علم من أعلام النقد الأدبي في العصر الحديث، وأديب من أدباء الطبقة الأولى. . ظهرت مقالاته الأدبية منذ سنوات، فلفتت إليه الأنظار والأفكار، وجمعت حوله القلوب والعقول ، وهيأت له مكانة عجز عن الوصول إليها كثير من الأدباء. قرأت له تعقيباته التي يوالي نشرها في الرسالة الزاهرة، فوجدته يمتاز في هذه التعقيبات بالنفاذ إلى صميم ما يعرض له من موضوعات الأدب، وشؤون الفكر، ونظريات الفن، ومن هناك يسلط أضواءه القوية على كل زاوية من زوايا الموضوع الذي يتناوله بالدراسة والنقد، فتبدو الأشياء سابحة في النور، بعد أن كانت مغلفة بالظلام، ويصبح ما كان بعيداً عن الإفهام، وقد صار أدنى إليها من كل شيء سواه. وسر هذه المقدرة أن الأستاذ لا يفكر بذهنه فحسب، ولكنه يفكر بقلبه أيضاً، وحين يستطيع القلب أن يفكر، فإنه ينفذ إلى حقائق الأشياء
ثم لقيت الأستاذ المعداوي، وتوطدت بيننا أواصر المودة وصلات الأخوة، فلم أجد فارقا جوهريا بين شخصيته في الأدب وشخصيته في الحياة، فهو في كليهما قوي الشخصية، يعرف لنفسها حظها من التفوق، ونصيبها من الامتياز، فلا يضعها إلا فيما يليق بها؛ ومن هنا يأتي اعتداده بنفسه، ذلك الاعتداد الذي لا يبلغ حد الغرور. وهو جريء في الحق، صريح في إبداء الرأي، لا يتأثر بصداقة الأصدقاء، ولا يتهيب سطوة ذوي الجاه والسلطان. ومواقفه في ذلك معروفة مشهورة. وهو متسامح مع الناس في شؤون الحياة، ولكنه لا يتسامح معهم في شؤون الفن والأدب. ومن هنا كان عنفه في مدافعة ما يراه خطأ
وباطلا من الآراء والأفكار، ومن هنا أيضاً كان اتهامه بأنه معول هدم في الحياة الأدبية، وليس عامل بناء! وقد دافع هو عن نفسه دفاعا قويا (هدم) به هذا الاتهام من أساسه، وذلك في
المقدمة الرائعة التي قدم بها لكتابه الأول (نماذج فنية من الأدب والنقد)
وهذا الكتاب يضم بين دفتيه طائفة من المقالات والدراسات الأدبية، منها تعقيباته المشهورة، بعد أن تناولها بشيء من التنقيح والتجويد، وبشيء من الحذف هنا، والزيادة هناك. وهو يعطينا صورة واضحة عن الأستاذ المعداوي كناقد أدبي وكدارس شخصيات، يملك موهبة فائقة، واستعداداً ممتازاً، واطلاعاً واسعاً منوعاً، ويملك فوق ذلك تجارب إنسانية مختلفة تعينه على إدراك الأعمال الأدبية إدراكا صحيحا، وعلى فهم الشخصيات الإنسانية فهما مباشراً، لأن هذه التجارب الإنسانية المختلفة تجعله أقدر على التجاوب مع أصحاب هذه الشخصيات، وتلك الأعمال، في تجاربهم الخاصة. والتجاوب النفسي شرط أصيل في إدراك الأعمال الأدبية وفي فهم الشخصيات الإنسانية على السواء، واللذين ينقصهم هذا التجاوب من النقاد يقفون بنقدهم عند المظاهر الواضحة دون أن يصلوا إلى البواعث النفسية. وقارئ هذا الكتاب يرى بوضوح أن صاحبه قد احتفل بكل موضوع من موضوعاته أتم احتفال، واحتشد له أكمل احتشاد حتى لم يدع زيادة لمستزيد، أو سؤالاً لمستفهم، ويرى كذلك أنه يتفوق على نفسه في بعض ما كتب، وذلك حين تتيح له طبيعة الموضوع أن يبدي كل ما لديه من موهبة، ويعرض كل ما يملك من استعداد، ثم هو يجد الأستاذ يفكر دائما بعمق وبوضوح وهذه ميزة، ويجده مع ذلك يملك المقدرة الفائقة على الإبانة والتوضيح، وهذه ميزة أخرى؛ لأن الإنسان قد يفكر بعمق في شأن من الشؤون، فإذا أراد أن يعبر عن أفكاره خانته وسائل التعبير؛ لأنه لا يملك منها الشيء الكثير
أما أسلوب الأستاذ، فإنه يمتاز بالدقة والتناسب والانسجام ونعني بالدقة اختيار الكلمات التي تحدد المعنى تحديداً تاماً، وذلك من ألزم اللوازم في النقد الأدبي؛ ونعني بالتناسب أنه يوجز في مواضع الإيجاز، ويطيل في مواضع الإطالة، فلا يخل بذلك،
ولا يمل بهذه. أما الانسجام فهو تلوين الأسلوب بحيث يلائم طبيعة الموضوع. ولهذا الموضوع موسيقا رائعة الوقع، شجية الرنين، تمتاز بالجلال في موضوعات النقد ودراسة الشخصيات وتتفرد بالجمال في موضوعات العاطفة والوجدان. وليس من شك في أن أسلوب الأستاذ المعداوي يعد من أجمل الأساليب الأدبية المعاصرة. وما كان الأسلوب الأدبي في أي عصر من العصور أجمل منه في هذا العصر الذي نعيش فيه
والخلاصة أن الأستاذ المعداوي ناقد ملهم، قوي الطبع، عظيم الموهبة، وافر الأداة، كامل الاستعداد، مخلص في عمله، مؤثر له، متوفر عليه، وهذه الصفات مجتمعة لا تكاد تتحقق الآن في أحد سواه
ولى بعد ذلك ملاحظات على بعض ما أورده الاستاذ في ثنايا كتابه . وهي فى الحقيقة ملاحظات يسيرة لا تفض من قيمة هذا العمل الأدنى العظيم :
يرى الأستاذ في مقاله (حول مشكلة الفن والقيود) أن العقل الواعي هو الذي يقول للشاعر أن الجو الشعري لهذه القصيدة يصلح له هذا الوزن دون ذاك، ونتلاءم معه هذه الموسيقا الداخلية دون تلك. . .
وهذا بالتجربة غير صحيح، لأن العقل الباطن هو الذي يدرك أولا الصلة بين الجو الشعري للقصيدة، والوزن الموسيقي الذي يصلح له، والموسيقا الداخلية التي تلائمه. . . ثم ينبعث منه بعد هذا الإدراك - ذلك الوزن الصالح، وتنبع منه هذه الموسيقا الملائمة. أما العقل الواعي فإنه (يلمس) بعد ذلك هذه الصلة
ومطلع القصيدة الذي يحدد وزنها الشعري، هو عند الشعراء الملهمين هدية من العقل الباطن لا دخل للعقل الظاهر فيها، ولا صلة له بها. . . أما النظامون، فإن القصيدة عندهم من مطلعها إلى مقطعها (وليدة) الذهن الواعي. . . الواعي للتقليد والمحاكاة والسرقات!
ويقول الأستاذ في مقاله (العبقرية والحرمان) : (إن العبقريات معادن. . بعضها يتوهج في ظلال النعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان)
والذي أراه أن العبقريات لا تتوهج ولا تتأجج إلا في سعير الحرمان الروحي، أما الترف والفاقة فإنهما مظهران خارجيان لا يؤثران في العبقريات إلا بمقدار ما يكون لهما من صلة بالحرمان الروحي. . وهذا الحرمان ألوان، فهناك الحرمان من احترام الناس، وهناك الحرمان من التمتع بالجمال، وهناك الحرمان من الحب - والحب أنواع -، إلى غير ذلك من ألوان هذا الحرمان. ولا يمكن لعبقرية من العبقريات أن تتوهج في ظلال ترف لا يكون معه حرمان روحي، أو تتأجج في رحاب فاقة لا تولد مثل هذا الحرمان
وعلى ضوء ذلك نستطيع أن ندرس العبقريات جميعها، فنجدها كلها من هذه الناحية معدنا واحداً، وليست معادن مختلفة
وقد كتب الأستاذ مقالا عن أبي العلاء كما يراه، بلغ فيه القمة حين أثبت أن القلق هو الظاهرة الكبرى في شخصية أبي العلاء، وليس التشاؤم كما ذهب إلى ذلك غيره من الباحثين، وحين أثبت أن سر هذا القلق هو ما كان يشكوه أبو العلاء من فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد، ثم رأى أن حرمان أبي العلاء من المرأة هو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله. . وذلك حق لا سرية فيه، ولكن الأستاذ لم يبين السبب الذي من أجله حرم أبو العلاء من المرأة، وذلك لازم لفهم هذه الشخصية النادرة. والذي أراه أن أبا العلاء هو المسئول عن حرمانه من المرأة؛ لأنه حين صدمته الحياة سخط عليها سخطا شديدا دفعه إلى المجاهرة بآرائه الشاذة عن النسل، وعن المراة التي هي مصدر هذا النسل وعرفت عنه هذه الآراء، واشتهر هو بها، وأصبحت من عناصر شخصيته، وخصائص فلسفته، فلم يستطع أن يتراجع عنها، ولم يستطع كذلك أن يجعلها بمعزل عن حياته، حرصاً منه على مذهبه الفكري من مهاجمة الأعداء المتربصين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنه كان عنيدا بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وهكذا حرم أبو العلاء نفسه من المرأة روحها وجسدها، فكبرت عقدته النفسية، وازداد معها قلقه النفسي، وتبرمه بالناس وبالحياة
فشخصية أبي العلاء فيما نراه شخصية مريضة، ظلت طول حياتها تعاني كبتا جنسيا وآخر نفسياً. وهي المسئولة عن هذين
الكبتين أكثر من غيرها. وهناك سؤال وجه إلى الأستاذ المعداوي عن هذين البيتين من شعر جميل:
وأني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب أمله
والسائل يعترض على قول جميل: لم أبصره الواشي لقرت بلابله، ويرى في ذلك تغييراً لطبيعة الواشي الذي لا تقر بلابله حين يرى العاشقين على هذه الحال من الطهر والبراءة، ولكن تقر هذه البلابل حين يراهما في حالة مريبة!
وقد أجاب الأستاذ عن هذا السؤال بشرح للبيتين يتمثل جوهره في قوله: (هذا الواشي الذي يعنيه جميل لم (يبصر) هذا الذي يقنع به دائماً من حبه لبثينة، ولو أبصر لما (تخيل. . لما تخيل أن كل محظور قد وقع في عالم المنظور)
وليس في هذا الكلام ما يدفع اعتراض السائل، وإنما يدفع اعتراضه أن نقول له أن الواشي هو في صميم طبيعته النفسية عاش مغلوب على أمره، أو حاسد يشقى بنعمة محسودة، وهو هنا في قول جميل عاشق لبثينة، وحاسد له؛ ومن شأن العاشق الحاسد أن (تقر بلابله) حين (يبصر) ما بين العاشق المحسود، ومعشوقه الذي يحسده عليه، فيعلم أنه شيء كالحرمان أن لم يكن أوجع منه، وأشد إيلاماً
ثم يبدي الأستاذ إعجابه بهذين البيتين من قصيدة بدوي الجبل في أبي العلاء:
من راح يحمل في جوانحه الضحى ... هانت عليه أشعة المصباح
وجلا المصون من الضمائر، فانتهى ... همس النفوس لضجة وصياح
مشاركا في هذا الإعجاب الأديب السوري المعروف الأستاذ روحي فيصل. فهل علم الأستاذان الناقدان أن البيت الثاني قد نظر صاحبه إلى هذا البيت من شعر المتنبي في صفة الجياد:
وتنصب للجرس الخفي سوامعا ... يخلن مناجاة الضمير تناديا
وهل علم الأستاذان الناقدان أن (الضجة والصياح) يثيران في نفس السامع صوراً مادية مبتذلة من شأنها أن تفسد الصورة الفنية التي تكون للكشف عن أسرار النفوس؟!
وكلمة أخيرة أحب أن أقولها قبل أن أدع القلم؛ هي أن هذا الكتاب يضم بين دفتيه من الآراء والأفكار والنظريات ما يعد اتجاهاً جديداً في النقد الأدبي، ولذلك أقترح على وزارة المعارف أن تجعله ضمن كتب المطالعة الأدبية المقررة على تلاميذ المدارس الثانوية. وفي يقيني أن هذا الكتاب وحده يعد أجدى على التلاميذ من كل الكتب المفروضة عليهم في البلاغة وتاريخ الأدب، هذه الكتب التي تفسد الأذواق، وتنحرف بالمواهب عن وجهها الصحيح
وأملي أن يستجيب وزير المعارف - وهو الرجل الأديب - لهذا الاقتراح، وأن يضعه موضع التنفيذ

