مما قطنت إليه الفلسفة في العصر الحديث أن الوجود كله في حركة مستمرة ، وفي تطور دائم ؛ فكل شئ فيه ، كبر أو صغر ، لا يكف لحظة واحدة عن التحرك . وقد تكون حركته ظاهرة للعيان ، وقد تخفى فيبدو ثابتا جامدا على الرغم من أن الحركة الدائبة تدب في كل جزء من جزئياته .
والحركة المتطورة تشمل الكائنات الحية كما تشمل الأشياء ، وتتغلغل إلي المعنوات كما نتناول الماديات ، فكل ما في الوجود لا يبقي لحظة على حال ، ولا يقر له أبدا قرار . والتطور العام لا يقع على غير هدى ، ولكنه يسير على نظام أميط اليوم عنه اللئام ، ويخضع لنواميس كشف العلم عن كنهها .
ولا تعنى هذه العجالة مما تقدم إلا بما يطرأ على النهضات الأدبية من تطور . فكل نهضة أدبية تسير في ركب التطور
العام ، وهي وإن بدت ذات كيان مستقل ، مرتبطة وثيق الارتباط بنهضة مجتمعها الفكرية العامة . وقد يحسبها المتعجلون في الحكم ظاهرة لا تعليل لظهورها ، ولكنها متلونة وفق الظروف التي طرأت على مجتمعها ، مسايرة له في تبدله وتطوره . وهي لا تزدهر وتأتلق على يد عباقرة من الأدباء طلعوا على مجتمعهم كما تطلع النيرات ، لا يدري أحد من أين طلعت . وكيف انتلقت ، ولكن هؤلاء العباقرة يظهرون حين تتهيأ الظروف لظهورهم . ومن الخطأ أن نظهم شواذ خرجوا على غير غرار مجتمعهم . إذ هم في الواقع طلائع المجتمع المتسلق إلى قمة نهضته .
ومن خصائص التطور الفكري أن كل حلقة منه غير منفصلة عما سبقها أو ما يلحق بها من حلقات ، فهي وليدة الحلقة السابقة عليها ، وهي أساس الحلقة التالية لها ، فالتطور الفكري أشبه بالبناء يقوم كل حجر فيه على حجر يترتيب
ونظام ، وهو لا يرتفع ويكتمل إلا برصف طبقة من أحجاره فوق طبقة ، فلا تنحرف واحدة منها عن غيرها . ولا تقف طبقة منها معلقة في الهواء .
على أن النهضات الفكرية قد تتعرض لأعاصير تهب عليها فتعرقل سيرها وقتا ما ، أو تخرجها إلى حين عن خط سيرها ، أو تصيبها بنكسة قد تطول أزمانا ، وقد تقصر فلا تبث أن تنقشع ، ولكن ذلك لا يؤثر في تطور الإنسانية العام .
ولكن هذه النظريات التي تقررها لا تتكشف ، وتنفض عنها اللبس إلا إذا انزلناها إلى مجال التطبيق فالواقع هو المحك الذي يرينا الجوهر من الزيف . وسنتخذ نهضتنا الثقافية الحديثة موضوعا للتطبيق ، وسنحاول فهم اتجاهاتها على ضوء تلك النظريات .
لاحت تباشير النهضة الأدبية المصرية الحديثة خلال النصف الثاني من القرن المنصرم . وقد ساعدت على بعثها ظروف لا يتسع المقام لشرح تفاصيلها . ولكننا نطمع إليها فنقول : إن غزو الفرنسيين لمصر في مستهل القرن الماضي ، ثم تولى محمد على باشا حكم مصر عقب ذلك وعمله على وصل حبل الحركة الفكرية التى غرس الفرنسيون بذورها أثناء حملتهم ، ساعدا علي تغيير الحالتين الاقتصادية والاجتماعية وتهيئة ظروف جديدة صالحة لتطور العقلية المصرية حينذاك تطورا سريعا لم يلبث أن أثمر ، وأسفر كما قلنا عن النهضة الأدبية التي انبثق فجرها بعد ذلك بنصف قرن .
وعلي الرغم من قيام نهضتنا الأدبية على أساس ما اقتبسه محمد علي باشا ومن تلاه من حكام مصر ، من أساليب العيش الأوربية ، مما أدى إلى نحور في العقلية المصرية ، فإن الأدباء الذين ظهروا إبان تلك النهضة لم يستطيعوا أن ينبشوا عن ماضهم ، فقد ظلت جذور أدبهم منشبثة بالأدب العربي القديم . وعلي الرغم من توفيقهم في التعبير عن خوالج مجتمعهم وتصوير مشكلاته وآماله ، فإنهم يوقفوا توفيقا ملحوظا في التخلص من قيود الأساليب القديمة .
وقد ظلت النهضة الأدبية تتطور وتتخلص شيئا فشيئا من ربقة الأساليب العتيقة ، وتسترد بعض حريتها في التعبير عن خوالجها بأساليب أقل تعقيدا ، وأكثر أصالة وجدة ، ولكنها ظنت مع ذلك عربية صميمة في اتجاهات تفكيرها وذوقها الفني . وكنا نود أن نضرب الأمثال توضيحا لما نقول وتأييدا ، لولا ضيق المقام ، وتعللنا بأن الأمر في غير حاجة إلى توضيح وتأييد .
ولكن تمادينا في اقتباس أساليب الحياة الأجنبية ، وإحاطة أنفسنا بمظاهرها ، أخذ يحور لون أدبنا وينقله من طور إلى طور . فلم تعد أعمالنا الأدبية في الأيام الأخيرة صورة صادقة لمجتمعنا الذي ظلت أكثريته شرقية بحتة . ولم تعد تتأثر بخوالج تلك الأكثرية وتؤثر فيها . ولكنها اتجهت إلي الأدب الأوربي ، تنقل منه ، أو تحتذيه أو تحاكيه . ومما مكن لهذا الانتقال الحاد من حال إلى حال ، فرض تعليم اللغة الإنجليزية على تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية ، وتبصيرهم ببعض التحف الأدبية لتلك اللغة ، فاستزاد الموهوبون من تلك الألوان الجديدة ، وظلوا يغترفون منها . ثم جاء جيل الأدباء الجديد علما بالآداب الأوربية ، متأثرا بها ، مستخفا بتراث أدبه القديم ، متخذا من ألوان الأدب الجديدة مثالا يحتذ به ، ومن أساتذة ذلك الأدب أئمة يهتدي بهم .
بدأت نهضتنا الحديثة إذا محلية ، وثيقة الارتباط بالأدب العربي القديم ، ثم تلا ذلك جيل من الأدباء المخضرمين ، أخذوا يشرئبون بعد أن نهلوا من معين الأدب العربي ، إلى الأدب الغربي ، فجاء أدبهم وسطا بين الأدبين ، أو حلقة تطور طبيعي من حال إلى حال . هؤلاء هم شيوخ أدبائنا المعاصرين .
أما أدباء الشباب فقد أولوا تراث الأدب العربي ظهورهم ، وأرادوا أن يصلوا إلى الجديد وثبة واحدة ، فانحرفوا بذلك عن طريق التطور الطبيعي ، ومادت الأرض تحت أقدامهم فتعذر عليهم أن يأتوا بالجديد المرتجى . لقد
بهرهم الأدب الغربي ، فصغر في نظرهم أدب قومهم ، وحاولوا أن يقطعوا صلتهم به ويصوغوا أدبأ على غرار اللون الأجنبي الذي بهرهم ، ولما كان قطع الصلة بالماضي مخالف سنة التطور ، فقد عجزوا عن أن يأتوا لنا بأدب مصري أصيل ، يعبر عن خوالج مصر ويعكس صورتها ، ولم يستطيعوا إلا أن يأتوا بصور مشوهة ، هي تقليد غير موفق لما أعجبوا به .
وليس معي هذا أنا لا نري التطلع إلي الجديد ، أو أننا نري التشبث بالقديم والوقوف عنده . فإن ذلك يخالف أيضا سنة التطور ، ولسنا نجد بين النهضات الأدبية في الأمم المختلفة نهضة واحدة لم تتأثر بغيرها ولم تقتبس منها . ولكن ذلك التأثر وذلك الاقتباس لا يفيدان الفائدة المرجوة إلا إذا وقفا عند الحد الذي لا يطغيان فيه على كيان الأدب الذي يستعين بهما ، ولا يزحزحانه عن طريق تطوره الطبيعي .
وقد ترتب على طغيان سيل الأدب الأجنبي الجديد الذي أحال ادبنا المعاصر إلى أدب احتذاه ومحاكاة ، أن تخاذل أصحاب الملكات الأصيلة من أدبائنا ، وتواروا عن العيان . ذلك لأن أدبهم الطبيعي السليم لم يستطع أن يثبت لذلك السبل الجديد ، ويرقي إلي مستوي آيات الأدب الأوربي الذي قطع الشطر الاكبر من مراحل تطوره ، وكاد يصل إلى ذروته . ولذلك صار هذا العصر جديرا أن يسمى بحق عصر التقليد.
فالأديب الذي حصل قسطا من الثقافة الأوربية يشعر بمعجزه من مطاولة الأدب الدخيل الممتاز ولا يجد يدا حين يمسك بالقلم من الاقتباس منه أو محاكاته . والأديب الذي اقتصر على دراسة الأدب العربي عاد في غمرة بأسه وعجزه عن إبداع ادب يلائم عصره إلي تراثه القديم يغترف منه أو يقتبس . . ونظرة سريعة إلى مئات الكتب التي صدرت في السنوات العشر الأخيرة كفيلة بدعم وجهة نظرنا هذه .
نخلص من هذا إلى أن التطور الأدبي في مصر انحرف
انحرافا فجائيا حادا بعد أن قطع شوطا في الطريق الطبيعي فخرج ذلك عن خط سيره ، وتعلق بلون جديد أجنبى من الأدب لا يمت إليه بصلة طبيعية ، وقد ضل بذلك سواء السبيل ، وعجز عن إبداع أدب مصري أصيل يصل إلى مستوي الأدب الأجنبي الذي يتطلع إليه ، ولا يرجع عجزه إلى عيب طبيعى فيه . أو إلى ميزات ذاتية يتحلي بها أدباء أوربا ، أو إلى صفات تنفرد بها لغاتهم ، ولكنه يرجع إلى أن الأدب الأوربي سار قدما في مراحل طبيعية للتطور ، واستفاد من خبرة بعد خبرة ، وتجويد إثر تجويد ، حتى وصل إلى القمة السامقة التي وصل إليها .
وإذا كان طموح أدبائنا الشباب قد حملهم على أن يقفزوا قفزة شاطحة في سبيل التقدم ، فاختل توازنهم ، وترنحوا وسقطوا في الطريق ، فليس معني هذا أن قضي الأمر ، وضاع أدبنا كل الضياع ، فلا خير فيه ولا رجاء . فإن سنة التطور لن تلبث أن تعيد الأمور إلى نصابها . وتصل ما كاد ينقطع من حبل نهضتنا ، وتثبت أقدام من ترنحوا وألتوت أقدامهم تحتهم .
سيحتاز أدباؤنا الشباب مرحلة التقليد حين يتزودون من الأدب الأوربي بالقدر الذي بوسع أفق تفكيرهم . ويثقفهم تثقيفا يمكنهم من الشعور بذاتهم واسترداد استقلالهم ؟ فإذا ما هضموا ألوان ذلك الأدب اكتملت لهم شخصية مستقلة ، وحين تكتمل تلك الشخصية ينتهى عهد التقليد ويبدأ عهد التجديد ؛ ويستحيل أن يتم ذلك طفرة واحدة .
سبعبر الأدباء حينذاك بأسلوبهم الخاص خوالجهم . وستكون كتابات الصادقين الممتازين منهم صورا صادقة ممتازة لآلام أمنهم وأمالها ، لأن الذي اكتملت شخصيته لا يقلد .
سيتصل عندئذ ما انفصل من حبل التطور ، وسيشعر أدباؤنا بما حولهم ، فيعيشون في حاضرهم ويعبرون عنه . ويتصلون بماضيهم ليزدادوا علما بالحاضر ، ويسيرون قدما وفق سنة التطور .
