الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 276الرجوع إلى "الرسالة"

هكذا أغنى، للشاعر محمود حسن اسماعيل

Share

عندما أخرج الشاعر الأديب محمود حسن اسماعيل ديوانه    (أغاني الكوخ)  وكان لى حظ الاشتراك فى حفلة تكريمه كان  أهم ما دارت حوله كلمتى التكريمية أن الشاعر صادق الحس مشبوب  العاطفة قوى الإيمان ينتزع الأخيلة من أطواء وجدانه فى غير  افتعال أو تعمل، وأنه يمثل الريفى المؤمن الصادق الأحاسيس الذى  يقبس من جلال المناظر الطبيعية خير ما تختلج به نفسه الجياشة  بحب كل ما هو طبيعى لا أثر للصنعة الزائفة فيه

وأخيراً جاء ديوانه الثاني   (هكذا أغنى)  صورة صادقة تؤيد  ما ذهبت إليه فى كلمتى الأولى وتعزز تلك النظرة الصائبة التى  لم تخب فيما خرجت به من دراسة شاعر الشباب النابغة

وأنا فى هذا البحث العاجل أحب أن أنتزع من الديوان  الأخير صوراً فاتنة تؤيد ما ذهبت إليه يوم قام الأدباء من الشباب  يحتفلون بذلك القبس الباهر الذى كشف عن درر الشاعر الفذ

ميزة تفرد بها الشاعر محمود ولم يجر فيها على منوال كثير من

شعراء كل مناسبة يأتى من ورائها الغنم والفائدة! تلك ميزة الوفاء  لنفسه والإخلاص لمشاعره والاعتداد بشعره؛ فلم يكن يوماً بوقا  للظروف أو أداة للملابسات، بل ظل الشاعر الرفيع الإحساس  المترفع بشعره أن يتلمس جوانب النفع ووجوه الاستغلال أينما  ساقتهما الأقدار أو دفعت بهما الرياح

وفى ذلك يقول الشاعر لمليكه:

للشاعرين بلاغة فضفاضة ... حشدت بلفظ فى الحلوق مجلجل

وأنا الذي شعرى نفاثة مهجتي ... سكبت جداولها بهمس السنبل

يوم الفخار سنلتقى. . . أنت العلا

... وأنا الصدى فى ظل عرشك! فأصغ لى

أنظر إلى محمود الشاعر الريفى الذى يلوذ بأذيال الخمائل يقتطف  منها شذا الزهور،ولحون الطير، ونور الصباح، وعبير الضحى ، لتعينه على الهتاف للمليك إن عاونته تلك العوامل كلها على أن  ينتمي لبلابل الخلد السواجع

وانظر إلى ذلك الشادى من أين يقبس قريضه. . من الطبيعة  الوارفة ومن الأيمان الصادق:

شاديك من قصب الفرادس غايهُ ... ومن السنا والطيب عُل عناؤه

ومن الصَّبا نهلتْ حلالَ أراكةٍ ... سجواَء، نافجها غفت أنداؤه

ومن الطفاوة فى أصيل خاشع ... سجدت على زهر الربا أضواؤه

ومن المساجد هينمت تحت الدجى ... صوفيُّها نهل الغيوب صفاؤه

ومن الشعاع المستهام بقبلة ... فى النيل طهرها هوَاه وماؤه

ومن السنا الرقراق فى قدح الضحى ... أغرى النديم فولولت صهباؤه

وشاعرنا كثير التبرم بالقلوب الغوادر وما جبل عليه الناس  من فضول وتهاتر، ولكنه يرتد ساخراً هازئاً لاعتداده بنفسه،  وعرفانه بقيمته وبفيض من حنانه على   (الغراب)  قسيمه  فى الحظوظ وصاحبه فى الجدود وقرينه فى تحامل الناس الظالم  دون إثم يبرره:

وأنت - كمثلى - هارب من فضولهم .

.. جوابك للأكوان: إنى ساخر!

فدعهم يلوكون الحديث، وأصغ لى

.. فما منهم للسمع إلا التهاتر

سلاماً قسيمى فى الحظوظ. . وصاحبى .

.. وقد أرخصت عهدى القلوب النوادر

عشقتك منذ النخل مد ظلاله ..

. على تغادينى وبه وتباكر

ويكاد يتفرد الشاعر محمود بقوته الهادرة وفتوته الفائزة فى  كل ما يقرض من النظم حتى حين يتحدث إلى موسيقى النقوش

ابعثى اللحن يدَّوى ... كيفما شئت وشاء

لن ترىْ فى الأرض سمعاً ... يشتهى هذا الفناء

غير سجعى فهو من دن ... ياه فى دنيا فناء

لكنه كغيره من الشباب إذا أحب وعف واعترضت العقبات  سبيله راح يتفجع ويتوجع وإن كان لا يسف إلى درك التوسل  والاستعطاف، بل يهدد وبتوعد. . يهدد بالجنون والانتحار والفناء

وانظري جذوة الهوى فى خيالى ... وشحوب الفناء فى نظراتى

وتهاويل من بقايا جنون ... خلفتها الأحزان فوق سماتي

وبريقاً من الشباب المولى ... كهشيم الريحان فوق الرفات

منية أزهقت وأخرى تعايا ... والبقايا فى الصدر منتحرات

أسرعى قبلما تغيب الأمانى ... فى دخان الهموم والحسرات

وتصيرين فى الهوى قصة الغد ... ر وأسطورة على نغماتى

أسرعى قبل أن تموت الأغاني ... فتناجيك، بعدها مرثياتي!

وما أحسب الشاعر ينتوى ما يهدد به ولكنه يتوعد حبيبه  بشر ما ترتاع له النفوس حتى ينطلق من محبسه ويثور على أغلاله  وإلا ما قال بعدئذ:

حجبوك عن نظرى وخلوا مهجة ... حيرى يجرعها الهوي أتراحه

وأنا الذى سأظل باسمك هاتفاً ... حتى يمد الموت نحوى راحه!

حجبوك هل حجبوا نفاثة عاشق ... أضرى الغرام جلاده وكفاحه؟

متولع بهواك ما أغرى به ... بينٌ ولا فلَّ الفراق سلاحه

وهو ليس دائم الشكوى والنواح بل طالما ركن إلى الصمت  القاتل وكبت مشاعره حتى لا يستذله الضعف وبعد أن صدف  الناس عن الشكوى وتغافلوا عن الشاكين:

والناس. . لا ناس إذا خلجت ... عينى. . كأنى في الحياة عَمِ

صدفوا عن الشكوى فلا أذن ... تصغي لما رتلت من نغم

حسبوا أنين القلب فلسفة ... عبثت بها أنشودة القلم

فتغافلوا عنى ولو علموا ... شربوا صباب الدمع من ألمي

أنت عاتبتى على الصمت. . . فاسمع ..

. نغمات الجراح تحت الجنوب

أنا همس يموت فى قلب ناى ... نبذته الرياح خلف الكثيب

أنا صمت الكهوف يهتز للوحى ... إذا هل فى السكون الرهيب

وقصاري ما يقال فى شاعرنا الفذ أنه ينتزع مادته فى جميع  الاتجاهات والأوضاع من الطبيعة الساحرة فى صمتها وشجوها  وتغريدها لا من التأثر الدراسي أو الاطلاع الفردى وحدهما، بل  إننى كنت مع بعض الواهمين قبل أن أعرفه فى أنه قد قبس كثيراً  من معانيه البكر من شعراء الفرنجة الطبيعيين أمثال وردثورت  وشيلى وبيرون.

وشاعرنا قد جمع فى وثبته بين القديم والجديد: فهو يمثل  جزالة الشعر العربى الرصين وقوة أسلوبه ومتانة بنائه، كما يمثل  الجديد فى سلاسة معانيه، وطرافة موضوعاته وحداثة مراميه، فكان  وسطاً حبيباً بين العهدين، وروحاً فياضة بين الجيلين وعلماً فرداً  فى توسط الاتجاهين.

وهو نسيج وحده فى أغلب الموضوعات التى يطرقها لا يشبهه  فيها شاعر اللهم إلا فى الموضوعات الاجتماعية التى يظهر فيها تأثير  البيئة الواحدة فى جميع الأقلام، وفى هذا يمثل الشاعر بيته  وما يعتمل فى أطوائها وما يشيع فى أجوائها خير تمثيل.

وقبل أن أختتم كلمتي العاجلة أود أن ألمس المدى الذى بلغه  الشاعر في ديوانه الأخير والخطوة الواسعة التى خطاها فى أغانيه  الأخيرة بعد أن انقضت أعوام ثلاثة على ديوانه الأول  (أغانى الكوخ)

إن من قرأ للشاعر فى ديوانه الأول حديثه الفطرى عن    (حاملة الجرة)  ثم يقرأ قصيدة الرائعة عن   (الغراب)  فى ديوانه  الأخير يلمس عمق التأمل وغور الاستيعاب الوافدين على شعره  الجديد وقد أضفيا على قريضه القوة والمضاء. كذلك يلمس القارئ فى  ديوان الشاعر الأخير مدى توسعه فى الموضوعات الاجتماعية وشبوب  عاطفته فى الناحية الغزلية، وذلك الطهر الذى يهيمن على مشاعره

وليس ثمة ما أعيبه على الشاعر غير تلك الرهبنة وذلك المذهب  الكنسى الذي يصبغ أكثر قصائده، ولكن العارف المشرف على

حياة الشاعر والدارس لبيئة لا يعجب لتلك القوة المسيطرة عليه  فقد أخذت على الشاعر الصديق فى حديث لى معه هذا المنحى  الغالب على تأملاته؛ ولكننى عرفت أن في بلدته   (النخيلة)  تنهض  الكنيسة على كثب من المسجد ويبعثان فى النفس الطاهرة رهبة  الإيمان والتقديس

فإذا أضفنا إلى ذلك نشأة الشاعر الريفية الساذجة أدركنا  عمق التأثير الشخصى إلى جانب التأثير العام فيما يصدر من القريض وليس للشاعر محمود نوع خاص من الفلسفة، فهو يرى الفلسفة  فى ذلك التأمل العميق فى أسرار الحياة أينما وقعت عليها العين  الفاحصة والشعور الملهم

بقى أن أقول صراحة إن ديوانه الأول     (أغاني الكوخ)    كان يمثل الفن الرفيع وحده، فلم يقحم فيه الشاعر تلك المراثى التى  حشدها فى ديوانه الأخير، أو تلك السياسات التى اندفع  فيها نتيجة لشعوره مهما كان صدق هذا الشعور، فما هى  بالموضوعات التى تجمع بين دفتى ديوان لتبقى مدى الأحقاب والأيام

اشترك في نشرتنا البريدية