لما رزقنى الله ابنا ، حلقت - كغالبية الأمهات - فى فضاء الطموح ، وأخذت أرسم خططا طريفة لتنشئته ! ووجدت ذاتى أرملة وأم طفل صغير ، وعرفت أن مستقبله بين يدى . .
إن زمرة الأبناء الذين تعنى الأمهات الأرامل بتنشئتهم يكونون متأنثين ، ومدللين لأقصى حدود الدلال ، لأنهم لا ينعمون بسطوة الأب ، ولا يتكون فى خلقهم ذلك التوازن المنيع ، الذى يعصمهم من التطرف ويفهم مغبة الإفراط والتفريط ، ويفقدون الرسوخ الذى يمنحه عطف الأب ، المقرون بحزم الرجل ، وحنان الأم الممتزج بتبصير المرأة ، ويفتقرون إلى الاعتدال الذى هو وليد الأبوة والأمومة المتعاونتين على تربيته ، واللتين تمدان نحوه أيديهما فى حنان ، طامحة بعطايا المحبة والرحمة ، والاهتمام والنصح والتدبير والرعاية . ولقد شعرت بالمسئولية المضاعفة فى تنشئة ابنى ، لأنى أردت أن أقوم نحوه بالواجبات التى يؤديها له الأب والأم معا ، ورغبت فى أن لا يكون لحساسية جنسى ومرونتها ، أقل تأثير على قوة خلقه ، وبذلك واجهت أعظم مسئولية فى حياتى ، وهدأت أتعهد ، بأسلوب طريف ، ونبذت كل قواعد التربية المألوفة ، ولم أرد أن أفيده بما أنقله من خصائص وراثية وقيود عصبية ، واتبعت وحى العقل الذى يتملص من ضغط العاطفة ، ليستوى فى أفق التبصر والعرفان ويتخرج فى رحاب الاستقلال والتصرف الحر الأبى .
ومذ بلغ ابنى الشهر الأول من عمره ، عاملته كما أعامل شخصا مسئولا مدركا ، ولم أرد أن أغمره بتلك العاطفة الآمرة الحضانة - عاطفة الأمومة الأثرة - التى ترمى إلى إنكار شخصيته ، ورأيت فيه الرجل الرشيد ، لا الطفل الذى يوشك أن يشب ليصير رجلا .
إن الدرس الأول العظيم فى الحياة ، الدرس الذى تلقنه الحيوانات لأولادها منذ البداية ، والذى تلقيه على أولادها أخيرا - هو الاضطلاع بأعباء المسئولية ، وقد لقنت ابنى الاعتماد على نفسه ، وأردت أن أعوده الحرية والاستقلال فى الرأى والعمل ، مع شعور بأنه وحدة كاملة فى ذاته . وأنه كفيل بأنه يدير دفة حياته الشخصية .
وأبيت أن أقوم بخدمة ذاته ، وكان عمره يقل عن سنة واحدة حين تعلم أن يضع حذاء صوفيا فى رجليه ، ثم تعلم أن يلبس جلبابا وحده . وبعد ذلك قدر أن يلبس بذلة مؤلفة من قطعة واحدة ، وأخيرا . . تعلم أن يلبس ثيابه كلها .
وكان عمره يزيد قليلا عن سنة ونصف سنة ، حين قدر على الذهاب بمفرده لشراء الحلوى لنفسه . ومع أنه لم يكن يقوى كثيرا على النطق والكلام ، إلا أنه كان قادرا على أن يومىء إلى الأصناف التى يود شراءها .
وكان له ثقة تامة برفاقه ، تجعله يقبل عليهم ببساطة اليقين . ولم يكن يعرف معنى الخوف . لأنى جنبته كل شعور بالخوف ، فى حين أنى نفثت فى روعه عناصر التبصر والوعى والحذر والنظر الصائب إلى مسائل الحياة المختلفة ، والأخذ بمقتضيات الأحوال . . بقى أن العالم لا يتسع للرجل الخجول ، وكان من القواعد الأساسية التى توخيتها فى تنشئة وحيدى - حثى إياه على اعتبار جميع الناس أصدقاء له ، وقد حاولت جهدى أن أنظم عنده عوامل الاستحسان والاشمئزاز ممن حوله . .
وقويت فى نفسه الشجاعة المعنوية ، والاحتمال بعزة وإباء - وهما عندى دعامتا الحياة وقد يستهجن القارئ هذه العقيدة التى أنادى بها ، ويزعم أنى أكلف الطفل فوق طاقته ، وأنطلب منه ما لا تتحمله سنه الصغيرة ؛ ولكنى اعتقد أن الطفل - مهما تصغر سنه - يقدر أن يتعلم كل
شئ لأن عقله قابل لكل شئ ، فهو كقطعة لينة ، طيعة ، تستطيع أن تطبع فيها كل حركة ، يقصد منها شئ . . وأجزم بأن كل طفل - مهما كان قميئا ضئيلا - يستطيع أن يتعلم الإشفاق على الإنسانية المتألمة ويحنو على الضعفاء ، وأن يبث فى نفسه روح الإقدام والفضيلة ، وأن يكون من قوة الشكيمة والإيمان بمنزلة يقتحم معها المصاعب تحت مهماز الحياة القاسية ، دون أن يتطرق إليه الضعف أو الوهن .
وقد تعلمنا رويدا رويدا أن نتلقى صدمات الإخفاق والخيبة بشجاعة وثبات . . ولا خير فيمن لايقوى على الكفاح فى حينه ، غير متخاذل لضربات الخيبة الممحصة . ولا ناكص على أعقاب الخذلان ! وقد تعمدنا الاضطلاع بصنوف من الإخفاق الهين ، وتحملنا برصانة وحزم ، تسويف الظروف ومعاكساتها لنا ، بإرجاء حفلات ، كنا نرجوها لغنم شئ من الأنس والمسرة ، وتحملنا بصبر تصاريف الحوادث الصغيرة ، التى كانت تمتحن قدرتنا على جهاد الحياة وتعدنا للوقوف أمام زوابعها الهوجاء فى المستقبل . .
ولقد علت فى بادىء الأمر ولولة اليأس الطفل ، بل صيحة الألم المبرح ، الذى تجنح الأم بطبعيتها إلى تلطيفه ؟ ولكن لم تميل الأم إلى التنكب بولدها عن طريق الصدمات ؟ إن من الأثرة أن تتوق الأم إلى حماية ولدها من الألم المثقف ، فتنتزع بذلك منه عدة النزال ، وتجعله غير لائق للتقدم إلى ميدان الكفاح . .
هذا ونحن دائما نجلس المرأة على عرش رفيع ، ولذلك أيقنت أنى المسئولة دون سواى عن معاملته لحليلته فى الستقبل ؛ ولذلك عودته أن يحترم النسوية ويقدسها ، ويعتقد أنها تستحق منه كل إكرام وكل رعاية وكل محاسنة وكل حب . ونحن نعتقد كذلك أن وظيفة الأبوة هى أسمى وظيفة ، وأجل وظيفة فى العالم ، ولذلك سعيت لكى أعد وحيدى لجلالتها .
إن مستقبل الطفل ملقى على عاتق الأم وحدها ، وهى التى تدير دولابه ، وتقبض على أعنة الفضيلة فيه ؟ ولذلك اعتقدت أن طفلى هو أعظم مسئولية موضوعة على فى الحياة ،
ولم أجرؤ على التمتع به كطفل ، تحلو لى مراقبة بسماته ومطالعة قسماته ، لأنى أحسست بأنه ينبغى لى أن أصرف كل دقيقة ، فى صوغ ذلك المستقبل ، وفى تخير أهدى السبل إلى تكوين الرجل الكامل الذى ينبغى أن أقدمه للعالم ؟ .
وقد حرصت غاية الحرص على أن لا أكذب عليه ، وتوخيت الصدق معه فى كل حال ، ولكن كثيرين من الوالدين يحبسون الحقائق عن الطفل ، لأن جهلهم بها يثير فى نفسه حب الفضول والإكثار من الأسئلة المزعجة . بيد أن فى ذلك من الأثرة ما فيه .
والطفل القادر على تأليف سؤال وتوجيهه إلى والديه قادر بالتالى على فهم جوابه ، وله الحق فى أن يتلقى الجواب الصادق عليه . . ولا تحوى الحياة أسرارا خافية على ولدى ، وهو يعرف أنه يستطيع أن يستفهم منى عن أى شئ . دون أن أخشى إفادته عليه فى صراحة وصدق .
وقد غرست فى نفسه إيمانا قويا بالله عز وجل ، ولكنى تركت له حرية اختيار المذهب الدينى الذى يود الانتماء إليه ، وأى حق لى فى أن أملى عليه المعتقد الذى أدين به وأوثره على غيره من المعتقدات ؟ !
وهو يعرف أن معظم الناس لا يرون الحياة من وجهة نظره ونظرى ، ويعلم أنه بينا تعامل السيدات بموفور الاحترام وتراهن يمثلن الجمال والفضل والصلاح ، يوجد فى النساء من هن لسن جميلات ولا فاضلات ولا صالحات . . وليس من الحق ولا من العدل أن أسمح له باقتحام الحياة ، دون أن يرى العالم كما هو قد امتزج حلوه بمره واختلط شره بخيره ، وليس لإنسان أن يحتكم فيه ولا أن يجعله صفوا خالصا ، وإنما الإنسان مضطر لأن يتحمله كما يراه ، فيتمتع بما فيه من خير ، ويصبر على ما فيه من شر ، وقد يكون هذا الشر كثيرا ، وقد يكون خالصا لا أثر للخير فيه ، ولكنه مع ذلك ليس قانون الحياة ، وإنما أثره فى الحياة قوى ، ولا ينبغى ازدراؤه أو الإعراض عنه ، كما لا ينبغى أن يؤول إلى ذم الغير ، والتعصب عليه . . إن ابنى آخذ فى النمو ، وإن نبته ليزكو ويترعرع ، وأنا مزمعة أن أستقيل من وظيفتى كأم له ، وسنصبح عما قليل صديقين ودودين .
والحيوانات التى هى أحكم منا تأبى أن تنكر الشخصية المستقلة التى لأولادها حين يدركن طور البلوغ ، وترفض أن تعتدى على رغباتهن ، أو تتدخل فى شئونهن .
والمرأة الوحيدة الخليقة بالاهتمام - فى حياة ابنى ، هى تلك المزمعة أن تصبح زوجه وحليلته .
إنه ليس بالولد الأريب الماهر ، ولكنى لا أتطلب من وحيدى ذكاء خارقا ، بل أتطلب منه أن يكون رجلا فاضلا فاهما ، رقيق الشمائل - أتطلب منه أن يكون مفخرة لشعبه ، وأن يجعل العالم أفضل
مما وجده عندما هبط إليه . .
وقد شجبت نفسى ، وأنكرت ذاتى من أجله ، لأن مصلحته وفائدته هما أهم شئ لدى ، وهو وحده الذى يهمنى خيره ويعنينى أمره . .
ولا أتطلب جزاء أعظم ، من أن أفاخر بحق ، قائلة : " إن هذا الرجل هو ابنى وأنا آمل أن يغتبط هو بحق ، حين يذكرنى بدوره ، فيناجى نفسه قائلا : " إن هذه المرأة كانت أمى ! " .
