الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 386الرجوع إلى "الثقافة"

هجرة العرب إلى أندونسيا

Share

لم تسكن هجرات عرب جنوب شبه الجزيرة ( حضرموت ) إلى خارج بلادهم ظاهرة تاريخية بسيطة يمكن نسبتها إلي مجرد ظهور الإسلام ، وإنما هي قديمة ، فقد كونوا جالية كبيرة في الهند في جدروزيا الواقعة بين جبل كربيلا ومصب نهر السند ، وبنوا هناك مدنا وأنشأوا اسطولا تجاريا يغدو ويروح بين الهند وجنوب الجزيرة بأصناف المتاجر وانواع البضائع . يقول المسيو جيان Documents Sur L’llistoile Le في كتابه Guilain Geoqraphie et Le Commerce de L"   afrique Orientale .

قبض العرب منذ أقدم العصور على زمام التجارة البحرية وبخاصة في الشرق فكانت سفنهم تجري في المحيط

الهندي وبخاصة فيما بين بلادهم والهند التي كانت لهم جالية كبيرة على سواحلها قرب نهر السند ، هي التي سماها الهنود " Arabltoe " ولما أرسل اسكندر المقدوني قائد أسطوله تيارك Nearque لاستكشاف بحر الهند وجد بسواحل جدروزيا آثارا دالة على نفوذ العرب من مدن عربية وأساطيل عربية ، وكان الريان الذي أرشدهم في ذلك البحر عربيا .

أما أسباب هجراتهم فترجع إلي عوامل طبيعية في مناخ الجزيرة وأحوالها الجغرافية العامة . فمن المعروف أن مناخ جنوب شبه الجزيرة من النوع الصحراوي الحار ، وليس للأمطار هناك مواعيد مضمونة ، فهي من النوع " الطارئ " غير المنتظم . وفي القرون السابقة لظهور الإسلام اعترت بلاد العرب " ازمات مناخية " شح فيها المطر تدريجا من بداية القرن السادس الميلادي وازدادت ندرته فافتقرت الحياة النباتية افتقارا شديدا ، ولا زال

معظم تلك الأصقاع يعاني متاعب الجفاف حتى الآن . والأدلة الآثرية توضح تغير الأحوال المناخية وحلول الجفاف التدريجي . ففي حضر موت وظفار واليمن آبار كثيرة بعضها محفور في سفوح التلال ، وهي في الوقت الحاضر جافة أو يكاد يفيض منها الماء ، وكانت فياضة في العصور القديمة . ولما كانت مياه الآبار إنما ترجع في الأصل إلي مياه الأمطار الساقطة والتي تنتشربها الأرض فإن انخفاض مستوي مياه تلك الآبار دليل قاطع على قلة الأمطار في الوقت الحاضر عنها في أيام السبائيين والحميريين .

وفي اليمن ( في منطقة الحروف)  وحضر موت (في إقليم وادي عمد ) مدائن كثيرة ترجع إلي الحضارات المعينية والسبائية والحميرية وهي الآن كلها في مناطق جافة

وهناك حقول منتشرة قاحلة وأحواض واسعة ماحلة كانت ترويها الأمطار إما بالمباشرة وإما بواسطة مشروعات الري كالسدود التي بناها القدماء

وهناك صهاريج عظيمة خلفها السبائيون والحميريون كصهريج عدن الذي يسع ثلاثين مليون جالون ، وهي تقع في ربوات مرتفعة تتلقي المياه ويستقي منها الناس طوال العام ، وفي الوقت الحاضر لا يحدث أن تمتلئ تلك الصهاريج ولا يتجمع فيها غير قليل من الماء لا يلبث أن يتغير لونه وطعمه . وهناك ضرب اخر من الأدلة يستخلص مما خلفه القدماء من كتابات وقصص تدل على أن الأمطار في العصر الجاهلي كانت اغزر وأكثر انتظاما منها الآن . فاليونان والرومان تحدثوا عن وفرة مياه حضرموت واخضرار مناظرها الطبيعية وعن بساتين الفواكه وحقول التوابل ونباتات البخور التى تصدر من هناك إلى موانئ اليمن وإلى اسواق الشرق الأدني وبلاد الرومان ، وكثير من هذه التوابل والبخور لا تنبت الآن إلا في الجهات الموسمية او في شرق افريقيا حيث الأمطار أغزر بكثير فيها عن

نخرج من هذا كله بأن هجرات عرب جنوب الجزيرة ( الحضارمة ) إنما ترجع إلى الظروف الحغرافية وتغير المناخ وطول الجفاف التدريجي . ولما ظهر الإسلام في القرن السابع الميلادي كان الحضارمة في اشد الحاجة إلى الهجرة طلبا للعيش والحياة ، فاندفعوا وحدانا وجماعات إلى الهند ثم إلى جزائر الشرق الأقصى إلى أندونسيا الخضراء ، وهناك استقر بهم الترحال . على ان جماعات منهم نزحوا إلي شرق افريقيا وإلى مصر والأندلس ، ولكن عدد هؤلاء قليل .

وتعتبر هجرتهم إلي أندونسيا أعظم ظاهرة تاريخية في حياتهم الجديدة . وكان نزولهم اولا في ثغور سومطرا وجاوه ومدوره ، ومن هناك اندفعوا إلى الجزائر الأخري . وكانوا لايلوون على شيء سوى الأخذ والعطاء . ولقد أثبتوا أنهم من أنشط الشعوب في الشئون الاقتصادية وأقدرهم على طرق التجارة ، فسرعان ما كونوا لهم مركزا اقتصاديا عظيما . ملكوا زمام التجارة في البر والبحر ، فكان لهم أكثر من اربعين سفينة تجوب بحار جاوه ومكاسر والصين . وساعدهم على ذلك صفاء قلوب الاندونسيين وكرم ضياهم وحسن معاملتهم ، الأمر الذي شجعهم على البقاء هناك والاستقرار حتي اصبحوا يعتبرون أندونسيا وطنا ثانيا لهم .

ولقد قام العرب بأعظم نصيب في نشر الإسلام حتى تلاشت البوذية والبرهمية . وتزوج العرب من الأندونسيين ، فتوطدت بذلك صلات القراية وقويت روابط الصداقة وبالرغم من الجهود التي بذلتها الحكومة الهولندية لإضعاف العلاقات بين العرب والأندنسين فان العرب نالوا بفضل إخوانهم الأندونسيهن السيادة الاجتماعية والأدبية . وليس من شك ان هذا يرجع ايضا إلى فضل الاسلام . يقول المسيو ببير غونو  Pierre Gonnaud مؤلف كتاب الاستعمار الهولندي لجاوه : لم تكن العلاقات التجارية مهما كثرت وانتشرت تكفي لنيل العرب هذه السيادة الاجتماعية والأدبية على جزائر كثيرة الخيرات ، بل كانت معهم قوة

أعظم من هذه وهي قوة العقيدة المحمدية التي هي من الجلاء والبساطة بحيث يفهمها الخاص والعام .

واليوم أصبحت للعرب جالية كبيرة لا يقل تعدادها عن مائة ألف نسمة معظمهم مواليد من اميات أندونسيات ، وهؤلاء المواليد اصبحوا يعتبرون اندونسيا وطننا لهم ولا برضون بها بديلا ، يشعرون نحوها بما يشعر به الاندونسيون من الحب والولاء والوفاء . وقبل الحرب العالمية الثاني أنشأوا لهم جمعية ( P .A. I ) أى مواليد عرب اندونسيا والأسباب التي دفعتهم لتكوين هذه الجمعية هي :

١ - تصدع مركز العرب الاقتصادي والأدبي والاجتماعي ٢ - عجز المدارس العربية عن تخريج شبان مثقفين ثقافة عالية ٣ - عجز العرب عن مجاراة الهولنديين والصينيين في ميادين الحياة لتفوق هؤلاء عليهم في العلم والعمل و أما أغراض الجمعية فهي : ١ - توجيه أبناء العرب إلي المعاهد العلمية الحكومية . ٢ - مطالبة الحكومة منحهم كل الحقوق التي يتمتع بها الأندونسيون . ٣ - حصر جهودهم لإصلاح شئونهم وتقوية مركزهم بأندونسيا دون غيرها . ٤ - توطيد العلاقات وتقوية الصلات بينهم وبين إخوانهم الأندونسبين .

وقد نجحوا في أغراضهم هذه إلى حد كبير ، فقد ألحق كثير من العرب أبناءهم وبناتهم بالمدارس الحكومية ، وقووا صلاتهم بالوطنيين ، وأصبحت اللغة الماليزية لغتهم الرسمية في مجتمعاتهم وخطبهم وصحفهم وإذا كان هناك خلاف بين هؤلاء ، المواليد وبين آبائهم من مواليد حضر موت ، إذ يري هؤلاء أنهم انسلخوا من العروبة ، أو أنهم يحاولون الانسلاخ منها ، فإن هذا الخلاف نتيجة طبيعية لكل حركة فكرية جديدة مهما كانت على جانب عظيم من الحق

والصلاح . وإذا كان لآبائنا بعض الحق فيما رأوا في أبنائهم من الغلو والتطرف على حد تعبيرهم ، فإننا نحن المواليد معذورون إذا حصرنا كل جهودنا في إصلاح شئوننا ، وتوطيد مركزنا بأدونسيا ، ولم تفكر في شئ اسمه حضرموت ، لاسيما وعلاقاتنا اليوم باندواسيا اصبحت أقوى وأكثر من علاقاتنا بحضرموت . ونحن وطدنا أنفسنا ونوينا البقاء في أندونسيا مدى الحياة ، فمصيرنا قررناه ورسمناه ، وهو البقاء في أندونسيا ، ولا نريد بها بديلا . فيجب والحالة هذه ان نعمل ونحصر جهودنا لبناء مستقبلنا في أندونسيا كشعب بريد ان يعيش معززا مكرما .

إني لا ادعو إلي الانسلاخ عن العروبة والإاندماج في شعب آخر ، فعاداتنا العربية محفوظة في قرارة نفوسنا ، ولن تزول منا مدى الحياة ، ولكن اتجاهنا جميعا إلي المدارس العربية ، وانكبابنا على دراسة كتب النحو والفقه أضعف مركزنا الاقتصادي والأدبى ، حتى اصبحنا عاجزين كل العجز عن مجاراة الأوساط المحيطة بنا في العلم والعمل . إذا فالغلو أو التطرف الذي يتهمنا به الآباء لا نجد له حظا من الصحة ، وغدا سيعلم الذين يرموننا بالغلو أننا على حق .

ولعله من دواعي السرور أن حرارة ذلك الخلاف أخذت تهبط وتهدأ الأعصاب المضطربة والعواطف الثائرة في كل من الفريقين ومما يجب الاشارة إليه ان العرب سواء مواليد اندونسيا او الذين ولدوا في حضرموت انضموا إلي الأندونسيين في نضالهم وجهادهم لنيل الحرية والاستقلال ، وقاتلوا معهم جنبا إلى جنب ضد أولئك الذين أرادوا تحطيم الجمهورية الأندونسية الفتية . وليس من شك ان هذا أقل ما يجب ان يعمله العرب لأندونسيا والأندونسيين . وها هو رئيس وزراء أندونسيا صرح في بيان أعلنه للملأ منذ بضعة شهور بمساواة عرب أندونسيا لإخوانهم الأندونسيين في كل الحقوق والواجبات .

اشترك في نشرتنا البريدية