أخذ الأستاذ محمود قراعة على الدكتور زكي مبارك عده الجزاء الأخروي من قبيل الحسيات. والأستاذ قراعة يريد أن يكون جزاء روحياً معنوياً، فقد جزم في كلمته المنشورة في العدد ٣١٥ من الرسالة بأن الإسلام (عند ذكر الماديات الأخروية لا يريد بها جزاءها الحسي، بل يريد بها جزاءها المعنوي الروحي، وأنه إن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة ، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر ما تتصل بالروحيات والمعنويات) ولكنه في كلمته المنشورة في العدد ٣١٦ من الرسالة لم يبق مصراً على هذا فقد آمن بأن (في الجنة لذات روحية وحسية) ولكن الحسية راقية تسمو بالروح.
فإذا كان كذلك فماذا أخذ على الدكتور زكي مبارك؟ وهل أنكر الدكتور زكي مبارك أن في الجنة لذات روحية وحسية؟ وأن الحسية راقية تسمو بالروح؟
الواقع أن الأستاذ قراعة لم يأت بشيء يناقِش فيه أو يناقَش فيه، اللهم إلا كلمة ليست من موضوع الجدل ستأتي، والواقع أيضاً أنه لا سبيل إلى إنكار شيء مما ذكره الدكتور زكي، فإنه لو لم يكن الجزاء الحسي المذكور في القرآن الكريم حسياً على الحقيقة لا على المجاز لما كان هناك معنى للبعث والنشور. إن البعث والنشور هما مقدمة لتلقي الجزاء الحسي بالنعيم في الجنة أو العذاب في النار لا مناص من ذلك أبداً. ولو كان الجزاء روحياً لما كان هناك حاجة للبعث والنشور لأن الأرواح خالدة فتنعم أو تعذب. وما دامت الروح قد قضى عليها أن تكون في هذا اللباس (الجسم) في الدنيا والآخرة، فلا لذة هناك ولا ألم إلا عن طريق الحواس، حتى أكبر النعم وهو رؤية الله تعالى في الآخرة (وإن كانت بغير كيف) حسي لأنه آت عن طريق الحواس، فهو حسي من جهة معنوي من جهة أخرى.
وبعد فماذا يرى المبشر الأمريكاني الذي ذكره الأستاذ قراعة من مطعن في كون نعيم الآخرة حسياً حتى ينقيه الأستاذ قراعة عن الإسلام؟
أما الكلمة التي يناقش فيها الأستاذ قراعة فهي قوله : (إن اللذات الحسية في الآخرة تسمو بالروح، فإذا هذا القول يفيد أن الروح في الآخرة تسمو باطراد عن تذوق كل لذة (وكلها لذات) وهذا أمر لا يتصور لأن الآخرة دار جزاء ، فمتى وضع كل إنسان في مرتبة فقد حصل على مرتبة من السمو تناسبه فيبقى فيها إلى ما شاء الله. هذا هو المعقول. ولو كانت كل لذة تكسب الإنسان سمواً لاستحق بهذا السمو جزاء: لذة أعلى، ثم تكسبه هذه اللذة سمواً، وهكذا. وهذا أمر لا ينتهي فلا يكون والله اعلم. (فلسطين)
