تناولنا في الفصل السابق ما يحيق بالحضارة الغربية من عوامل الانحدار ، وما نتبينه فيها من نذر افضى مثلها إلي هلاك الحضارات القديمة . وعرضنا لفعل هذه النذر في حضارة اليونان وحضارة الرومان وما يمكن ان يكون لها من أثر في حضارة الغرب . وأبنا أن نقص المواليد هو الخطر الأعظم على الامم وعلى الحضارات ، وان الحضارة الغربية بمنجي من هذا الخطر ، لان نزعته فيها ليست عامة ، ولآن معظم الدول المتحضرة تشجع النسل ولا تحد منه ثم نبهنا إلى الاضطهاد السياسي بوصفه مصدرا لخطر من اعظم الاخطار على الحضارة الغربية ، وانه يجتاح اليوم اوربا بأسرها ، وانه حري إذا استمر ان يخلف في البلاد المنكوبة به حطاما من اصحاب الشهوات والآنفس الذليلة . وهؤلاء
لا تنهض بهم حضارة ولا تقوي أكتافهم على حملها .
والكلام عن الحضارة الغربية لا يتم دون إشارة إلى أوزقالد شبنجلر الكاتب الألماني الشهير ، فقد ألف قبل الحرب العالمية الأخيرة كتابا تجاوز صيته ألمانيا وأحدث في نواحي العالم وفي الدوائر العلمية ضجة كبيرة . ويرى شبنجلر أن الحضارات تجري مجرى مقدرا ، فهي ترتفع وتقع بقدر محتوم لا دخل للسببية في قيامها وسقوطها ، ولا وزن حتى للأسباب الطبيعية في إحداث هذا القيام والسقوط ، وأن الحضارة الغربية بسبيل الهلاك كما هلك غيرها من قبل ، وأن عمرها لن يتجاوز سنة ٢٢٠٠ ميلادية .
وما يقول شبنجلر يعارضه بعض العلماء الألمان من مثال جروندل ، ويرون انه لا ينهض من الوجهة العلمية . ويقول شبنجلر عدا ما ذكرنا إن مصير الحضارات كمصير الكيانات العضوية وإن الحضارات نفسها كيانات عضوية ، والحضارة او الشعب من الشعوب كما يبدى معارضو شبنجلر لا يخضع كلاهما في تطوره لنفس القوانين التي يخضع لها الأفراد المحدودو الأعمار . والشعب المتحضر والإنسان الفرد ليسا في معرض التشبيه كالنبتة وخليتها ، ولكن كالغابة وشجرتها . فلكل شجرة بمفردها عمر محدود لا تتعداه في الأحوال الاستثنائية كثيرا . ولكن الغاية في مجموعها مزودة من الطبيعة بعناصر البقاء ، والأشجار تموت فرادي لتفسح للناشئ من الاشجار الطريق ، لكن الغابة تبقى عشرات آلاف السنين لا يدركها الفناء
والشعوب تماثل الأفراد في أنها تجتاز مراحل العمر المعروفة من شباب ورجولة وشيخوخة ، لكنها لا يخضع كالإفراد لقانون طبيعي مقدور . فليس الشعب الحضاري كيانا عضويا فردا يخضع لدورة فردية محتومة ، ولكنه وحدة منرئمة تجمع عددا كبيرا جدا من الكيانات العضوية المرتبطة بالتقاليد والأجيال من الناحيتين الذهنية والأحيائية ؛ فالشعب الحضاري في هذه الحالة بمثابة اسرة
كبيرة من الناس ، كما ان الغابة اسرة كبيرة من الأشجار والحضارة من ناحية المبدأ يمكن أن تدمر كما تدمر الأسرة والغابه. والزعم بأن هلاك الحضارة بعد زمن معين " قدر محتوم ، هو فرض يقوم على مجرد المقارنة ، إذ الحضارة باعتبارها اثرا للأحداث والوقائع الطبيعية تحمل في أساسها طابع البقاء . والأسباب الطبيعية التى تغلب عليها الصفة الأحيائية يمكن ان تمحو من الحضارة صفة البقاء وتؤدي بالتطور الحضاري إلي نهاية من عمل الطبيعة .
وثم وقائع تؤثر في الحضارات وتغير وجهها ، وتكسب التطور الأحيائي في الشعب الحضاري مظهرا جديدا ، مثل الدين والتقاليد والبيئة ونسج الموهوبين والشعوب على منوال السلف العظيم ؛ لكن النتيجة التي تترتب على الخطوط الأساسية الرئيسية المرسومة لهذا التطور الأحيائي تظل كما هي ولا تتحول . ذلك أن العامل الا كبر فيما يصحب الحضارات من مظاهر سامية إنما يرجع إلي كثرة الموجود من العباقرة والموهوبين . وعلي قدر هؤلاء الموهوبين والعباقرة يكون المظهر ساميا أو عاديا أو منحطا .
والحضارات تتعاقب عليها نزعتان أساسيتان تتكرران فيها ، وهما زخرة كتلة السكان بالموهوبين ثم اندثارهم منها لاختفاء العتاد الوراثي القيم الذي لا تقوم الحضارات بدونه . فحين تكون كتلة السكان غنية بالموهوبين تزخر الحضارة بجلائل الأعمال ، وبعكس ذلك تنتزع إلى الهبوط . ونري بوادر هذه الحالة حين تتسلط المدنية على اسلوب المعيشة ، فتصحب المدنية عندئذ اعمال تحثث الجذور الاحيائية وتأخذ الحضارة في الانهيار . وبلوغ المدنية الذروة قد كان إلى الآن آية بدء الحضارات في الانحطاط ؛ فهنا نجد الدوافع الطبيعية السليمة عدوا لها في المخ الذي تتم له الخلية حين يتحلل من الدم ، فيخلق الذكاء وقد خلق الذكاء القنبلة الذرية وكافة المهلكات فهدد الإنسان
باستئصال عتاده الاحيائي القيم . وحين تبلغ المدنية الذروة تأخذ الميول النفسية في الرجحان وتصبح لها اليد العليا ، ويأخذ المتعلمون بفقدون ذلك الشعور العميق بالدم والجيل والذرية ، وهو ما تحسه العناصر الحضارية الفتية ، فيعملون على تحديد النسل ويتخلون عن النوع شيئا فشيئا ، بدل ان يحرصوا عليه ويعملوا على حفظه ، أو يدعون للطبقات الدنيا القيام عنهم بهذه المهمة ، فيكون أن تنحط القيم وتتدهور الحضارة . وإذا غلب الأفراد الاعتبارات المادية وهانت عليهم امور الدم والجيل والذرية قداموا هذه المقدسات بالتفكير في المنفعة الذاتية دل ذلك على مرض شعبى متأصل وجذور واهنة مزعزعة . ومثل هذه الشعوب يذل فيها الدم ، ويطفي المخ . وفي غمرة المدنية التي يهون فيها الدم يقضي على الحضارات
على أنه من الخطأ الزعم بأن المدنية تكون حتما مظهرا من مظاهر الإنهيار أو نذيرا به لا سبيل إلى دفعه إذا هي بلغت الذروة والأوج . فإنه إن صح هذا على الحضارات الداللة فلأن شعبا من شعوبها لم يقطن إلي الأسباب ليعمل على تلافيها ، فكان ان تعجلهم القدر إلى مصيرهم فانساقوا في طريقي الهلاك . لكن الشعوب الحضارية اليوم ليست بهذا العمى ، فقد نورها العلم وهداها البحث إلى القوانين الأحيائية التي تسيطر على تطور الحضارة في الشعوب ، فتنبتت ما للخيرة الولادة من أهمية بالغة في مصير كل حضارة ، وأن السببية لا الحتم هي التي تفصل في مراحل ازدهار الحضارات وذبولها .
فهذه الأمم الحضارية الكبرى التى تعقد المؤتمرات اليوم ، وتصطنع الحلم وضبط النفس ، وتتردد في استخدام أدوات الهلاك مع خصومها وهي كثيرة في أيديها - هذه الأمم لابد أنها تدرك كل الإدراك ما يهدد الحضارة من اخطار إذا هي انساقت في خصوماتها المهلكة ، وجعلت للمخ المخرب السيطرة على كل شئ .
وإذا كانت المناورات السياسية والتحايل علي بلوغ الوطر من العقبات التي تعرقل السعي إلي إقرار السلام ، فإنه من الأمور الملحوظة أن السلام الذي يسعي إلي إقراره ليس هو السلام الدائم ، فالمجد القوي ما يزال رائد للدول العظمي وحافزها إلي التوسع ، فإذا أغفلنا الأمم المستضعفة التي يجري التوسع على حسابها وفي أراضيها ومرافقها أو ما يسمونه مناطق النفوذ ، فلا نستطيع أن نغض الطرف عن التصادم الذي يقع بين الدول العظمي على هذه المناطق ، فإن الصراع اليوم على أشده بين فريقي الدول المنتصرة من جرائها . وأحد هذين الفريقين يستطيع أن يتصرف بلا رقيب ولا حسيب من شعوبه ، فلا اعتراض على تصرفه بين تلك الشعوب ولا لومة لأئم والفريق الآخر يملك من الطاقة المهلكة ما يستطيع أن يقضي به على كل معارضة أو مناهضة ، لكنه يخشى شعوبه ولا يملك في هذه الآونة حملها على إرادته . وقد خرجت جميع الشعوب المتحاربة من الحرب منهوكة دامية كدابة الضحية ، لكن منها ما يزال يفرض إرادته ومنها ما هو سليب الإرادة . وهذا هو حال الشعوب الأنجلو سكسونية الديمقراطية وغيرها مما لا يملك في تسيير دفة أموره دفعا ولا جذبا . وتريد الشعوب الأنجلوسكسونية أن تحتفظ بما في أيديها وتطلب لها دولها المزيد ، لكنها تريد أن تصل إلي هذا بالسياسة ويأقل التكاليف . وقد سمعت هذه الشعوب إلي إيجاد هيئة عالمية تملك الفصل في شئون العالم فأوجدتها بعد سعى حثيث مخلص ؛ ذلك أنها لا تخشي من وجود مثل هذه الهيئة شيئا ، لأن جلها يؤازرها . لكن عمل هذه الهيئة قد شل بحق الفيتو أو النقض . ولا قيمة لقرار تتخذه إذا استطاعت دولة عظمي أن تنقضه . والروح الذي أملي هذا النص ليس روح الإذعان للحق ولكن روج التمسك بأن القوة فوق الحق . ويسند هذا الروح شيء لعب إلي الآن في معاملات الدول دورا عظيما ، وكانت نتيجته وبالأ على المستضعفين ونعني بذلك الشئ الهيبة
فالهيبة عذر الدولة القوية من عدم الرجوع عن الخطأ ، وسلاح تشهره على الضعيف لحمله على الإذعان . وقد بصطدم هذا السلاح بصلابة الحق بعد صراع عنيف فثقله ، وتحمل شاهره نفسه على الإذعان ، ولكن بعد أن يجرب وسائله وهي كثيرة ، وبعد أن يمتحن الضعيف امتحانا قاسيا في الاستمساك بالحق . وقد ساد هذا الروح إلى الآن ولم تنجح الهيئة العالمية الجديدة في مغالية التيارات الخفية التي تعرقل مساعيها ؛ فما يزال الدفع والجذب من هذه الناحية أو تلك يطوح بالأمم المستضعفة ذات اليمين وذات الشمال دون أن تعينها هذه الهيئة على التخلص منه . وما زال هذا الفريق من الدول العظمي أو ذاك يقيم نفسه تارة مدافعا عن حق بعينه وتارة يعتدي على نفس هذا الحق ، فلا يكون لصاحب الحق في الحالين أمل ما في استرداده أو تحيي فيه الآمال على غير طائل ؛ إذ يتنازعه الفريقان وبتجاذبانه والأمر هذا كما ألمنا أمر النفوذ ومناطقه لا أمر الحق في ذاته .
فاذا كانت هذه حال الدول العظمي بين بعضها وبعض ومع الأمم المستضعفة فالسلام الذي يمكن أن يتمخض منها سلام مريب لا تطير فوقه حمامة ، ولكن ينعق غراب . ولا بد من ان يتغير وجه المدنية الجهم قبل ان تتحول وجهة النظر إلي السلام ويرجي له الدوام ولعل الدوام هذه كلمة نائية في قاموس الواقع والطبيعة . ولا دائم إلا الله .

