخف الخطى
يحدق فيه ويستبصر
فماذا رأى ؟ عاد يبكى هواه
وغمغم : نفسه إنه مقفر
وأيام الشاعر التى ( كانت ) هى صنو ( الربيع ) الحلو الريق حين يدبر ؛ وغده المرتقب المخوف المخيب للآمال هو صنو " الخريف " . . . الخريف الذى يهابه الشاعر ؛ ويحاول أن يجد منه مهربا ، ولكنه مدركه . . كليل النابغة الذبيانى الذى يقول فيه للنعمان :
فإنك كالليل الذى هو مدركى
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وما أشد خوف شاعرنا عمر النص وهو يقول :
فديتك قد أطل خريف عمرى
فأين تهربى منه وبعدى
مسكين هذا الشاعر فى إسلام نفسه لمثل هذه الهواجس والخواطر التى تبلبل الفكر ، وتحير العقل وتنقص ما بقى من العمر ؛ وإن كان يتظاهر أمامنا بالتصبر ، وباستقبال ما لابد منه كأنه حقيقة واقعة ، وبعدم الاستسلام للخوف والرهبة . . . فيقول :
أنا ذاو غدا إذا ذوى الور
د ومر الخريف بالأوراق
نازف من دمى بقية حلم
خلفتها الأيام فى أعماقى
أيهذا الخريف ؛ لا أرهب الر
يح . . فعد بالغيوم والإبراق . .
الربيع الذى أؤمل ولى
فى ذهول ورقة واشتياق !
الخوف دائما هو آفة هذا الشاعر الذى يخيل إلى أنه قطع مراحل العمر على فزع موصول . ولم يغادره الخوف حتى فى شيخوخته التى يعبر عنها شعره . . .
ويخيل إلى أنه يتوهم الحياة فلاة مملوءة بالرعب ، فلا يلتمس فيها نغمة من نغمات الأمان ، أو نسمة من نسمات الحنان . . . أو يخيل إلى أنه " أنانى " مسرف فى الأنانية ، أو " شحيح " مبالغ فى الشح ؛ فيقف على أطلال " الماضى " وقوف بخيل ضاع فى الترب خاتمه . . . اسمعه وهو يقول :
أخاف أخاف أن يطوى ظلام اليأس ليلاتى
ويتركنى على الأرض بلا ماض ولا آت
سليب العزم أستجدى من الحرمان أبياتى
إذا ما أومأ الفجر نثرت عليه قلماتى
ويعود لشاعرنا كبره الآدمى وكبرياؤه . . . فيلجأ إلى التصبر وإلى التكبر . . . ولكن هذا كله طلاء لا يخدعنا عن شعور الخوف فى نفس الشاعر مهما قال مثل المقطع الآتى :
فديتك أيها القلب أأنت تراع من دهرك ؟
أأنت تخاف أن تنسى أأنت تشك فى صبرك ؟
لقد جد بك النأى فماذا كان من أمرك ؟
وقد روعك الدهر فكاد يجن من كبرك !
فلو أن الدهر كاد يجن من كبر الشاعر حقا لما سمعنا
أنغام الندبة والتشكى تسرى فى خلال الديوان ( كانت لنا أيام ) ؛ ولكن لعلها فكاهة شاعر من الذين يقول فيهم القرآن : ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) . .
ولقد صور الخوف لشاعرنا " عمر النص " من الأوهام فى الحياة ما كاد يعطل فيها معنى الوجود وقيمة الوجود . حتى صارت الحياة فى نظره ، وأصبحت المرئيات أمام عينيه هباء فى هباء :
هباء هى الدنيا ! هباء هى الرؤى
هباء هباء كل ما أنا أرمق
وهذه النظرة " الهبائية " للحياة هى صنو الموت وأخت العدم ، وهى تتنافى مع القوة الحيوية التى يجب أن يتسلح بها الإنسان - ولو كان شاعرا . . . وأى إنسان حى قوى مفعم بالحيوية يرضى أن يردد مع الشاعر عمر النص قوله :
فى فضائى تجوس أخيلة المو ت وفى خافقى أحس شفايا
وعلى مقلتى ينعقد اليأ س ويجرى مع الدموع لظايا
وعلى الرغم من أنغام اليأس والخوف وخيبة الأمل التى تشيع فى ديوان ( كانت لنا أيام ) من أوله إلى آخره . فإن الشاعر استطاع فى صدق وقوة سبك وبراعة أسلوب أن يصور لنا جانبا من الحياة . . . ولو أنه عمد إلى بعض جوانبها المشرقة الباسمة لاستطاع أن يصب الفرحة فى قلوبنا صبا . ولا يقولن قائل : كيف يصور الشاعر لنا ما لم يجربه من أشراق الحياة . فإن الشاعر لا شك قد جرب فى ( أيامه ) الماضية كثيرا من السرور الذى جاءنا اليوم ليبكيه . . . وما الذى أسكته وهو غرقان فى ماضيه السعيد عن أن يسمعنا أنغام سعادته ؟ حتى إذا ولت هذه الأيام عاد يندبها فى ديوانه ( كانت لنا أيام ) ؟ .
ألم أقل لك إن الشاعر " عمر النص " أنانى ؟ ودليل أنانيته أنه لم يشركنا معه فى أفراح ماضيه السعيد ، ثم يلجئ اليوم فيشركنا معه فى آلامه ووساوسه ومخاوفه من غده ، ويفرض كل ذلك علينا فرضا . . . !
ولا أدرى لماذا أعجبت بهذا الديوان فقرأته أكثر من مرة ، وجعلته سلوتى فى شهر رمضان ، شهر النسك
والعبادة ؟ ! قد يتعبد الإنسان بالألم لأنه يطامن من غرور النفس البشرية الملعونة . . . ! ولعل ذلك هو الذى حبب إلى ديوان " كانت لنا أيام " ، أو لعل أشياء أخرى قد دفعتنى إلى قراءة هذا الشعر الحزين دفعا ، فوجدت من قراءته طربا وسرورا . . .
ولا أدرى لماذا سررت فى جو خانق بالحسرات واللهفات ؟ ولعل شاعرية الأستاذ عمر النص ، وأسلوبه العربى الرصين المشرق ، وصدقه حتى فى التعبير عن الآلام هى مبعث ذلك الطرب والسرور .
بقيت بعد ذلك كلمة تمنعنى الصراحة أن أحبسها . . . فلو خلا هذا الديوان العربى الفصيح من بعض الضرورات وخطأ البناء اللغوى لكان سبيله الكمال . . . ففى صفحة ١٣ " أخاف من السنينِ " ، وصوابها " السنينَ " .
وفى صفحة ٢٥ " الخُذلان " ، وصوابها " الخِذلان " . وفى صفحة ٢٦ " أدفُن " ، وصوابها " أدفِن " . وفى صفحة ٤٣ " بَرُحاء " ، وصوابها " بُرَحاء " . وفى صفحة ٩٨ " سنينه " ، وصوابها " سنيه " ، لأن النون الثانية تحذف للإضافة إلى الهاء .
وفى صفحة ٩٨ " بُح صوتى " ، وصوابها " بَح " بالبناء للمعلوم لا للمجهول . وفى صفحة ٩،٨٨،٣٣ " ورقة " بتسكين الراء ، وهى ضرورة كان يجب عدم الالتجاء إليها .
وفى صفحة ٤٨ " ولن أرى إلا يا " ، والصواب إلا إياى . لأن إلا لا يقع بعدها الضمير المتصل . وهذه ضرورة من الشاعر عمر النص كالضرورة التى وقعت فى شعر القائل القديم :
وما نبالى إذا ما كنت جارتنا ألا يجاورنا إلاك ديار
وماذا تكون هذه المآخذ فى جانب كثير من الحسنات التى امتلأ بها ديوان " كانت لنا أيام " ؟ وهى حسنات فى الشعور ، وحسنات فى التعبير ، وحسنات فى التصوير ، يزهى بها هذا الديوان فى إنتاج الشعر هذا العام ، وفيما قبله من أعوام .
