ذكر ابن عقيل في شرح ألفية ابن مالك أنه يشترط في عمل ما عمل ليس ألا تكون مكررة. فإن تكررت بطل عملها، نحو - ما يزيد قائم - فالأولى نافية، والثانية نفت النفي، فصار الكلام إثباتاً. وكان على ابن عقيل قبل أن يشترط ذلك الشرط الذي انفرد به أن ينظر: هل تجيز العربية هذا الأسلوب أو لا تجيزه؟ وإني لا أذكر أنه مر على في كلام العرب منظومه ومنشوره مثل ذلك
الاستعمال، وإنما يتكرر حرف النفي فيها للتأكيد، مثل قول الشاعر في تكرار ما:
لا يُنسك الأسى تأسياً فما ... ما من حمامٍ أحدٌ معتصما
ومثل قول الآخر في تكرار لا:
لا لا أبوح بحب بثينةَ إنها ... أخذتْ عليّ مواثقاً وعهودا
ولست أدري لم تقول العرب في الإثبات - ما ما زيد قائم - ولا تقول من أول الأمر - زيد قائم - وقد قامت لغتهم على مراعاة الدقة في الأسلوب، بحيث لا يزيدون فيها ولا ينقصون إلا لسبب من الأسباب.
قال بعض طلابي في الدرس: إنه يجوز أن يكون أصل ذلك الأسلوب أن شخصاُ قال (ما زيد قائم) فترد عليه قوله بقولك له (ما ما زيد قائم) .
فقلت له: إني إذا رددت عليه بذلك أكون مخطئاً، لأنه حينئذ يكون منكراً لقيام زيد، فيجب أن أرد عليه بكلام مثبت مؤكد، فأقول له (إن زيداً قائم) ولا يصح أن أرد عليه بذلك النفي المتكرر غير المؤكد، وهذا أمر معروف في علم المعاني.
وقال بعض الشيوخ: إن ذلك الأسلوب لم يرد مثله عن العرب، ولكنه يصح لنا أن نقوله، وهذا يكفي في تسويغ كلام ابن عقيل
فقلت له: إن مثل هذا قد مضى زمنه، ولا يمكن أن يقبله الآن أحد منا، لأن النحو موضوع لكلام العرب لا لكلامنا.
وقد ورد أسلوب نفى النفي في لغة العرب على نحو آخر مقبول يدخل فيه الاستفهام الإنكاري على النفي لأجل نفيه، لأن الاستفهام الإنكاري يفيد النفي، ونفى النفي إثبات، وهذا كما في قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) فهو بمعنى قولنا: - الله كاف عبده - ولكنه يفيد ذلك على أبلغ وجه وأحسن أسلوب. وقد قام الإنكار فيه مقام التأكيد اللازم في الرد على إنكارهم، بل هو أقوى من التأكيد في اقتلاع الإنكار من أنفسهم. ومن ذلك الأسلوب أيضا قول الشاعر: ألستم خير من الركب المطَايا ... وأندى العالمين بطون راحِ
وقد قيل إنه من أجل هذا كان أمدح بيت قالته العرب، ولا شك أن الفرق كبير بينه وبين ذلك الأسلوب الذي أجازه ابن عقيل، ومع هذا نحب أن نشترك قراءة الرسالة في أمره، فلعل بعضهم يحفظ عن العرب شاهداً له.
