نقصد بالحياة بطبيعة الحال حياة شبيهة بما يوجد منها على هذه الأرض ، نباتية كانت او حيوانية ؛ ولسنا نريد ان نبحث في احتمال وجود حياة من نوع آخر تدب في أجسام من نار أو نور أو غاز أو أثير ، لأن ذلك موضوع خارج عن نطاق هذا البحث .
وقبل أن تجيب عن هذا السؤال يحسن بنا ان نقرر هنا عدة حقائق هامة : منها ان صور الحياة التي نشأت على أرضنا صور تلائم الظروف المختلفة المحيطة بها على سطح الأرض ، أو تحت ثراها ، أو في بحارها وأنهارها . ولسنا نفكر أن الحياة قد توجد في ظروف تختلف اختلافا كبيرا عن كل الظروف التي نعرفها نحن ، ولكنها مهما اختلفت يصعب علينا أن نتصور حياة أيا كان نوعها في عالم ليس له " جو " أو له جو خال من الأكسجين . وأكبر الظن ان الماء ضروري للحياة ، والراجح أيضا ان الحياة لا توجد مع الحرارة المتطرفة او البرودة القاسية ، وإن كنا لا نستطيع أن نعين بالضبط درجتي الحرارة اللتين لا توجد خارج نطاقهما حياة
ومن هذه الحقائق أيضا أننا حتى إذا تبين لنا أن الأحوال في كوكب من الكواكب أو في أي جرم من الأجرام السماوية تصلح لوجود الحياة فيه ، فإن هذا لا يستلزم وجودها حتما ؛ وذلك لأن الظروف التي تلائم الحياة وتصلح لبقائها قد لا تكون هي الظروف التي تلائم نشأتها . وإنا لنجهل كل الجهل متي بدأت الحياة علي أرضنا وكيف بدأت ، ولكن الذي لا شك فيه أن الحياة لم تكن على الأرض يوم وجدت ، لأن أحوال الأرض
وقتئذ لم تكن صالحة لوجودها . ذلك أن العلماء يعتقدون أن الأرض وسائر الكواكب قد تجمدت من لسان من المادة في هيئة ذراع أو سيجار خرج من الشمس بتأثير نجم آخر أقرب منها ؛ وسواء كانت هذه النظرية صحيحة في تفاصيلها أو غير صحيحة ، فان الكواكب السيارة التابعة لمجموعتنا الشمسية قد تكونت من جسم الشمس على نحو ما . والحياة على سطح الشمس مستحيلة ، لأن درجة حرارتها مرتفعة إلي حد يكفي لتحليل جميع المركبات الكيميائية - إلا قليلا منها - إلي عناصرها الأولية ، والخلية الحية من الناحية الكيميائية جسم مركب لا يمكن وجوده على سطح الشمس
وإذا فلابد أن تكون الحياة قد ظهرت على سطح الأرض في عهد من عهود تاريخها القديم الذي يمتد إلي نحو ثلاثة آلاف مليون من السنين . وقد عثر علماء طبقات الأرض على آثار حيوانات بحرية لا فقارية في الصخور التي تكونت في رأيهم منذ ١٥٠٠ مليون من السنين وإذا فالحياة ربما نشأت على الأرض بعد أن تكونت لها قشرة صلبة بزمن بعد قصيرا في عرف الجيولوجيين .
فإذا انتقلنا من البحث في حالة الأرض إلي أحوال الأجرام الأخري في مجموعتنا الشمسية استطعنا ان نقول من أول الأمر إن الحياة لا يمكن ان توجد على معظم الكواكب السيارة وعلي جميع توابعها ؛ فعطارد لا يحيط به جو ما على الأرجح ، ودرجة حرارة سطحه المواجه للشمس تعادل حرارة الزنك المنصهر ، في حين انها على سطحه المحتجب عن الشمس منخفضة جدا لعدم وجود الجو الذي يلطف من زمهريرها . أما المشتري وزحل فيحيط بكليهما جو كثيف ، ولكن الأرصاد العلمية والأبحاث النظرية كلها متفقة على أنه لا يوجد في هذين الجوين شئ من الأكسجين أو بخار الماء ، ويظهر ان
الجو الخارجي لكلا هذين الكوكبين يتكون معظمه من الإيدروجين وغاز النشادر وغاز المستنقعات ، وانه يمتد حول كل منهما آلاف الأميال ، والضغط في أجزائه السفلي شديد إلي درجة تحيل معظم الغازات إلي سوائل ؛ وليس في مقدورنا ان نتصور وجود الحياة في مثل هذه الظروف حتي ولو كانت شدة البرد على سطحيهما لا تجعل هذه الحياة مستحيلة
ولا تقل أحوال أورانوس ونبتون قسوة من أحوال المشتري وزحل ؟ فالبرد فيهما اشد وغاز المستنقعات في طبقات جوهما العليا كثير . وبلوتون جرم صغير ، وأكبر الظن انه لا جو له قط ، وأن درجة الحرارة على سطحه منخفضة انخفاضا لا يسمح بوجود الأكسجين أو الأزت مجالهما الغازية ؛ وإذا فالراجع أنه لا توجد حياة نباتية أو حيوانية أيا كان نوعها على كوكب من الكواكب السالفة الذكر
تنتقل بعد ذلك إلي التوابع الكبرى لكواكب مجموعتنا الشمسية ، وتخص التوابع الكبرى بالذكر لأن جميع التوابع الصغري قد فقدت جواءها منذ عهد بعيد . فأما قمرنا فهو من العوالم الميتة التي لا حياة فيها على الإطلاق ، لأنه خال من الهواء ؛ وليس من التوابع الأخرى ما هو جدير ببحثنا إلا التابعين الكبيرين من توابع المشتري وأكبر توابع زحل ؛ وتدل الأرصاد والأبحاث العلمية كلها على أن هذه التوابع الثلاثة خالية من الهواء وإذا فهي خالية من الحياة
لم يبق بعد ذلك الا كوكبا الزهرة والمريخ . فأما الزهرة فتحيط بها طبقة كثيفة من السحاب لا تخترقها الأشعة المعروفة ، حتى ولا الأشعة دون الحمراء ، ولم ير الراصدون في جوها شيئا من الأكسجين ، وإن كان عجزهم عن تبينه لا يعد دليلا قاطعا على عدم وجوده . غير أنه قد
ثبت أن جو الزهرة يحتوي على ثاني أكسيد الكربون وأن مقدار هذا الغاز فيه أكبر منه في جو أرضنا . وجو الزهرة أكثر دفئا ورطوبة من جو الأرض ، ولكنه من الجواء التي تلائم الحياة بشرط ان يكون فيه قدر كاف من الأكسجين الطليق . غير أنا لا نعلم علم اليقين أي نوع من الحياة قد تكون على سطح الزهرة إن كان على سطحها حياة ! وفي ظننا ان الحال التى عليها الزهرة الان لا تختلف كثيرا عما كانت عليه الأرض في العهد الأول من تاريخها ، حين كان جوها أشد حرارة وأكثر رطوبة مما هو عليه الآن ، وحين كانت تغشي سطحها المستنقعات ؛ فإذا صح ذلك فلربما تكون قد نشأت على سطح الزهرة صورة من صور الكائنات الحية تلائم هذه الظروف
على أن ما لدينا من شواهد ترجح كلها أن ما في جو الزهرة من الأكسجين في هذا الوقت لا يكفي لسد حاجة أي نوع من أنواع الحياة ، اللهم إلا الحياة النباتية البدائية ، وحتي هذا النوع لم يقم على وجوده دليل قاطع إلى الآن .
أما المريخ فانا نعلم عنه أكثر مما نعلم عن سائر الكواكب ، لأن في مقدورنا أن نري سطحه ؟ ولقد دلتنا الأرصاد على ان المريخ جوا رقيقاً لا نخطئ إذا افترضنا أن فيه أكسجينا وبخار ماء . نعم إن هذا الجو رقيق وإن ما فيه من الا كسجين اقل كثيرا مما في جو الأرض ، ولكننا نعلم ان في طاقة الإنسان ان يتأقلم في وقت قصير حتى يصبح قادرا علي ان يعيش في أماكن مرتفعة ذات جو رقيق ، ولا يبعد ان تكون اشكال من الحياة قد نشأت على سطح المريخ وكيفت نفسها حتى استطاعت أن تعيش في جوه الرقيق
وقد ذهب العالم الفلكي الاستاذ لول lowel فى كتاب له يسمى Mars as the Abode of life إلى أن في المريخ صنفا من الخلائق الاذكياء ، ويقول إنه قد تبين على
سطحه عددا كبيرا من الخطوط الدقيقة يتقاطع بعضها مع بعض وتمتد مئات الاميال . وشاهد لول على سطح المريخ عدة نقط متفرقة يتقاطع في كل منها عدد كبير من القنوات ، وتظهر قائمة على سطحه وتغطى كل واحدة منها مساحة واسعه تبلغ آلاف الأميال المربعة ، ويسميها لول " الواحات ؟
ويعتقد لول ان هذه القنوات مزدوجة ، لأنها كانت تبدو له في شكل خطين متوازيين يبعد احدهما عن الآخر مسافة قدرها بنحو مائة ميل او مائتين ؛ وقد استدل من دراسته لعدد كبير من صور المريخ على أن هذه القنوات يتغير مظهرها في فصول السنة المريخية, فتختفي أو تبدو غير واضحة في فصل الربيع ثم تزداد وضوحا بالتدريج حين ينقص حجم الجليد الذي يغطي قطبي الكوكب ،
وتبدو كأنها تأخذ في الامتداد نحو خط الاستواء بمعدل خمسين ميلا أو نحوها في اليوم الواحد ؛ وكثيرا ما تتراءي له كأنها تمتد إلى ما بعد خط الاستواء في النصف الثاني من الكرة المريخية ؛ ثم تأخذ في الاختفاء بعد ذلك بالتدريج ، حتى إذا مضي نصف سنة مريخية على بدء اختفائها أخذت في الاستطالة مرة اخري نحو خط الاستواء ، مبتدئة في هذه المرة من ناحية الغطاء الجليدي لقطبه الثاني
ومن هذه الملاحظات استنتج لول أن على سطح المريخ جيلا نشطا ذكيا من الخلائق يكافحون أشد الكفاح ليحفظوا حياتهم في عالم جدب لا يسقط فيه إلا القليل من المطر او لا يسقط فيه مطر على الإطلاق . فهو يعتقد ان هذه القنوات مجار اصطناعية احتفرها سكان المريخ لتحمل الماء من الثلوج القطبية الذائبة نحو خط الاستواء لتروي به الأرض في الأصقاع المجدبة . أما البقع السوداء التي يسميها واحات فهي في رأيه بقاع واسعة تسقي بالماء
وتكون مراكز عامرة بالسكان يهرع إليها الناس من الأقاليم المجدبة التي ينضب منها معين الماء . ويؤكد لول أن بعض القنوات تختفي عدة سنين متوالية ، وان قنوات جديدة تظهر في اماكن لم يكن فيها قنوات من قبل ؛ وهو يعلل اختفائها بأن الطين يطمرها من حين إلى حين ، ثم تظهر بعد فترة من الزمان إذ تنشأ بدلها قنوات اخري جديدة .
ولما كان إنشاء شبكة من " القنوات " أو مجاري الماء لا تقل سعة المجري الواحد منها عن خمسين ميلا ، ويبلغ طوله مئات الأميال أو آلافها ، عملا ضخما لا يقوي عليه إلا صنف من الناس أكثر منا مدنية ، فان لول يعتقد أن في المريخ أناسا بلغوا درجة عالية من الرقي ، وهم أكثر منا ذكاء ونشاطا . وذلك من غير شك قول رائع جميل ، ولكن الذي ينقصه ان يثبت لنا بالدليل القاطع ان على سطح المريخ قنوات .
على أن من العلماء عالما آخر لا يقل عن لول حذقا وذكاء ، ويمتاز عنه بحدة بصره وبأنه قضى عدة سنين يرصد الكوكب بطائفة من أكبر المراقب في أمريكا . ومع هذا فانه لم يستطع ان يري هذه الشبكة الدقيقة من الخطوط الهندسية التي رسمها الاستاذ لول ووصفها ذلك الوصف الرائع ، واستدل منها على وجود سكان في المريخ . ذلك هو الأستاذ برنارد Barnard وهو من الفلكيين الثقات
وقد يكون هذا الخلاف الشديد بين الراصدين الثقات نتيجة عوامل نفسانية معقدة . ذلك أن الراصد يطيل النظر من خلال مرقبه في صورة للكوكب مكبرة إلي أقصي حد مستطاع . وهذا المرقب الذي ينظر الصورة من خلاله يكبر ايضا كل هزة تحدث في جو الكوكب ، فيؤدي ذلك إلى اضطراب الصورة التي أمامه وعدم استقرارها . وقد يسعده الحظ فتستقر الصورة وقتا ما ، ولكن العين لا تكاد تبدأ في تبين بعض دقائقها حتى تحدث هزة
اخري في جوه تفسد عليه الرؤية ، وتكون العين في ذلك الوقت قد لمحت بعض الدقائق الغامضة الكثيرة من غير شك على سطح المريخ ، فيربطها العقل بعضها ببعض بخطوط من نسجة وهو لا يدرك ما يفعله ، وبذلك تبدو الصورة النهائية وليس بينها وبين الأصل أو بين الصورة التى بدت لراصد آخر وجه شبه كبير وإن كانت خير ما استطاع الراصد أن يتبينه مما عنده من الآلات .
ومن ثم فان معظم الفلكين لا يؤمنون الآن بوجود هذه القنوات التي يقول لول بوجودها على سطح المريخ وهم لذلك لا يصدقون ايضا وصفه الرائع لسكانه الاذكياء الذين يغالبون الطبيعة في سبيل العيش والحياة . على أننا لا نستطيع أن نجزم بعدم وجود سكان في المريخ ، أو أن نؤكد وجودهم فيه . وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن جو المريخ صالح لوجود الحياة فيه ، وإن كان أرق من جو ارضنا ، كما ان درجة الحرارة على سطحه لا تمنع وجود الحياة ، وإن لم تكن هذه الحرارة من النوع الذي نرتاح
نحن لأن نعيش فيه ، فهي لا تزيد عند خط استوائه على ٥٠ فهرنهيت في وقت الظهر ، ثم تأخذ في الانخفاض بسرعة عندما تميل الشمس إلي المغيب ، حتى إذا غربت اشتد البرد في أثناء الليل حتى يصل إلي حوالى ١٣٠ تحت الصفر . ولا شك في أن الحياة أيا كان نوعها تكون حياة شاقة في هذا الجو الذي يبلغ فيه مدى الحرارة هذا
المبلغ الكبير في ذلك الوقت القصير . وفي ظننا أن ما قد يكون على المريخ من حياة في هذا الوقت لا يكون إلا في الحفر والكهوف التي تصلح وقاية من هذا البرد الشديد ، وان ما عسي ان يكون على سطحه من نبات لا يعدو ان يكون من نوع الطحلب والحزاز
وخلاصة ما قلناه أن الحياة غير مستطاعة في غير الأرض من مجموعتنا الشمسية إلا في كوكبي الزهرة
والمريخ ، وأن أحوال هذين الكوكبين مع ذلك ليست مما يلائم الحياة كل الملائمة ، واننا لا نعرف من أحوال الكوكبين ما يجعلنا نقطع بعدم وجود الحياة فيهما . واحوال الزهرة شبيهة بما كانت عليه الارض منذ ملايين السنين ، ولربما كانت احوال المريخ الآن تشبه ما سوف تكون عليه الأرض في المستقبل البعيد بعد ملايين السنين عندما تقل حرارة الشمس وينفد الجزء الاكبر من أكسجين الأرض .
بقي أن نقول كملة موجزة عن احتمال وجود الحياة في غير مجموعتنا الشمسية ، وهنا ايضا لا بد لنا ان نعتمد على الظن والترجيح ، ذلك اننا لا نعلم علم اليقين هل للنجوم مجموعات من الكوا كب مثل ما لشمسنا ؟ وإذا افترضنا ان لبعضها كواكب فليس في مقدورنا ان نعرف شيئا عن أحوالها الطبيعية . غير أن الذي لا شك فيه أن في الكون عوالم كثيرة غير عالمنا تعد بالملايين بقدر عدد ما كشف منها حتى الآن بنحو خمسة وسبعين مليونا ،
بشبه الكثير منها عالمنا في حجمه وفي كثير من ظروفه ؛ وأكبر الظن أن في هذا العدد الضخم شموسا ذات كواكب وتوابع ، ومن حقنا أن نفترض أن الظروف في بعضها مما يجعل الحياة عليه مستطاعة . وإذا أخذنا بما يقوله بعض العلماء من ان الحياة تنشأ عندما توجد الظروف التي توافق نشأتها ، فأكبر الظن أن في الكون عوالم كثيرة غير عالمنا توجد عليها حياة .
