الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 793الرجوع إلى "الرسالة"

هاأنذا:

Share

اشتهر بين المتأدبين أن الضمير المسبوق بها التنبيه يخبر عنه  وجوباً باسم الإشارة الذي يناسبه، ومثاله قول الله تعالى:    (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا)  وقوله جل وعلا:    (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم) . وقول الشاعر:

إن الفتى من يقول هاأنذا ... ليس الفتى من يقول: كان أبي

وقد غلا كثير منهم في تطبيق هذا الحكم غلواً كثيراً؛  مع تخلفه في مواطن شتى من كلام البلغاء والعلماء الذين يقتدي  برأيهم؛ كالعلامة   (ابن هشام)  فإنه أورد هذه القاعدة في   (المغنى)   ولكنه جريا وراء فطرته فرقَّ بين ما يجب فيه ذلك وما لا يجب

فقال في مقدمة الكتاب قوله (وهاأنا بائح بما أسررته)  بدون  أن يخبر باسم الإشارة؛ وقال     (البحتري)   وهو من هو في  صفاء الأسلوب :

ها هو الشيب لائماً فأفيقي ... واتركيه إن كان غير مفيق

ولا يمكن وقوع     (البحتري)  في هذا الخطأ إن كان الحكم  السابق مطرداً في جميع الأحوال؛ والحق أن النحاة لم يوجبوه  ولكن كثيراً من الواقفين على شاطئ العلوم لا يفرقون بين  أسلوب وأسلوب، ولا يتعمقون المباحث العلمية حتى يقفوا على  أسرارها، فيقضوا في الأمور على بينة، وإني - ولا أزكي  نفسي - أستطيع أن أعرض على القارئ ما أراه سبباً لتخلف  هذه القاعدة في بعض الحالات؛ يبدو لي أن الأساليب المقرونة  بالتحدي هي التي لا تخلو من أسماء الإشارة؛ فالآيتان الكريمتان  فيهما إنكار شديد، وعتاب لاذع للمؤمنين الذين لا يزالون  يجادلون عن المنافقين وأمثالهم، والذين لا يزالون يوادونهم  ويحبونهم مع استبانة البغضاء في أفواههم، وتماديهم في معاندة  الإسلام والكيد للمسلمين؛ ولما كان هذا اللوم شديداً على نفوس  المؤمنين ومظنة لمحاولة التنصل منه حسن الإخبار باسم الإشارة  زيادة في تصوير موجب اللوم حتى كأنه مصور محس لا يمكن  التنصل منه؛ وكذلك الشأن في البيت فإن معنى التحدي واضح  فيه كل الوضوح.   (وزيادة في الفائدة يحسن الإشارة إلى أن  بعض المفسرين يعتبر اسم الإشارة في الآيتين منادى مع حذف  حرف النداء) . ثم نرجع إلى صميم البحث فنقول: أما إذا خلا  الكلام من معنى التحدي فقد حسن   (أو جاز على الأقل)  تجريد  الكلام من اسم الإشارة؛ وبهذا يكون (البحتري)  على العهد  به في تفهم مقتضى الحال، والإتيان بما يطابقه من الكلام،  فيكون كلامه جارياً على سجيته: من الجودة والرصانة، كما  كانت الآيتان الكريمتان في الذروة من البلاغة لأنهما طابقتا  كل المطابقة مقتضى الحال.

(الإسكندرية)

اشترك في نشرتنا البريدية