منذ عشرات السنين ووزارة المعارف دائبة - عن طريق المدرسة - فى قتل الأدب والروح الأدبية فى نفوس الطلاب! إنها جادة فى هذه العملية كما لو كانت هدفها الأول. فالمدرسة المصرية لا تجيد شيئا كما تجيد هذا الواجب، ولا تفلح فى شيء كما تفلح فى أدائه!
كل ما فى المدرسة يعيش على هذه الغاية ويؤدى إليها: طريقة وضع المنهج. اختيار المقررات، تأليف الكتب المدرسية، طرق التدريس، استخدام المكتبة كل شيء. كل شيء يؤدي إلى هذا الهدف الأول الذي تعتز به المدرسة المصرية فى ماضيها وحاضرها!
هذا المنهج المفكك الذى لا يعقد صلة بين حاجات الحياة وواقع الحياة، وبين الموضوعات التى تدرسها المدرسة وبخاصة فى اللغة العربية؛ والذى ينتهي إلى تقرير عقيدة خاطئة فى نفوس الطلاب، هى أنهم لا يدرسون ما يدرسون فى المدرسة لأنه ذو صلة حية بحياتهم وتفكيرهم وبحاجات جيلهم واتجاه مجتمعهم: إنما يدرسونه لأنه ضريبة مفروضة عليهم، ضريبة كريهة يؤدونها
للنجاح ولتسلم الورقة التي تفتح لهم مصاريع الدواوين، وغير الدواوين
ومن هنا تنشأ فى نفوسهم عداوة القراءة، والاستهانة بها. والحياة عادة؛ فإذا لم تكن القراءة عادة محبوبة فى سنوات الدراسة، فقلما تكون فى المستقبل، اللهم إلا للتسلية الفارغة التى تلبيها أرخص الأقلام!
وهذه المقررات الجافة الفارغة السخيفة، وبخاصة فى تاريخ الأدب، وفيما يسمونه (البلاغة) . إى شيء يمكن أن يثير الكراهية والسأم والنفور من القراءة ومن الأدب أكثر من هذه البلاغة ؟! إى سخف وأية غثاثة أكثر من إجراء الاستعارات، وفرز التشبيهات، وتصنيف الجازات؟ وما غناء هذا كله فى تكوين الذوق الأدبى، أو تكوين الشعور بجدية الأدب؟
إن هذه (البلاغة) كانت قواعد للنقد الأدبى. وقد وضعت فى عصور انحطاط الذوق الأدبى، وعصور انحطاط النقد الفنى، فهي قواعد كاذبة وخاطئة وبدائية، لا تؤدى الى تكوين ذوق إولا ملكة نقد ، ولا يجوز أن تدرس إلا في المجال التاريخي للمحاولات الأولية للنقد فى الأدب العربى، وموعد هذه الدراسة التاريخية ليس هو المدرسة الثانوية، إنما هو دراسات التخصص الجامعية
وأما تاريخ الأدب فشأنه هو الآخر عجيب. ومقرراته فى المدرسة الثانوية تشهد بما لا شهادة بعده على جهالة وزارة المعارف
بكل شيء عن طاقة الطلاب، وعن طاقة الزمن، وعن مهمة المدرسة. . وإلا فما غناء أن يدرس طالب المدرسة الثانوية تلك الحقبة الطويلة من الزمن من الجاهلية إلى العصر الحديث، وتلك السلسلة الطويلة الحلقات من الأدباء والشعراء فى هذا المدى الواسع، وهو لم يدرس إلا القليل التافه من النصوص الأدبية التى أنتجتها تلك العصور، وأخرجها ذلك الحشد من الكتاب والشعراء!!
إن جسم الأدب هو النصوص، لا تاريخ الأدب ولا دروس البلاغة! دسم الأدب الحى الذى يمكن أن يربى حاسة التذوق الفنى هو تلك القصائد والمقطوعات والقطع الأدبية، والأقصوصة والرواية والبحث. . إلى آخر الفنون الأدبية المختلفة. . وهذا ما يجب أن ينفق فيه الطلاب ذلك الوقت وذلك الجهد اللذين ينفقان فى دروس البلاغة وفى دروس تاريخ الأدب المملة
وإنه لخير للطالب الثانوى أن يقرأ فى كل علم كتابين: يحتوى أحدهما مختارات منوعة من جيد النصوص الأدبية الحية، يشرف على اختيارها أدباء فى ذوقهم حياة، وفى حسهم تفتح، وهم غير موظفي وزارة المعارف بكل تأكيد!. . . وأما الثانى فيتناول موضوعا قائما بذاته، قصة أو بحثا أدبيا أو اجتماعيا. .
خير للطلاب أن يدرسوا كتابين على هذا النحو فى العام، يجدون فيهما غذاء فكريا وغذاء روحيا، ويحسون أن للقراءة المتصلة قيمة فى فهمهم للحياة وإدراكهم للأشياء. . . من تمضية الوقت فى إجراء تلك الاستعارات الفارغة الهازلة، وفى المرور سراعا على خط سير الأدب الطويل، وترديد الألفاظ والعبارات كالببغاوات
وبهذا وحده يمكن أن نعقد صلة مبكرة بين الكتاب والطلاب. فلا يعود الكتاب فى نظرهم عدوا كريها، أو نسخة زرية ولا تقتل فى نفوسهم بذرة الأدب وهم بعد فى سن الطراءة والشياب!
ولقد عمدت وزارة المعارف فى السنوات الأخيرة إلى تخصيص كتب للقراءة. ولكنها لم تذهب بتلك البلاغة الملعونة ولم تقتصد ف تاريخ الأدب الممل. . . . ثم - فى الغالب - لم تكن موفقة فى اختيار كتب القراءة المناسبة لكل سن وطاقة. . . لقد
دخلت المحسوبية فى اختيار الكتب. المحسوبية البغيضة التى لم يكن يفوت الطلاب أن يدركوها فى معظم الأحيان
كان الطلاب يعرفون أن هذا الكتاب الذى قررت عليهم قراءته، إنما قرر لأن صاحبه صديق للوزير، أو نصير لعهد الوزير، أو موظف فى مكتب الوزير. . .!
كانوا يشعرون أن هذا الكتاب ضريبة مفروضة عليهم ليصل إلى جيب صاحبه بضع مئات أو بضعة ألوف من الجنيهات، وهذا الشعور وحده كفيل بأن يفسد فى نفوسهم كل معنى للقراءة، وكل قيمة الكتاب، بل كل شعور بجدية هذه القراءة وجدواها! وبأن يجعل منهم أعداء لقراءة التى تحمل هذا الظلم الحقير! فلما شاءت الوزارة أن تبدو نزيهة حذفت هذه الكتب حذفا باتا؛ فكانت نزاهتها أشد إيذاء من محسوبيتها. وباء الأدب بالخسارة فى الحالين!
فأما الكتب المدرسية فطريقة تأليفها وحدها كفيلة بتنفير أي راغب فى الكتاب. . إننى ما أمسكت بكتاب مدرسى حتى وأنا فى هذه السن إلا أجفلت وخشيت أن تكتب على الردة إلى عهد التلمذة، فيحكم علي بقراءة هذه الكتب والعياذ بالله!
التفكك، والغثاثة، وفساد الذوق، وسطحية التصور، وجفاف التعبير. . تلك خصائص الكتاب المقرر فى وزارة المعارف، وبخاصة فى مقررات اللغة العربية المنكوبة باللجان الرسمية، واحتكار التأليف!
ولو ترك الأمر لكل مدرسة أن تقرر الكتب التى تراها كفيلة بخدمة المنهج المقرر والوفاء به، لا نفسح المجال للتجديد والتنويع. ولكن احتكار تقرير الكتب لوزارة المعارف حيث لا تقرر إلا كتب معينة، يعرف أصحابها أقصر الطرق للتفاهم مع المسؤولين! هذا الاحتكار هو الأداة التى تقتل الوزارة بها الأدب فى ماضى الطلاب ومستقبلهم، وتوقع بينهم وبين القراءة عداوة الأبد وكراهة العمر!
وأما طرق التدريس فهي آفة الآفات. . إنها هى التلبية الطبيعية لطريقة الامتحانات فى المدرسة المصرية، تلك الطريقة التى لا تتطلب إلا تعاطي العلم فى صورة (برشامة) مركزة، تفرغ فى ورقة الإجابة، فيتم المراد
ومن هنا تنتشر تلك الملخصات العجيبة التى لا نظير لها فى مدارس العالم. فالمفروض فى الدراسة أن تدرب الطالب على الانتفاع بالمصادر والمراجع، وعلى أن يحصل لنفسه من المطولات
أما طريقة التدريس المصرية فتهدف أول ما تهدف إلى أن يفقد الطالب قدرته الاستقلالية! وأن يعتمد على المدرس كل الاعتماد، والمدرس يعتمد على الكتاب المقرر - لا على مراجع أوسع - ويجمع للطلبة خلاصات صغيرة تعينهم على المرور في الامتحان، أو يقوم بعضهم يعمل ملخصات تغنى حتى المدرس عن الرجوع إلى الكتاب المقرر!
لماذا؟ لأن الامتحان هو الامتحان! ولما قيل لوزارة المعارف: إن طريقة امتحاناتك تؤدى إلى هذه الكارثة. قالت: وهو كذلك. وإذن فسنلغى الامتحان!
إن العيب ليس فى الامتحان ذاته يا وزارة المعارف، إنما هو فى طريقة الامتحان. وما من شك أن أيسر الطرق هو الإلغاء الكامل؛ ولكن هذا الإلغاء ليس هو العلاج الفنى الذى يدل على أن الأمر يتولاه من لهم إلمام بهذه الأمور!
أن العلاج هو أن يوجه الامتحان إلى اختبار مجموعة قوى الطالب ودراساته، وأن يوجه الطالب إلى الاعتماد على المراجع المطولة فى المادة لا على الكتاب المقرر ولا على الملخصات.
وإلغاء الكتاب المقرر، وترك الدراسة حرة فى عدة كتب مختارة فى كل مادة هو الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه
وأخيرا يجيء دور المكتبة، وهو الدور الذى ليس له وجود! إن مكتبة المدرسة مخزن مخلق، تبعث إليه وزارة المعارف
بين الحين والحين بطائفة من الكتب التى يعرف أصحابها أقصى الطرق لمن يقررون كتب المكتبات فى وزارة المعارف فى جو غريب مريب فى أكثر الأحيان!
وهناك تبقى مغلقة لا علاقة لها بنظام الدراسة، ولا بالطلبة، ولا بالمدرسين بوجه عام!
لقد اقترحت مرة على وزارة المعارف أن تزيل الغبار عن سمعتها فى أسواق الوراقين. وهى سمعة لا سير الوزارة أن تعرفها، ورائحة لا يريحها أن تشمها!
لقد اقترحت عليها أن تنشئ ألف مكتبة فرعية صغيرة فى المدن الصغيرة والقرى الكبيرة، لا يكلف إنشاء الواحدة منها
أكثر من مائة جنيه للأثاث
وأن تتفق مع دور النشر المعتمدة أن تبعث بألف نسخة من كل كتاب تصدره إلى هذه المكتبات العامة بمجرد صدوره. على شرط أن تؤلف كل دار لجنة خاصة بها من بعض الأدباء الموثوق باطلاعهم لتراجع كل كتاب تصدره، بحيث لا ترسل إلى المكتبات العامة كتابا لم تقره لجنتها التى تعرفها وزارة المعارف وتثق بها
ولكى تتأكد الوزارة أن هذه اللجان تقوم بواجبها، تنشئ هى إدارة خاصة أو مراقبة وظيفتها مراقبة مطبوعات كل دار. فإذا اتضح لها فى نهاية العام أن هذه الدار أسفت فى إنتاجها أو بالغت فى أسعارها، حذفت اسمها من القائمة لعام أو أكثر حسب مقتضيات الأحوال
وقلت: إن هذا الاقتراح كفيل بأن يضمن للكتاب الجيد الوجود والرواج، لأن ضمانة الناشر لألف نسخة فى اليوم الأول لصدور الكتاب تشجعه على النشر، وطلب الكتاب الجيد والكاتب المجود. . وكفيل كذلك بانتشار حركة القراءة فى أوساط جديدة كثيرا ما يتعذر عليها شراء الكتاب أو استعارته، وكفيل فى الوقت ذاته بالإعلان عن الكتاب الجيد لمن يريد اقتناءه فى هذه الأوساط
ولكن هذا الاقتراح لم يؤخذ به، لأنه يحرم بعض دور النشر المحظوظة من الاستيلاء على أكبر مبلغ من ميزانية الكتب فى وزارة المعارف. أو يحرم بعض ذوى النفوذ من الاتجار بنفوذهم فى سوق الوراقين! ويحرم بعض ذوى الشفاعات من المؤلفين أن يستمتعوا بالربح الحرام!
وما تزال وزارة المعارف ذائبة فى عملية قتل الأدب بمعرفتها الخاصة، وبمعرفة المدرسة ومناهجها ومقرراتها، وكتبها ومكتباتها، وطرق التدريس فيها وطرق الامتحان
وعلى رأس وزارة المعارف أديب. وقل أن تظفر الوزارة بأديب! فإذا لم يتم اليوم انتصار الأدب فى وزارة المعارف فلست أدرى متى يتم الانتصار. وإذا لم يتم إنقاذ الأدب على يدى طه حسين فلست أدرى على يدى من يكون الإنقاذ!
