لست أدرى إلى أى حد يصح ذلك الرأى السائد عند المفكرين ، من اعتبار السخرية قفزات من الذكاء لا تمت إلى القلب بصلة ، ومنها ما يقطر دما ؛ ولكم من مرة لا يجد المرء سبيلا إلى الانتقام من آلام الحياة غير ابتسامة عابرة أو حكم ضاحك ؛ ولكم من مرة اهتزت نفسى انفعالا من حركة لـ " تشبلن " أو قهقهة منه ؛ ومن عجب أن يضحك المرء ويحزن ! ومن عجب أن يفتر الفم وينقبض القلب ! وفيجارو كتشبلن من أولئك الذين تحمل ضحكاتهم فيضا من الأسى يكاد يلهب منا القلوب .
فيجارو من رجال سنة ١٧٨٠ الذين مهدوا للثورة الفرنسية ، وقد خلفه مؤلفه فى زمن كان الفلاسفة قد أيقظوا فى الشعب ذلك الاحساس بالبؤس الذى حررهم من كل ظلم ، وأخذت الثورة تضطرم فى قلوب الرجال ، وكان لابد لها من متنفس . وكيف السبيل والبستيل لهم بالمرصاد ، والفرنسى رجل حامى الطبع لا يطيق صبرا على ضيم ، وهو من يقظة النفس بحيث لا يستطيع أن يمسك لسانه عن الحكم على ما يرى من فساد ، ويرجو من خير ؛ وإذا فلتكن السخرية سبيله ينفث فيها مكنون نفسه ، فينال ما يريد دون أن يتعرض لهلاك محقق .
سخرية فيجارو إذا ليست دليل جفاف فى نفسه ، وإنما هى انتقام مر من نظام بلغ من فساده أن كان الشعب يسعى إلى هدمه دون أن يفكر فيما يريد أن يقيم على أنقاضه من نظام ؛ وعندما يلجم الظلم ألسنة الرجال لا يجد ذوو الاباء منهم سبيلا غير تلك السخرية التى لا تعرف سلاحا أمضى منها بين أيدى الشخصيات القوية .
وفيجارو شخصية نادرة المثال فى إبائها . ولنستمع له وهو الخادم يخاطب سيده :
السيد - أيها الكسول المخبول . فيجارو - سيدى . دعنا نحصى الفضائل التى تطالب من خادم ولننظر بعد ذلك . ألا يعرف سيدي أسيادا كثيرين جديرين بأن يكونوا خدما .
هذا هو فيجارو يرتدى ملابس الخدم ونفسه أعز من نفس الأسياد . وما ولد فيجارو خادما ، ولقد تقلبت به أحداث الحياة ، ولو أنه أراد لوصل إلى ما وصل إليه جل بلاس " Gil Blass " (١) من قبل ، ولكنه أبى النفس يرفض أن يميل مع الرياح ليمر على عنقه رجال حابتهم الأقدار على غير فضل فيهم ، أو رفعهم حمق البشر فوق ما كان يجب أن يبقيهم اتضاع نفوسهم .
ولد فيجارو ابنا طبيعيا لطبيب وخادمته ، وتخلى عنه آباؤه وسط أمواج الحياة ، فزاول الطفل كل المهن احتيالا على الحياة الغشوم ، وبخاصة مهنة الحلاقة ؛ وبلغ من نجاحه فى تلك المهنة أن أصبح كل حلاقى الأرض يحملون اليوم ذلك الاسم . ولقيه المؤلف بومارشيه ( Beaumarchais ) ، وقد سئم مهنته ، ومنذ ذلك اليوم أحبه فصاحب خطاه فى الحياة وقص علينا نبأه فى روايات مسرحية ثلاث : " حلاق أشبيلية " و " زواج فيجارو " و " الأم الجانية " . وقد مثلت الروايات الثلاث تباعا فى سنتى ١٧٧٥ و ١٧٨٤ و ١٧٩٠ . ومرت السنون وفيجارو يجالد الحياة وهو هو ذلك المرح الصاخب الذى يلتمس من كل ألم جانبه المضحك . وانصرمت الأيام وكل ما فيها من ألم لا يستطيع أن يخلف فى نفسه غير ابتسامة هازئة . وأما الغد فما كان يعنى بأمره ، وما له من سلاح غير تلك السخرية يرسلها سهاما لمن يمسه بسوء فيبلغ ما يريد من خصمه دون أن يترك جراحا ظاهرة .
ها هو " حلاق أشبيلية " يقفز إلى المسرح وكأنما يعلو منبرا ! وها نحن نراه أول ما يبدو لنا فى أحد شوارع أشبيلية ، وقد علق فى ظهره قيثارته بشريط عريض من الحرير ؛ وها هو يغنى فى مرح وبيده قلم وورقة ، وها هو يوهم نفسه أنه قدر على كتابة أغنية يشيد فيها بالخمر والكسل الذين يقتسمان قلبه ؛ وها هو يعثر مصادفة بالكونت الماقيمتا أحد زبائنه القدماء فيقص عليه ما كان له من أحداث كصبى بصيدلية ، وكممثل مسرحى ، فيسأله الكونت : لماذا ترك مدريد ؟
فيجارو : هو طالعى السعيد - يا مولاى - قادنى إلى حيث ألقاك . لقد رأيت فى مدريد جمهورية الأدباء ، وقد أصبح بعضهم لبعض ذئبا ضاريا فسئمت الكتابة ، ومللت نفسى وضقت ذرعا بالآخرين ، وقد ثقلت ديونى وخف جيبى ، فاستقر رأيى على أن دخل " الموسى " أجدى على من يجد باطل أصيبه بقلمى . وتركت مدريد لأجوب متأملا قشتالة والمانش والأندلس ، يرحب بى قوم ويزج بى فى الشجن آخرون ، ونفسى أينما حلت تحلق فوق أحداث الحياة ، يلومنى قوم ويمتدحنى قوم ، أنعم بما أصيب من خير ، وأصبر على ما ينزل بى من محن ، ساخرا من الحمقى مناهضا الأشرار ، أضحك من بؤسى وأقص ذقن كل من ألقى ، حتى استقر بى المسير بأشبيلية ، حيث أنا الآن على أتم أهبة لأن أخدم مولاى فيما يسره أن يأمرنى به .
الكونت - ومن أين لك بتلك الفلسفة الباسمة ؟ فيجارو - من مصاحبة البؤس يا مولاى . ترانى أسارع إلى الضحك من كل شىء خشية أن تساقط منى الدموع .
واستعان الكونت بمواهب فيجارو ليصل إلى ما يريد من الزواج بروزين ؛ وكانت روزين بنتا جميلة تبناها شيخ فان ! وكان الشيخ يغار عليها كما يغار من ملابسه ؛ وفيجارو " حلاق صحة " أشبيلية ، فالسبيل أمامه ممهدة ليحمل إلى روزين رسائل الكونت . وفيجارو واسع الحيلة يستطيع
أن يسخر من الشيخ ومن الخدم ، وأن يحضر المأذون ويعقد الزواج ؛ وقد أصبح الكل ألعوبة فى يده يسخر منهم ويضحك الحاضرين ما اتسعت أشداقهم لضحك ، وهو فى كل ذلك كنسمات الريح تحس بها ولكن لا تستطيع لها لمسا . وإنه لأهون على من يريد أن يمسك بنغمة من قيثارة فيجارو عن أن يمسك بالرجل وما لشخصه من وجود محض أكثر مما لأغانيه التى تشيع فى الفضاء ، تراه فى المنزل وما تدرى من أين دخل ، تغلق الباب فيأتيك من النافذة - تحسبه بالداخل بينما هو فى الخارج . أليس هو فيجارو مضرب المثل فى الخفة والمهارة ؟ أليس هو فيجارو الذى يعرف كيف يستفيد لا من أغلاطه هو فحسب بل ومن أغلاط الآخرين ؟ وهل يضعف من نفوسنا غير الألم ، وهل يحد من حيلتنا غير الهموم التى لا نعرف كيف نسخر منها .
وجازى الكونت فيجارو على ما أسدى إليه من بد ، فأخذه خادما له ؛ ويعود بطلنا إلى الظهور على المسرح فى " زواج فيجارو " وقد صمم على الزواج من " سوزان " خادمة الكونت ، وكانت الوقاحة فى ذلك الحين قد بلغت بالأشراف مبلغا ما كان فيجارو ليستطيع معه صبرا . كانوا يدعون لأنفسهم حتى قضاء أول ليلة مع عرائس أتباعهم ، ومن يريدون من خدمهم ؛ وكانت سوزان من الجمال بحيث أغرت الكونت باستعمال هذا الحق . وجن جنون فيجارو ، فلاقى وقاحة الكونت بوقاحة ، وثار كل ما فى نفسه من حرارة ، وأحس بالطعنة توجه إلى صميم قلبه وقد اكتملت قواه بمرور الأيام ، فما له لا يستخدم السخرية التى لم تخنه يوما ما ؟
وتحركت بنفس زوجة الكونت تلك القوة الهائلة ، قوة الغيرة التى تكسب النساء جرأة ما لها من دافع ! واتفقت الزوجة مع خادمتها على أن تتنكرا ، كل فى زى الأخرى ، وأن تذهب الزوجة فى زى سوزان للقاء الكونت فى المكان والزمن المتفق عليهما ؛ وفيجارو فى
أثناء ذلك لا بنى عن السخرية والضحك وتدبير الخطط ، حتى يوقظ شكوك الكونت .
الكونت - لماذا يلوح على كل ما تفعل شىء من الالتواء ؟
فيجارو - لأن من يلتمس عيونا عند الغير يستطيع دائما أن يجد ما يريد .
الكونت - وسمعتك التى لا تساوى شيئا ؟ فيجارو - ولكنى أساوى أكثر من سمعتى ؟
وهل يعرف مولاى كثيرين من الأشراف ممن يستطيعون أن يدعوا ما أدعى الآن ؟
الكونت - كثيرا ما رأيتك تسير نحو النجاح فى الحياة ، ولكنك لا تسير أبدا فى طريق مستقيم !
فيجارو - وما ذنبى ، والطرق دائما مكتظة ؟ هذا يعدو ، وذاك يدفع ، يسقط من يسقط ويصل من يصل ، إننى لفى غنى عن هذا الزحام .
الكونت - بشىء من الذكاء والخلق تستطيع أن " تترقى فى الدواوين " .
فيجارو - شىء من الذكاء لأترقى ؟ لا شك يا مولاى أنك تسخر بكلامك هذا من ذكائى . إنما الترقى بالقيادة والزحف .
وهكذا يظل فيجارو يحاور الكونت ويداوره ، كما يحاور ويداور كل من يلقى حتى يكون يوم زواجه ، ويخيل إليه وقتا ما أن عروسه قد ذهبت للقاء الكونت ، فتختفى الابتسامة من شفتيه وينقطب جبينه ، وقلوب الحاضرين تحوطه جميعا بحرارتها وعطفها .
ها نحن تحت أشجار القسطل فى ظلام الليل ؛ وها هو فيجارو وحيدا مجهدا ، يقص علينا آلامه ويشكو ظلم الحياة بعد أن نفد صبره ، وأصابت السهام شغاف قلبه ؛ ها هو فيجارو يصيح غيرة على عروسه التى يحب .
لا . لا يا سيدى الكونت ، ألأنك سيد كبير تحسب أنك عبقرية فذة ؟ المولد والثراء والوجاهة الاجتماعية -
كل هذا يغرى بالكبرياء . ولكن ماذا فعلت لتنال كل تلك الخيرات ؟ لقد قاسيت آلام الولادة . أليس ذلك كل ما فعلت ؟ وأما أنا فيا ويل القضاء فيما فعل بى ! ولدت لأب لا أعرفه ، واختطفنى لصوص نشأت على ما ألفوا من خلق حتى سئمت الحياة معهم ، وحاولت أن أجد لى مهنة شريفة ، وطرقت كل باب وكل الأبواب موصدة أمامى . لم يستطع الناس احتقار الذكاء ، فانتقموا لعجزهم بالإساءة إلى من وهب ذلك الذكاء . . . . . . . وزج بى فى السجن حتى ملوا إطعام رجل مغمور مثلى ، فألقوا بى إلى الشارع ، وكاد اليأس يأتى على . ثم وجدت مركزا خاليا ، كان المطلوب كاتب حسابات فتقدمت إليه ، ولكنهم أعطوه لرقاص . فلم يبق لى إلا أن أسرق ، ولكن كيف السبيل وكل من حولى يسرق ما استطاع ؟ ولكنهم يطلبون إلى أن أكون أمينا ، وإذا فليس لى إلا أن أموت جوعا ...
وأخيرا أخذت حقيبتى ومواسى ، وخلفت الدخان ورائى يتغذى به الحمقى ، وأما الخجل فقد طرحته فى منتصف الطريق ، لأنه أثقل من أن يحمله من يمشى على أقدامه . وسرت أحلق من بلد إلى بلد ، وقد استطعت أخيرا أن أتخلص من هموم الحياة المادية .
لقد دفعت إلى الحياة بغير علم منى ، وسأغادرها دون أن أريد ، ولكنى نثرت على جوانب ما سلكت من سبلها الوعرة كل ما استطاع مرحى من أزهار .
وحزن الحاضرون لحزن فيجارو ، ولكن الموقف لا يلبس أن ينجلى ، فإذا زوجة الكونت هى التى ذهبت للقاء زوجها . وأما سوزان عروس فيجارو فتخف إلى زوجها ، والكل مغتبط بانتقام ذكاء فيجارو من وقاحة الكونت .
وتصفو النفوس ، ويظل فيجارو فى خدمة الكونت هو وسوزان ، وتتقدم بفيجارو السن ، ويخلص لعائلة سيده فى " الأم الجانية " وينجى تلك العائلة من العار ! ولكنه لم يعد فيجارو كما عهدناه ، لم يعد رمز ذلك الشعب
الأبى الذى ثار على ظلم وأبى أن يستسلم لوقاحة أولئك الأشراف المجرمين ؛ لم يعد ذلك الشجاع الساخر الذى يجالد الألم ويصمد لكل بؤس ؛ لم يعد ند مونتسكو ورسو وبدرو وفولتير وغيرهم ، ممن قوضوا بالسخرية اللاذعة نظاما كان لابد من زواله ، ليستطيع من وهبهم الله حرارة فى قلوبهم ، وذكاء فى رؤوسهم من أبناء الشعب ، أن يعيشوا فى جو حر أبى لا تستقيم الحياة بدونه .
ولهذا نقف من تصوير فيجارو مند هذا الحد لنتركه فى ذهن القارئ مثلا حيا لمبلغ ما يستطيع أن يسمو إليه الفرد من عزة نفس مهما اتضحت به حماقات الهيئة الاجتماعية الفاسدة التى حكم القضاء أن يعيش فيها .
فيجارو أنموذج بشرى خالد لأبناء الشعب الذين لا ينطلمن من كبريائهم ظلم ولا يعوزهم سلاح ؛ فإن لم يكن العنف فلتكن السخرية .
فيجارو رمز ثورة مجيدة ، حررت البشر من قيوده ، وفتحت أمامهم آفاقا من الحرية واحترام الانسان لأخيه الانسان ، لا نزال إلى اليوم نلمح فى جوانبها أجمل الأحلام . لقد فعل فيجارو فى الثورة الفرنسية ما لم يفعله الحديد والنار ، وتلك أسلحة الأيدى . وأما فيجارو فكان ولا يزال سلاح النفوس .
فيجارو روح خالدة لأنها كقوى الطبيعة التى لا تدفع . فيجارو من روح الله لأنه رمز الشعب ، ذلك الشعب الخامل المدكر المهضوم الحق ، ذلك الشعب الذى لا يريد أن يستجدى أحدا ، وإنما يطالب بحقوق لا بد أن ينالها يوما ما ، ذلك الشعب الذى يشكو من نظام فاسد لا بد أن يقيم على أنقاضه نظاما أصلح .
