الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 316الرجوع إلى "الرسالة"

نهاية الكون، تعذر الامتداد فى الظواهر وصعوبة الحكم على مستقبل الزمن

Share

اطلعت في العدد الأخير من الرسالة على ما وجهه إلى الأستاذ نصيف المنقبادى وعلى أسئلته الخاصة بتطبيق نظرية بولتزمان Boltzmann في الحكم على مستقبل الكون ، وقد تقبعت مقالاته القيمة التي نشرها هذا العام في الرسالة ، وتتبعت منذ أكثر من عام مقالاته على صفحات الأهرام التي ناقش فيها الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدى . ولو وصفنا الأستاذ فيمن. تعرفهم من الكتاب المصريين بأنه من الذين عرفوا بالجرأة في كتاباتهم لما ابتعدنا عن الصواب كثيراً ، إذ لا شك في أنه من هؤلاء المطبوعين على حرية الفكر ، ولا خلاف في أن المثل كتاباته فائدة كبرى يجنها النشء ويفيد منها المطلعون

للموضوع الذي يسألني عنه مساس بفلسفة كل علم إذ يجب انتفريق بين ما هو جائز وبين ما هو محتوم - قلنا إن التفسير البولتزمانى للمبدأ الثاني للترموديناميكا يدلنا على نوع من الموت الحرارى للكون ، ولكن لم نقل إلى أى حد يجوز لنا الامتداد والتوفل Extrapolation في قبول هذه النتائج في مستقبل الأحقاب والمصور

يحدثني عن ملايين من السنين التى خلت ويتساءل

لماذا لم يحدث الاقتراب من السكون المرتقب وفق بولتزمان ، وقد مضى على الخليقة ملايين ملايين السنين . ومن ذا الذي قال إن هذه الملايين الخالية كافية للوصول بالكون إلى الحالة التي يدل عليها تفكير بولتزمان والتي تحتمها الزيادة الحتمية والمستمرة للأنترولى » ؟

وهب أننا وصلنا إلى نوع من السكون النسي من ذا الذي قال إن هذه هى أول مرة يصل فيها الكون إلى الشكون والموت ؟ ومن ذا الذى يشير أفهامنا على أن الحركة لا تستأنف من جديد بعوامل لا نعرفها تمت إلى الأصل في معرفة الخليفة وجود الكون ؟

هنا نقطة حساسة أعتقد أن آراء نا تفترق عندها ، فإنك تحميل إلى تفسير كل شيء بعلمنا الميكانيكي ومعرفتنا المحدودة لظواهر الطبيعة ، وأميل من ناحيتى إلى اعتبار ما نعرفه لا شيء بجانب المجهول. ومع ذلك فإن جل ما نعرفه من الظواهر الطبيعية ظواهر دورية ، ألا يكون الكون في مجموعه ، الكون المحدود بخير ريمان أو حيز لوباتشفسكي أو ما يشاء العلماء من الحيزات ، ظاهرة دورية وأننا الآن في مرحلة من مراحل الانتقال والدوران ؟ يمعنى أنه ليس ثمة بداية للكون وليس نمة نهاية له

في نشرة للعالم ( سان » R. Sen. 1 اطلعت عليها حديثاً في محاضر الجمعية الملكية الإنجليزية يناقش فيها هذا الرياضي الطبيعي بعض النظريات الخاصة بمبدأ الكون وما وصل إليه الخيز

من تمدد وما يحدث الآن فيه من ابتعاد كل العوالم بعضها عن بعض - هذه النشرات وأمثالها التي يناقش العلماء فيها «كون إينشتاين » أو «كون دى ستير » وهما كونان معروفان لدى العلماء توحى إلينا بهذه الفكرة الدورية للكون

لم يقل ( سان ) بتسير قوانينا الطبيعية في مستقبل الزمن ، ولكن كل شيء يجوز أن يتغير ما دمنا نعتبر أحقاباً طويلة من الزمن مثل الأحقاب التي تتكلم عنها

على أن الزمن نفسه يحمل في طياته عدم التعيين عند ما تتوغل فيه إلى حد كبير . ثمة فارق كبير في معرفة فترات الزمن التي اعتدناها ومعرفة الأحقاب الطويلة التي لا نجزم بمعرفتها أو تحديدها؛ فإذا تحدثنا عن عمر الإنسان أو عن الزين الذي مر من الثورة الفرنسية حتى يومنا هذا ، أو عن عمر أحد الأفيال الإفريقية الكبيرة ، وينها ما عاش بلا شك قبل الثورة الفرنسية ، فإنني أفهم لذلك معناه ، وأفهم نوع الدقة المطلوبة فيه ، حتى إذا تكلمنا الزمن الذى مى منذ أن كتب هو مر إلياذته المشهورة أو منذ أن بني خوفو هرمه أو تحت الأقدمون ( أبو الهول » فإن هذاء وذاك ممكن أن يكون أمره معروفاً ، أما إذا أردنا أن نتكلم عن عمر الرجل الأول أو الزمن الذي يمر لمدرر المجرة دورة كاملة أو الزمن الذى خلا منذ ظهير الحياة على الأرض فإن شيئاً من الاحتمال يدخل في تقديرنا لهذه العصور الطويلة . وما بالنا لو أردنا بعد ذلك أن تتكلم عن عمر عنصر التوريوم أوعمر النجوم أو السوالم أو التوغل حتى مبدأ الخليقة ، فإننا لا نستطيع الجزم بمقدار هذه المدد الطويلة ، ولا نستطيع أن تستوعب معنى الزمن إذا نظرنا إليها .

هذا في ناحية الأحقاب الطويلة ، وإننا نحمد نفس الصعوبة إذا نظرنا إلى الطرف الآخر واعتبرنا الفترات القصيرة . فإذا تحدثنا عن فترة الزمن التي تقدر بثانية أو فترة تردد الموجات اللاسلكية الطويلة منها والقصيرة أو فترة حياة ( الراديوم C ) فإن حديثنا عنها يختلف عن فترة تردد الموجات المصاحبة Ondes Associées

للبروتون فى ميكانيكية « دى بروى » الموجية أو ربما عن فترات أقصر من ذلك يحدثنا عنها العلماء في مستقبل العمر .

ومع ذلك فإن هناك عاملاً آخر يتصل بسر الوجود وما يحدث فيه من تطورات . وكنت لا أرغب أن أتعرض بالبحث عنه لولا أن أسئلة الأستاذ تحتم على اللجوء إلى هذا الطريق . ولعلى أوفق في أن أشرح هذا العامل الخارجي ، وأن أكشف عن رأيي في المثال الآتي :

إن من الصعب أن نضع على الأرض عصا طويلة مدينة الطرف في وضع رأسى وتتركها على طرفها هذا وفي هذا الوضع دون أن تقع العصا على الأرض . ولو أننا وفقنا بصعوبة إلى ذلك فإنه لن تمضى لحظة حتى تقع العصا على الأرض وفق اتجاه لا نستطيع تحديده. ولو أننا تساءلنا عن مساق ( مصير) العصا وهي في وضعها الرأسي لا تستند إلى شيء لقررنا أنها حتما واقعة على الأرض : لنفترض بعد ذلك أن هناك كائناً حياً يرفع العصا طوراً وبدعها تقع على الأرض تارة أخرى

تمة مجموعتان واحتمالان لمواضع العصا وما يخبئه لها القدر : المجموعة الأولى تتكون من العصا والأرض . هنا نحتم أنها تقع على الأرض وأنها لن تقوم رأسية من تلقاء نفسها كما كانت

والمجموعة الثانية تتكون من العصا والأرض والإنسان اللاعب بهما . هنا تقع العصا ولكنها تعود رأسية كما كانت ويصح أن يتكرر ذلك ما دام الكائن موجوداً

ولو افترضنا أننا مخلوقات نعيش على سطح العصا، وأن فترة اجالنا محدودة جداً بنسبة الزمن الذي تقع فيه عسانا هذه فإننا الآن في مرحلة نشاهدها وهى تقع ، ولكننا لا تستطيع أن نجزم بأنها لا تقوم بناكرة أخرى، فقد يكون هناك لاعب ماهر يلعب بالعصا ولا نعرف من لعبه شيئاً ، وقد تكون هذه إحدى المرات العديدة التي وقعت العصا فيها على الأرض

فلا تخشى أيها الكاتب على الكواكب انقطاع دورانها وعلى

النجوم وقوف حركتها وعلى الكهرباء انعدامها وعلى الجاذبية نهايتها وعلى الأرض فناءها وعلى الأحياء موتها، فإننا عاجزون عن أن نعرف الأصل في كل هذا وأن تستوعب للكون مبدأ وللحياة نهاية، لهذا لا يجوز لنا دائماً أن نقول إن الذى ترك العصا تميل وتفع يستطيع أن يعيدها سيرتها الأولى ، كما نستطيع أن ندرك أن الأرض والعصا واللاعب مجموعة تختلف عن الأرض والعصا بلا لاعب

حدثت القارئ فيما تحدثت به إليه عن نملة تجولت في سرادق فسيح فى ليلة عزاء ، وقلت إنها فهمت أن الدنيا كلها سرادق تضيئه أنوار ونادل يسقى قهوة وفقيه يرتل الآيات ، وقلت إنها بهذا أخطأت صورة الدنيا ، كذلك نحن والكون وما يحدث له في المستقبل البعيد من تطورات ؛ فقد تعلمنا كثيراً وزادت معارفنا ولكننا فضلاً عن ذلك قد تعلمنا شيئاً أجدى وهو أننا لا نعرف عن الأصل فى الكون والمستقبل في التطور أكثر من معارف النملة التي لم تفارق السرادق والتي لا تعرف ما بخارجه

فلتكن مثلى لا تجادل في الغيب بهذه السهولة ولا تتحدث عن الحياة والمادة والروح بهذه الطريقة من التوكيد التي تحدثت بها . إن الشك أجدر بالعلماء عند ما ينزلون إلى ميدان أصل الوجود ويحاولون معرفة سر الخليقة . لذلك عند ما ذكرت أني أفترق من التفاحة التى نأكلها ومن المحبرة التي أملى منها هذه الأسطر كان عندى إيمان قوى بما أقول ، وإن لم يكن لدى ولا عند غيرى الدليل العلمي للتدليل على ذلك يما لا يقبل الجدل

ومع ذلك وبعد الذي ذكرت أرجو ألا تنسى أيها الأخ أننى من الذين يؤمنون بالعلم التجريبي فيميرونه كل تقدير ولا يؤمنون كثيراً بالعلم النظرى فلا يولونه من الوقت إلا اليسير ، وإنني لا ألجأ إلى التعمق في العلم التخميني Sciences Speculatives إلا بالقدر الذى أعتبره طريقاً لمران الذهن والتعود على الفهم . فإذا رأيتنى لجأت إلى النظريات تارة فإنما أشرح للقارئ طرائق

التفكير الحديث وأستعرض بإخلاص قصة الخليقة وفق أحدث ما يقوله العلماء وما يتراءى للمفكرين

أما إذا خاطبتنى كرجل تخرج من المعامل ، ويود أن يقضى من العمر فيها ، فإننى ممن لا يجيزون البت في مستقبل الكون بهذه السهولة ، وعلى هذه الصورة . وعلى ذلك فلست ممن يؤمنون بالبولتزمانية إن صح أن نعطى التفسيرات الحرارية الأخيرة هذه التسمية إلا بقدر أنها صحيحة في مرحلة انتقالية للكون هي المرحلة التي نجتازها ؛ وهذه المرحلة قد يتبعها مراحل لا تكون البولتزمانية موضوع الحديث

وبعد فترانى أصبو إلى الطرف الإيجابي من المسائل والظواهر عامة . لقد درست على كوتون ، وتتلمذت على موتون ، وصاقبتهما عشرة أعوام أو يزيد – ولقد كانا بنائيين ينظران إلى المسائل ويسائلان أنفسهما : هل من وقائع حقيقية وراء ما ترى أو ما نقول ؟ وإلى أضرب لك مثلاً :

عندما فصل مليكان ) ( Millikan ) جسماً واحداً يحمل ألكتروناً حراً واحداً (٢) كنا واثقين بعمله . فقد كانت نتائجه التجريبية تحتم شحنة الألكترون بالقدر الذي أعطاه مليكان ما دام منطق الحساب البسيط صحيحاً . هذا الحساب الذي تعلمناه كانا بالمدارس -- وبالمدارس الابتدائية على الخصوص - فقد كان الحادث عند مليكان عندما استطاع أن يرى هذا الجسيم واقفاً بلا حراك بين كفتى المكثف الكهربائي حادثاً خاصاً بقاعدة حسابية بسيطة معروفة لدى طلبة المدارس الابتدائية ، وهي قاعدة القاسم المشترك الأعظم .

عندما نتساءل عن العدد الذى يقسم الأعداد  : 14 ،21،28،

٤٢،٣٥ ، فإن الجواب معروف . فالعدد ٧ يقسم كل هذه الأعداد . ولقد كانت تجارب مليكان المعروفة التي عين فيها شحنة الألكترون لا تخرج في فكرتها الأساسية عن العملية السابقة بالذات . لذلك كان إيماننا بها بقدر يقيدنا في جواب المسألة الحسابية السابقة (١) ولكن عندما نتحدث أيها الأخ عن ملايين ملايين السنين فإن للقوانين اعتباراً آخر ، وللظواهر تطورات تجهلها

وبعد الذي ذكرت كم أكون سعيداً لو استوثقت يوماً أنك تنظر إلى المسائل نظرنا إليها وتعالج الأمور معالجتنا لها - قد أكون مخطئاً فيما ذهبت إليه ، ولكن هكذا تكونت وهكذا درشت . ولا تصفنى إن سمحت بعد اليوم بالعالم المدقق والطبيعي المحقق ، ولا تذكرنى كما تذكر علماء السوريون وأساتذتهم الأعلام فإن هذا شرف لم أنله ومرتبة لم أرتفع إليها . ولا بد من أن يتسع العمر كثيراً لتطالع عشرات ماط العناء ، ولا بد من أن تمر سنون عديدة لنستوعب الكثير مما لا نعرف

وفي الختام أشكر لك كلماتك السابقات التي لا أستحقها ، وأعدك وقراء الرسالة بأنني سأتم كلامى عن الذرة والألكترون وسأخص تجارب مليكان وبيران عن الألكترون بشيء من العناية . فإذا ما انتهيت من هذا فسأتناول أربعة موضوعات رئيسية تتصل كلها بالتفكير الحديث ومستقبل البشر : الكمة أى الكوانتا ( لمؤسسها العالم الكبير بلانك ، وربما تكلمت عن علاقتها بالقضاء والقدر . والنسبية « لإينشتاين » . والموجية للعالم الشاب ( دى بروى » . والتفتت الذرى لكل هؤلاء الشبان من أرجاء المعمورة الذين يعملون داخل المختبرات على تقدمنا والذين يواصلون الليل بالنهار ليضعوا حجراً جديداً وأساسياً في من تقبل المعرفة .

وترانى سعيداً لأرقب ملاحظاتك وأرد على أسئلتك وأشترك في خواطرك وأتعرف إليك مع أصدق التحيات.

اشترك في نشرتنا البريدية