الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 385الرجوع إلى "الثقافة"

نهاية دولة

Share

كانت الأيام تمر سراعاً وصلاح الدين قلق لا يهدأ ، مضطرب لا يستكين ، فقد أهمه حديث والده ورسالة نور الدين التي أمره فيها بقطع الخطبة للخليفة الفاطمي العاضد ، وإقامتها للخليفة العباسي ؛ إنه زيد ان ينفذ وصية مولاه نور الدين ، ولكن الحوادث والمؤامرات التي مرت أمام ناظريه منذ ولي الوزارة جعلته يتريث قليلا حتى يعد عدته ، ويتخذ للانقلاب الجديد أهبته ؛ فقد كان للفاطميين اتباع منبثون في أنحاء مصر ، وكانت هناك بقية من أمراء الجيش الفاطمي تدين للعاضد بالولاء ، وكان جنود الجيش من السودانيين والأرمن يعتبرون الدولة دولتهم ، ويرون فناءهم في فنائها ، وكانت ثثور الدولة وأسوارها وحصونها مهدمة خربة لا تقف أمام مهاجم ، ولا تصد عدوان معتد ؛ وكان المذهب الفاطمي أخيراً هو المذهب الرسمي ، يلقن

الدعاة مبادئه في المساجد .       استعرض صلاح الدين هذه الحالة كلها أمام عينيه ، ورأى بثاقب نظره انه يجب عليه أولا أن يقضي على هذه المظاهر ، فإذا وفق كان من اليسير عليه بعد ذلك ان يخطو الخطوة الأخيرة فيقطع الخطبة للعاضد .

وكان أخوف ما يخافه صلاح الدين أن يجدد أمراء الجيش وجنوده الثورة ، أو أن يتصلوا بالقرمج في الشام يستعينون بهم ضده ، ولهذا بدا يتفقد سور القاهرة فوجده خربا مهدماً ، وقد غدا كالطريق العامة لا ترد داخلا ، ولا  تمنع خارجا ، فاستدعي مولاه بهاء الدين قراقوش ، ووكل إليه أمر ترميمة وتجديده ، وكانت لبهاء الدين إرادة من حديد ، وعزمة صنديد ، لجمع العمال والأسري والمساجين ووكل بهم الجنود الأشداء يعملون ليل نهار ، وهو يتنقل بينهم لا يهدأ ولا بنى، فلم ينته شهران حتى كان السور يحيط بالقاهرة والفسطاط عالياً متيناً ، سليم الجدران ،

قوي البنيان ، تعمر أبراجه وقلاعه حاميات من جنوده الأكراد والأتراك .

وذهب صلاح الدين بعد هذا إلي الإسكندرية ، فخرج أهلوها لمقابلته والترحاب به ، فكان لحفاوتهم أجمل الأثر في نفسه ؛ وجاشت في نفسه احاسيس كثيرة متباينة وهو يمر في شوارعها ، وموكبه يشق الجموع المتراصة الفرحة برؤيته ، فقد استعاد في تلك اللحظة الأيام السوداء التي قضاها محاصراً في الإسكندرية إبان قدمته الثانية إلي مصر ، وتذكر الصعاب التي نائاها ، والمشاق التي تحملها ، وهو يحارب الفرنج في البحر ، وجيوش الملك مرمى والوزير شاور في البر ، ولولا ما لقيه من معونة أهالي الإسكندرية لقضي عليه وعلى جيشه وقتذاك ؛ وكان صلاح الدين ممن يذكرون الجميل ، فأكرم أهل الإسكندرية في زيارته هذه ونثر عليهم الدراهم والدنانير ، وأنعم على أعيانهم حتى انطلقت ألسنة الجميع تدعو له بالنصر والظفر ؛ وكان صلاح الدين منذ حوصر في ذلك الثغر اعرف الناس بقلاعه وحصونه وأسواره ، ونقط ضعفها ، وما أصابها من إهمال أو وهن ، ولذلك قضي أيامه في الإسكندرية بشرف علي عمارة أسوارها وأبراجها وأبدانها حتى اطمأن إلي قوتها ثم عاد إلي القاهرة .

ولم يقم صلاح الدين في القاهرة إلا أياماً ربما أعدت قطع السفن الجديدة التي أمر بإنشائها في دار الصناعة ، ثم حملت تلك الأجزاء على الجمال ، وتقدمها بفرقة من جيشه حتى وصل إلى مدينة أبلة ، وكانت بها قلعة حصينة للفرنج يهددون منها الحدود الشرقية لمصر ، والملاحة في البحر الأحمر .

وركبت السفن ، وأنزلت إلي البحر ، وشحنث بالمقاتلة وهاجم القلعة برًا وبحراً حتي خضعت ، وأسر جميع من فيها ، فأمر بترميمها ، وملأها بالأشداء من رجاله ، وعاد إلي القاهرة والأسري في ركابه .

وما إن إنتهي من تحصين العاصمة ، وتأمين الثغور والحدود حتى التفت إلي النواحي الدينية ، وكانت سياسته ترمي إلي الغل من حدة المذهب الشيعي ، والحد من قوته بإفساح المجال للمذهب السنى ، ونشره ، بين الناس ، وتثفيفهم على أساسه ، وكانت لدعاة المذهب الشيعي ودعاة دعانه مراكز قوية في مساجد الفسطاط والقاهرة ، فوجد صلاح الدين انه من الخرق في الرأي ان يقتحم على هؤلاء الدعاة معاقلهم في تلك المساجد خوفا من ان تثور المنازعات بين أتباع المذهبين ، فيؤدي هذا إلي اضطراب الحالة في مصر .

ولكنه اقتدي بمولاه نور الدين ، ورأي ان ينشيء في مصر المدارس ، ولم تكن مصر تعرفها من قبل ، وبدأ بسجن المعونة القريب من مسجد عمرو بالفسطاط فأحاله مدرسة للشافعية ، ثم اتبعه بدار الغزل فأحالها مدرسة المالكية ، وحذا حذوه أقرباؤه فاشتري ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهشاء منازل المعز بالفسطاط ، وجعلها مدرسة للشافعية ، واوقفت الأوقاف الكثيرة للصرف على تلك المدارس ، وأجزت العطايا لمدرسيها وفقهائها وطلابها ، فأقبل الناس عليها ، وبدأوا يتغضون عن المذهب الشيعي وأشياخه .

وثنى صلاح الدين بعد هذا فألغي شعار الإسماعيلية ، وأمر بإسقاط " حي على خير العمل " من الأذان ؛ وكانت هذه التغييرات تحدث في بطء وكياسة ، فلم يحس بها عامة الناس ، ومن أحس بها كان يستنكرها أولا ، ثم لا نجد صدى لاستنكاره فيلوذ بالصمت ، والحياة محرف الجميع في تيارها ، وتشغلهم بشؤونها .

ولم يبق أمام صلاح الدين إلا رجال القصر أعوانه ، فبدأ بأمراء الجيش الفاطمي فعزل لهم ، واسترد منهم اقطاعاتهم ، وأبعدهم عن منازتهم وقصورهم ، واسكنها قواده وجنوده ، ثم أمر أخاه نوراتشاه فتتبع الجنود السودانيين في الصعيد حتى شتتهم ، فلاذوا بأذيال الفرار ، ولجأوا إلي بلاد

النوبة والسودان .    وعند ذلك بدأ صلاح الدين بقص جناحي العاضد ، وبسلبه قواه المادية ، فقطع عنه إقطاعاته ، واستولي على جميع ما كان بيده من البلاد ، ثم استولي على القصور الفاطمية ووكل بها ويمن فيها قائده الجبار بهاء الدين قراقوش ، فتولى حراستها بعين لا تغفل ، فكان لا يخرج منها خارج ، ولا يدخل إليها داخل إلا بإذنه .

وكان العاضد يرقب هذه التغييرات كلها دهشا متعجباً ، فقد خيب صلاح الدين ظنه : أنه  اختاره من بين القواد جميعاً ليكون وزيره لأنه رآه شاباً صغير السن ، فحسب أنه يكون في يده أداة طيعة ، فإذا به قد فاق جميع الوزراء السابقين دهاء ومكراً ، وقوة وجبروتاً ، لقد كان له في عهد الوزراء السابقين أثارة من قوة ، وها هو صلاح الدين قد قضى عليها ، وتركه سجيناً في قصر ، لا يستطيع حراكاً إلا والعيون ترقبه من كل مكان ؛ لقد كان له في الماضي جيش وقواد ، وها هو صلاح الدين قد أبعد منهم من أبعد وشتت من شتت ، وأصبح الجبش جيشه ، كل قواده وجنده من الأكراد والاتراك . لقد كان له منذ ولي الحكم ماله الخاص ، وهو سلاح نافع ، وها هو صلاح الدين قد سلبه هذا السلاح الأخير ، فلم يبق له من مظاهر عزه الغابرة إلا فرس واحدة ، وحتي هذه الفرس الأخيرة لم يشأ صلاح الدين أن يتركها له ، فأرسل بالأمس يطلبها منه ، فأجابه العاضد إلي طالبته ، ولم يتمالك نفسه بعد خروج الرسول ، وقد طغت عليه الآلام ، وألمت به الأحزان ، فانفجر باكياً ، وظل على ذلك ساعة من الزمن وهو في يستانه ، ثم أحس قدوم قادم ، فمسح دموعه ، وانقلب إلي غرفته ، وأقفلها عليه ، وقد أحس المرض يدب في جسمه دبيباً .

ونام العاضد في تلك الليلة نوما متقطعاً مخللته الأشباح والأحلام المزعجة ، واستيقظ عند بزوغ الفجر وهو قلق

مضطرب منقبض الصدر ، فقد رأي فيما يري النائم أنه ذهب إلي قبة الإمام الشافعي ، فصلي وجلس ، وإذا بعقرب مخيفة قد سعت إليه فلدغته .

قام العاضد من سريره فتوضأ وصلى الفجر ، وأحضر المصحف ، ولبث يقرأ فيه ساعة من الزمن ، فلما هدأت نفسه قليلا ، استدعي أحد رجال قصره ، و أرسله إلى قبة الشافعي ، وأمره أن يحضر من يجده بها من الرجال .

ذهب الرسول إلي القبة ، فلم يجد بها إلا رجلا صوفياً غريباً هو الشيخ نجم الدين الخبوشاني فأحضره معه ، وسأله العاضد عن حاله و أخباره ، غير أنه وحده رجلا فقيراً يأبى حاله عن شر ، فأكرمه وصرفه .

وكان صلاح الدين يتخذ طريقه هذه إلي هدفه على هدي من بصيرة نفاذة ، وتجربة حكيمة ؛ غير ان نور الدين كان تأثراً لايهدأ ، فهو يرسل إليه الرسل بعد الرسل يستعجلونه الضربة القاضية على هذه الدولة المحتضرة ، وهو يبدي الأعذار ، وبستمهل حتي يستكمل عدته ، ويهيئ جميع الظروف ؛ فلما احس أن الظروف قد اصبحت مواتية جمع مجلسا من أمراء جيشه وقواده ، وفقهاء السنة ومتصوفيها ، وعرض عليهم رسائل نورالدين ، وسألهم الشورة والنصيحة ، فتردد البعض ، وابدوا مخاوفهم ان يثور الإسماعيلية وأنصارهم ، وتحمس البعض الآخر للفكرة وأبدوها ؛ ومن عجب ان أشد الناس مهاجمة للعاضد ، وطعنا فيه ، وذما له ، وتحبيذا لقطع الخطبة باسمه كان هو ذلك المتصوف مجم الدين الخبوشاني .

وكثر القول ، وطال النقاش ، وانتهي الرأي أخيراً إلي أن يترك صلاح الدين تنفيذ الخطة لأبيه نجم الدين ، حتى إذا فشلت مدارك هو الأمر ، واعتذر بأن القوم أقدموا دون علمه وموافقته .

وفي يوم الجمعة الاول من المحرم سنة ٥٦٧ ه ذهب مجم الدين أبووب ، ومعه جماعة من أصحابه ، وأمراء دولته

إلى المسجد الجامع بالفسطاط ، واستدعي إليه خطيب المسجد فقال له :      - إن أنت ذكرت هذا المقيم بالقصر في خطبتك ضربت عنقك :      فشده الخطيب وعجب ، ثم سأل :      - فلمن أخطب إذاً ؟      فقال نجم الدين :     - لمولانا الخليفة العباسي المستقضي بالله .

وصمد الخطيب المنبر ، وقد استولت عليه الحيرة ، وقال منه الذعر ؛ إنه إن أطاع أمر نجم الدين فلربما ثار به المصلون وقضوا عليه ؛ وإن هو لم يطعه عرض نفسه للقتل ؛ وألقى الرجل خطبته مضطربا مرتبكا على غير عادته ، وهو لا يدري ما يقول ، وأخيرا هداء الموقف الشائك إلي أن دعا " للأئمة المهديين " ثم للسلطان الملك الناصر صلاح الدين ، ونزل فصلي بالناس وهو لا يكاد يتمالك نفسه من الخوف ، فلما انفض الناس دعاء إليه نجم الدين وسأله :

- لم تفعل كما أمرت ؟     فقال الخطيب معتذرا :    - إنني لم أعرف اسم المستفضي ولا نعوته ، فإذا علمتها دعوت له في الجمعة القادمة إن شاء الله .       وآثر نجم الدين العفو ، وخرج فجمع في داره جماعة من الفقهاء ، وطلب إليهم أن يختاروا من بينهم واحداً يتولى الخطبة للخليفة العباسي في الجمعة القادمة ، فتردد البعض ، وتخوف البعض ؟ واخيراً تقدم منهم رجل موصلي كفيف البصر اسمه " الأمير العالم " ، وقال :        - أنا لها أيها الأمير .        وفرح به نجم الدين ، فصافحه وقال :

- بارك الله فيك أيها الشيخ .      وتناهت هذه الأخبار إلي العاضد في مرضه ، فأدرك أن الأمر جد لا هزل ، وان هذه نهاية النهاية ، فأشتد به المرض ، وكانت تعتريه نوبات من الغيبوية ، فإذا أفاق جمع إليه أهله وأولاده ، وطلق يقبلهم ، ويضمهم إليه ، وعبراته تنهمر من عينيه . لقد آمن أن دولته ودولة الفاطميين قد انتهت ، ولكنه اصبح يخشى على أهه و أولاده عوادي الزمن ، فماذا هو فاعل من أجلهم ؟ ! ليس في الأسرة رجل كبير رشيد يوصيه بهم خيرا ، ولم يبق من أمراء الدولة وقوادها أحد يعهد بهم إليه ، وإخيرا لجأ إلى  ما يلجأ إليه المضطر ، فأرسل يستدعي إليه صلاح الدين .

وحضر صلاح الدين ، واستمع إلي وصية العاضد إليه تخرج في كلمات متهالكة متقطعة أن يرعي أهله واولاده من بعده ، وتأثر صلاح الدين لقوله ؛ وبكي لبكائه ، ووعده خيرا وانصرف .

     واشتدت وطأة المرض على العاضد حتي قام لبعض حاجته فعثر وسقط ، و أرسل أهله في طلب طبيب القصر " ابن السديد " فتلكأ واعتذر ، وعلم العاضد بإعتذاره ، فاشتد به الألم ، وقال :

   " لقد انفض على الجميع حتي الطبيب ، لم يبق في الدنيا إذا خير. . ." ورفع خاتما مسموما في إصبعه كان قد أعده لمثل هذا اليوم ، ومصه مرتين ، فاسترخت اعضاؤه ، وظل طول الليل يتلوي من الألم .

   وأشرقت شمس يوم عاشوراء علي أصوات النعي ، وبكاء الباكين ، وصراخ الصارخات والنادبات ، بعلنون جميعاً الملأ كله موت خليفة ، ونهاية دولة : دولة سمت مصر في عهدها إلى أعلي مراتب العز والمجد ، وأسمى طبقات الرفاهية والسؤدد .

اشترك في نشرتنا البريدية