الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 644الرجوع إلى "الثقافة"

نقد, الهوامل والشوامل، لأبى حيان التوحيدى ومسكويه، نشره أحمد أمين بك والسيد أحمد صقر - مطبعة لجنة التأليف - ٣٩٩ صفحة سنة ١٩٥١

Share

لا تستطيع أن تضع هذا الكتاب فى يسر تحت باب العلم الذى يجب أن يسلك فيه . أهو اجتماع ، أم أدب ، أو علم نفس ، أم فلسفة ، أم لغة ؟ لعله كل ذلك ، لانه يشمل سائر هذه المسائل ، ولعله إلى الفلسفة أقرب ، فهى التى كانت تحيط بكل معرفة وتشمل كل علم فى العصور القديمة ؛ فإذا عرفت أن أبا على مسكويه من أشهر فلاسفة المسلمين وحكمائهم ، وكان الكتاب إجابات على أسئلة أبى حيان التوحيدى ، فهو من قلم الفيلسوف ، كان الكتاب فى الفلسفة أليق .

إنه يصور على كل حال لوناً من ألوان الفكر فى أكثر عصور الإسلام ازدهاراً ، تعنى فى أواخر القرن الرابع ، وأوائل الخامس الهجرى ، وهو إلى ذلك كله كتاب ينبض بالحياة فى كل سطر وفى كل عبارة ، جاءته هذه الحياة من التخاطب والتراسل والشركة فى التفكير بين التوحيدى ومسكويه ، وجدير بالفكر إذا تناظر وتجادل وتجاوب أن يكون متحركاً لأنه ينتقل من السائل إلى المسئول ولا يصدر عن الشخص بينه وبين نفسه ، وهذه الحركة وهذا الانتقال هما الأصل فى الحياة .

وقد يخيل إليك أن حياة الكتاب تنتهى بانتهاء العصر الذى دون فيه ، ولكنه مع ذلك لا يزال حياً ، لا لأن الطبعة نفضت عنه غبار الاكفان وأخرجته من زوايا النسيان ليصبح متداولاً بين أيدى القراء فى هذا العصر ، بل لأن الأفكار التى بسطها مسكويه ، ومعظمها يتعلق بالطبيعة البشرية ، لا تزال هى الآراء التى تأخذ بها ، لأن

طبيعة البشر فى أصولها ثابتة لا تتغير مع تغير الزمان والمكان ، وهل خلا الإنسان منذ بدء الخلق من الحسد والتنابز ، والحب والبغض ، والكبر والعجب ، والإسراف والبخل ، وسائر هذه الخلال التى يتصف بها كل فرد ، ولا يخلو منها إنسان .

وأحسب أنى فى غير حاجة إلى تزكية كتاب لأبى حيان وتقديم أبى على مسكويه ؛ فما بالك إذا اجتمعا على التأليف وتعاونا فى التفكير .

وقد وقعت فى الكتاب بعض الشوارد رأيت أن أقيدها بهذه الأوابد .

١ - فى تأليف الكتاب :

قال مسكويه فى استهلال الكتاب : " وهأنذا آخذ فى أجوبة مسائلك التى سميتها هوامل " يقصد بذلك المسائل التى أرسلها إليه أبو حيان التوحيدى يطلب عنها الجواب ، فتألف من مجموع الأسئلة والأجوبة أو من العوامل والشوامل ، هذا الكتاب الذى قام بطبعه الدكتور أحمد بك أمين والأستاذ السيد أحمد صقر ووقع فى أربعمائة صفحة إلا واحدة ، فليس الكتاب للتوحيدى وحده أو لمسكويه وحده ، بل هو لهما معاً ، ولكن الأول سائل والثانى مسئول ، وأحدهما تلميذ والآخر أستاذ .

وقد جرت العادة فى مثل هذه الطريقة أن يذكر اسم صاحب الجواب مع تصدير الرسالة بسؤال السائل ، كما هى الحال فى رسائل ابن سينا التى كتبها جواباً عن كثير من

علماء عصره وأهل زمانه ؛ غير أن الأمر هنا يختلف بعض الشئ إذ اجتمعت عدة مسائل بلغت ١٧٥ ، وطال السؤال فى بعض الأحيان حتى ليخرج عن طبيعته ، ولا ينفى ذلك أن التوحيدى فى مقام السائل ، ومسكويه فى مقام العالم المجيب ، لأن المسئول أعلى من السائل علماً .

وقد ذكرت بعض المراجع الكتاب عجزا فنسبت الهوامل للتوحيدى ، وأضافت الشوامل لمسكويه ؛ ولكن لما كانت النسخة الموجودة فعلاً وحيدة ، فإننا لا نعرف أيمكن أن توحد الهوامل وحدها أو الشوامل وحدها ، على أن النسخة المخطوطة لم توصف فى المقدمة لنعرف خطها وناسخها وزمن كتابتها ، والذى لا شك فيه أن النسخة ليست بخط التوحيدى ، ودليلنا على ذلك أن صاحب النسخة يذكر عند الجواب " قال أبو على مسكويه  - رحمه الله " ونحن نعرف أن التوحيدى توفى سنة ٤١٤ هجرية ، ومات مسكويه سنة ٤٢١ هجرية أى بعد وفاة أبى حيان ؛ فلم يكن من المعقول أن يكتب التوحيدى عن مسكويه " رحمه الله " ولم يمت بعد .

فإذا كان هذا هكذا ، وكانت هذه العبارة التي تطلب الرحمة ليست من قلم مسكويه ، ولا من قلم التوحيدى ، فكان يجدر أن يضعها الناشر بين معقوفتين مع النفيه فى الهامش أنها من النساخ .

٢ - فى الأسماء الدالة على معنى واحد :

سأل أبو حيان عن الفرق بين ألفاظ قد تكون مترادفة ، مثل العجلة والسرعة ، والسرور والمرح ، والهزل والمزح ، وغير ذلك ثم قال : " فإن كان بين كل نظرين من ذلك فرق يفصل معنى من معنى ويقر مراداً من مراد ، ويبين غرضاً من غرض ، فلم لا يشترك في معرفته ، كما اشترك فى معرفة أصله " . قال الناشر : فى اللسان " فر الأمر يفره بحثه وكشفه . ومنه قول الحجاج لقد فررت عن ذكاء وتجربة " والمعنى يقتضى الفصل والتمييز ، والسياق يدل على التفرقة والإفراز . ولهذا نرى الأليق أن تقرأ اللفظة " يفرد " أو " يفرز " وهو اصطلاح معروف فى المنطق يستعمل عند الكلام عن " الفصل " .

قال مسكويه فى جملة الجواب :

" وعرض بعد ذلك أن أصحاب صناعة البلاغة ، وصناعة الشعر والسجع ، وأصحاب البلاغة والخطابة هم الذين يحتاجون إلى الإقناعات العلمية فى مواقف الإصلاح بين العشائر مرة ، والحض على الحروب مرة ، والكف عنها مرة ، وفى المقامات الآخر التى يحتاج فيها إلى الإطالة والإسهاب ، وترديد المعنى الواحد فى مسامع الحاضرين . ليتمكن من النفوس ، وينطبع فى الأفهام - لم يستحسنوا إعادة اللفظة الواحدة مراراً كثيرة ، ولا سيما الشاعر . . " ص ٨

لقد طالت الجملة حتى وقعت فى ثمانية أسطر ، ولذلك عمد الناشر إلى فصل جواب أن الواردة فى أول العبارة بشرطة ينبه بها القارئ إلى أن هاهنا يقع الجواب . غير أن الجملة كما أثبتها كانت قد بلغت التمام عند قوله " هم الذين يحتاجون " فإما أن يصوب " لم يستحسنوا " بقوله " فلم " وإما أن يصف أصحاب صناعة البلاغة وغيرهم فيعطف الكلام بحرف العطف قائلاً : " وهم " وهذا أليق .

٣ - فى كتمان السر :

سأل أبو حيان فقال : " لم تحدث الناس على كتمان الأسرار ، وتبالغوا فى أخذ العهد به . وحرجوا من الإفشاء ، وتناهوا فى النواصى بالطى ، ولم تتكتم مع هذه المقدمات "٢ .

فأجاب أبو على مسكويه جواباً فلسفياً ، ورجع إلى النفس ، ونظر فى قواها ، فوجد أنه " قد تبين فى المباحث الفلسفية أن للنفس قوتين : إحداهما معطية ، والأخرى آخذة . فهى بالقوة الآخذة تستتيب المعارف ، وتشتاق إلى تعرف الأخبار ، وبها يوجد الصبيان أول نشوئهم محبين لسماع الخرافات ، فإذا تكهلوا أحبوا معرفة الحقائق ..."

حدثنا مسكويه عن طرق المعرفة ، فالنفس بقوتها الآخذة تشتاق وتطلب ، وبقوتها للعطية " تفيض على غيرها ما عندها من المعارف " . وفسر الناشر الاستتابة بأنها الاسترجاع ، وليس هذا من جنس الشوق والطلب ، وقد عاد مسكويه فى المسألة الثانية عشرة فذكر اللفظة ، وقال : " الاستتبات " من طلب التثبت ، وذلك فى ص ٤٧،٤٦ " قد تقدم لنا فى بعض هذه الأجوبة التى مضت أن للنفس

قوتين : إحداهما هى التى بها يشتاق الإنسان إلى المعارف واستتبابها " . وهذا هو الصواب المعروف . أى " تستتبت " بدلا من " تستتيب " .

٤ - فى التعجب :

قال مسكويه فى جواب المسألة السادسة عشرة : " أفهم أن آثار النفس وأفعالها كلها بديعة عند الحس وأصحابه ولعلك تجد أكثر الناس متعجبين من النفس نفسها ، متحيرين فيها ، ظانين بها ضروب الظنون . وليس يحلون مع كثرة تفننهم فى هذه الظنون من أن يجعلوها جسما على عاداتهم فى الحس وتصورهم فى المحسوسات ، ثم يجدون أفعال هذه النفس وآثارها غير مشبهة شيئاً من آثار الجسم وأفعاله ، فيزداد تعجبهم . ولو أنهم حصلوا مائية النفس لكان تعجبهم من آثارها أقل ، إذ كانت هى غير جسم . ولو صح لهم أنها جسم لم يكن بديعاً عندهم أن تكون آثارها غير جسمانية " .

نقلت العبارة بأكملها ليتضح منها المطلوب وينكشف الغامض . إذ كيف تكون آثار النفس وأفعالها بديعة عند الحس ؟ وما أصحاب الحس ؟ وقد ابتدأ أبو حيان المسألة بقوله : " لم شارك العجب من نفسه للتعجب منه ؟ مثال ذلك شاعر يفلق فى قافية فيتعجب منه السامع حسب ما اقتضى بديعه . فالشاعر لم يتعجب أيضاً ، وهو المتعب منه ؟ .. . " فالسؤال عن أفعال النفس بعيدة عن الإحساسات . والإحساس لا يكون فعلا للنفس ، بل هو من قبيل الانفعالات المتصلة بالمحسوسات ، والمحسوسات جسمانية . ومسكويه يجرى فى هذا الكتاب وفى غيره من الكتب على مذهب الذين يميزون بين النفس والبدن ويقابلون بينهما . وذكر مسكويه فى المسألة السابقة على هذه ، وهى خاصة بالعلم ما نصه : " والنفس فى هذا المعنى كالمناصب للجسد ، وذلك أن الجسد إذا حصلت فيه صورة ضعف عن قبول صورة غيرها ، إلا بأن تنمحى الصورة الأولى منه . . " ص ٥٣ . بل هو ينص فى الفقرة التى نقلناها على ذلك فيقول : " وليس يخلون مع كثرة تفننهم فى هذه الظنون من أن يجعلوها جسما على عاداتهم فى الحس وتصورهم فى المحسوسات " . فالنفس غير

الجسم ، وأفعال النفس غير أفعال الحس . لذلك كان صواب العبارة التى وضعنا عنها تحتها خطاً " وان آثار النفس وأفعالها كلها بديعة ، غير الحس .. ."  أما لفظة أصحابه فلا تأتلف مع جملة المعنى وحسن السياق . وإنى مصححها بالحس والتخمين بما يناسب المقام ، لأن النسخة المخطوطة ليست معى ، فأرى أنها " وأخيلته " وهي أقرب لفظة إلى حروف " وأصحابه " . قال مسكويه ص ٨٣ : " وذلك أن هذه القوى من قوى النفس التى تأخذ العلوم من الحواس ، إنما ترقيها إلى قوة التخيل عن الحس " .

٥- الكبموس :

قال مسكويه فى الجواب عن سؤال الصرع : " الصرع هو تشنج يحدث فى الأعصاب . ومبدأ العصب الدماغ ، لأنه من هناك ينبت في جميع البدن ، وسبب هذا التشنج بخار غليظ يكون من بلغم لزج "كيموس غليظ يسد منافذ الروح الت في بطون الدماغ " .

صواب ينبت ينبث بالثاء المشددة .

أما كيموس ، فهى لفظة يونانية ، عرفها أوائل المترجمين وذكرها النقلة عن اليونانية ، وجهلها المتأخرون لبعدهم عن معرفة الأصل الإغريقى لها . لذلك كان تفسير صاحب اللسان ، كما نقله الناشر فى الهامش أنه : " هو الطعام إذا انهضم فى المعدة قبل أن ينصرف عنها ويصير دما " تفسيرا بعيدا عن الصواب . قال إسحق بن حنين فى ترجمة كتاب النفس لأرسطوطاليس : " وأصناف الكيموس معادلة فى المذاق لأصناف الرائحة ، إلا أن حسن المذاق فينا أشد استقصاء " . وقال بعد قليل : " وكما أن الكيموس منه حلو ومنه مر ، كذلك فى الرائحة منها ما يعادل الكيموس فتكون رائحته حلوة مثل الكيموس الحلو . ومنها ما هو على خلاف ذلك " ومن طبيعة الكيموس أن يكون رطباً ، وفى ذلك يقول أرسطو : " والرائحة إنما هى للشئ اليابس كما أن الكيموس للرطب " . ثم هجر المتأخرون لفظة كيموس قالوا الطعم . فيكون معنى العبارة " من بلغم لزج وكيموس غليظ " أى طعم غليظ .

اشترك في نشرتنا البريدية