تريثت بضعة أشهر قبل أن أفرأ هذا الكتاب ، مؤثرة أن انتظر به حتى أفرغ فأتلو صفحاته - التي قاربت ألفا - على مهل وفي اطمئنان ، ثم جدت هذه الأحداث الحاضرة التي تؤرخ فترة من أدق الفترات في تاريخنا القومي . فأغرتني بمطالعة هذا السفر التاريخي الذي يتحدث عن ماضينا العريق ، ويصلنا بجدود لنا عظام ، فرضوا مجدهم على الزمان وقهروا الفناء !
ولم أقصد بقراءته إلى التماس شئ من المتعة الفنية ، إذ أن الكثرة المطلقة من الكتب التاريخية عندنا ترهقنا بجفافها وإملالها ، وإنما هى العاطفة القومية دفعتنى دفعاً إلى ماحسبته تجثماً لعناء الإملال ، فى سبيل أن أزداد علماً بتاريخنا القديم ... غير أنى لم أكد أتلو مقدمة الكتاب حتى ألقيتنى أمام أسلوب أدبى لا عهد لنا بمثله فى الكتب التاريخية إلا قليلا ؛ فالدكتور بدوى هنا يحلم ، ويتأمل ، ويتخيل ، ويستحضر لنا من أعماق الماضى السحيق ، طيفاً مصرياً وقوراً يحدثنا فى صوت ملؤه القوة والجلال ، عن أمسنا كيف كان ، ويكشف لنا فى قسوة الأب الرحيم عما يشوب حياتنا اليوم من عناصر الضعف ؛
وخيل لى ، أن " الدكتور بدوى " هنا يوشك أن ينحرف عن أسلوب المؤرخين ويصطنع أسلوب الأدباء ، وأن شخصيته الفنية سوف تجور على شخصيته العلمية ، فى الوقت الذى يوشك فيه التاريخ أن ينتصر فى كفاحه الطويل لكى يصبح علماً ؛ ينفر من الظنون ، والتصورات ، والتأملات ، ويستبدل بها " مستندات ووثائق وآثاراً " هى - وحدها - أدوات المؤرخ المحقق ، ومادة التاريخ الحق .
هل أقول إنى أشفقت على " الدكتور بدوى " المؤرخ ، من شخصية الأديب التى تجلت فى المقدمة ؟ أجل أشفقت ، ثم مضيت أقرأ ، فإذا بالدكتور ينتزع نفسه - فى سرعة مفاجئة - من تأملاته وأحلامه ، ويختص للبحث التاريخى
العلمى فى جد ورزانة ويقظة ، حتى كادت تختفى ملامحه الأولى ، اللهم إلا أثراً باقياً فى أسلوبه العالى ، وصياغته الأنيقة للمادة التاريخية .
وتابعته وهو يعرض علينا قطعة من ماضينا ، يستنطق فيها الآثار ويستقرئ النصوص ويفحص الوثائق ، فحصاً بالغ الدقة والحذر ، وهو - غالباً - يترك لتلك الآثار والنصوص أن تتحدث فى ثقة وحزم يعبر عنهما " بلا شك ، وليس من شك " : ١١٧- ١٢٦،١٢٣- ١٣٠ ؛ فإن بدا له أن يعلق على شىء منها أو يستنتج من بعضها أكثر مما يحتمله الأثر أو النص ، ألقى كلماته فى احتياط جدير بالعلماء الذين يقدرون حرمة العلم ، فقليلا ما يورد تعليقاً أو رأياً أو استنتاجاً ، دون أن يستهله بقوله : ( من الجائز ، لعل ) ص ٢١٢،١٨٣،١٦٦،١٣٧،٢٤،٥٣،١٠ (وربما ) ١٧ ( ما نكاد نعرف ) ١٩ ( وتكاد ) ٢٢ ( وغالب الظن ) ٤٣،٢٣ ( والظاهر ) ٢١٣،١٦٠،٢٦ ( نستطيع أن نستنتج ) ٢٢٥،١٧٧،١٧١،٢٦ ( من المحتمل ) ٥٣،٣١ ( إذا صح ) ٢٣٣،٢٠٥،١٥٣،٤١ ( ولست استبعد ) ٤٤ ( ومن المرجح ) ١٥٢،١٤٤،٤٩ ( يستطيع الباحث أن يستنتج ) ٧٩ ( ما أظن ) ١٢٥ ( أكاد أشعر ) ٢٠٨ ( ليس من الثابت ) ٢٣٤ الخ .
والدكتور بدوى بهذا ، يدعم المنهج الصحيح المحرر للدراسة التاريخية . ولقد قرأت أكثر ما كتب عندنا عن التاريخ المصرى القديم ، وأبيح لنفسى أن أبارك هذا الكتاب الذى استطاع أن يستبدل بترجمة ما كتبه الغرب عنا ، مصادر أصيلة من الدرجة الأولى ، ففى الوقت الذى نرى فى مكتبتنا مجلدات وأسفاراً عن التاريخ المصرى ، كل جهد المؤلفين المصريين فيها أن يجمعوا ما كتب مؤرخو الغرب جمعاً لماً ، غير متحرجين أن ينقلوا - وهم
المصريون - تاريخ مصر من مراجع أجنبية ، فى هذا الوقت ، نقرأ " فى موكب الشمس " حديثاً أصيلاً ترويه آثارنا ومتاحفنا ، تلك التى قهرت الزمن ووصلت إلينا بالغة الروعة والجلال .
تلك هى مأثرة الكتاب عندنا ، وعند كل حريص على سلامة المنهج التاريخى وأصالته ، وللأدب بعد هذا أن يعتز بهذا العرض الفنى للمادة التاريخية ، دون عدوان عليها أو مساس بها .
