الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 31الرجوع إلى "الثقافة"

هل يتصدع محور روما - برلين ؟

Share

ما كنت يوما من المؤمنين بأمكان حصول اتفاق سياسي بين إيطاليا والمانيا بصفة جدية تضمن استمراره لامد طويل ؛ ذلك لأن مصالح الدولتين في أوربا وخارجها تتعارض في كثير بل في معظم نواحيها . فسياسة إيطاليا الأوربية ترمي إلي استغلال اوربا الوسطى استغلالا تجاريا محضا

وقوام هذا الاستغلال هو أولا : استمالة دول أوروبا الوسطى ، وإقناعها بأن تتخذ تريستا الميناء الوحيد لتصدر منتجاتها الزراعية والصناعية ، وثانيا : العمل على استخدام المساقط المائية التي توجد بكثرة في منطقة الأديج العالي لإنشاء محطة ضخمة لتوليد الكهرباء بكميات هائلة تستطيع إيطاليا ان تبيعها لبعض الدول التي تجاورها من الشرق ، لاستخدامها في تسيير السكك الحديدية وإدارة المصانع .

وسياسة المانيا في أوربا ترعي إلي بسط نفوذيها              السياسي والاقتصادي علي وسط اوربا ، ومن مقتضيات بسط هذا النفوذ ان يكون لالمانيا منفذ على البحر الابيض المتوسط ، ولا يكون ذلك إلا عن طريق بحر الأدريانيك . فواضح إذا ان سياسة البلدين في أوربا تتعارض تعارضا تاما ، وليس ثمة مجال للتسوية أو الاقتسام .

اما خارج اوربا فكلتا الدولتين تسعي لايجاد منافذ في افريقيا وبلاد الشرق ، اما لتصريف صناعتها و لتيسير الهجرة للعمال وغيرهم من سكانها المتعطلين . وهذه المنافذ قد اغلقتها بريطانيا وفرنسا يبسط نفوذهما على هذه البلاد ، ولا يمكنهما ان تتخليا عن شئ منها لاشباع رغبات دولتين كبيرتي الاطماع . وإذا كان لا بد من التخلي عن شيء فلا يكون إلا القليل الذي لا يكاد يرضي إحدي الدولتين وعلى ذلك فليس من السهل تحقيق رغباتهما مجتمعتين

والإيطاليون يعرفون كل هذا ويخشون طمع ألمان في ميناء تريستا . والالمان كذلك يعرفون هذه الحقائق

ويتحينون الفرصة المناسبة لتحقيق أغراضهم . إلا أن إيطاليا تجاري المانيا مقابل ان تساوم على حساب انضمامها إليها ، كما ان المانيا تمهل إيطاليا مقابل أن تساوم على حساب جبهة المحور .

وكانت المانيا أبرع سياسة وأكثر توفيقا في الاستفادة من هذا التمثيل السياسي . وكلما كانت تحوز انتصارا في خطتها المرسومة ، كانت حقيقة الموقف تتمثل أمام عيني موسوليني ، وكان يهم بإظهار عدم الأرتياح ، وإفهام الخليفة بأن حبل الصبر قد أصبح علي وشك الانقطاع ، لكنه كان يجد ان الظروف غير مواتية ، وان الخير في الصمت ، بل وفي التظاهر بالرضا .

وأول ضربة أصابت المحور في الصميم ، وجاوب رنينها في برلين أنينا في روما ، كان استيلاء ألمانيا علي النمسا لقد أحس الدوتشي يومئذ أن الفوهرر لن يمهله حتى يساوم على حساب التعاون الفاشي - النازي المزعوم . وتذكر زعيم الفاشست تصريحه بأنه سيدافع عن استقلال النمسا حتي آخر جندي إيطالي . واتجه بأذنيه نحو انجلترا وفرنسا عله يسمع منها ولو كلمة تحريض ليبر بوعده للنمسا ؛ ولكنه لم يسمع من ناحية الدولتين الديمقراطيتين شيئا ؛ فصوب انفه نحو الشمال ، نحو منطقة الخطر ، فشم رائحة التذمر تنبعث من منطقة الاديج العالي ، وتبين له ان سكان هذه المنطقة ، وهم من أصل نمساوي ، يكادون بدافع كراهيتهم لإيطاليا ، ورغبتهم في مجاراة أبناء جنسهم ، ينادون بالانضمام إلي هتلر . فلم يسع زعيم إيطاليا أمام كل هذه الظروف والعوامل إلا الاستسلام لقضاء الله ، والتذرع بسياسة الصبر ، وهنأ صديقه بالنصر واسرها له . وحمد هتلر الله على آن صاحبه تحمل الصدمة ولم يضطره لاستعجال الحوادث .

ثم كان أن استولت ألمانيا علي بلاد السوديت فظن

موسوليني أن حليفة قد رأي أن يتجه اولا نحو الشمال ليضم البلاد التي سكانها من اصل الماني ، وانه سيمر بعض الوقت قبل أن يفكر في ضم بلاد التبرول إلي ألمانيا فتنفس زعيم إيطاليا قليلا ، وعلا صوته في التظاهر بالرضا عن السياسة النازية ، وعاد إلي الحديث عن المحور وفوائده لكن هذا الحال لم يدم طويلا ، إذ فوجي المحور بضربة اخري وهي استيلاء ألمانيا علي تشيكوسلوفاكيا وسمع أنين المحور بسبب ضربته هذه المرة في تريستا لا في روما . فهذا الميناء الذي كان يعج بالسفن ويضج بأصوات حركة النقل قد ساده السكون وكمدت فيه الأعمال . لأن صادرات وسط أوربا حولت وجهها شطر ألمانيا .

إلي هنا نفد صبر إيطاليا ، وحارت في أمر هذا الحليف الذي لا يحسن أي نوع من أنواع المجاملة ، وفكرت في التخلص منه ، فلجأت إلي الديمقراطيين تفاوضهم وتطلب منهم ترضية - ولو من طريق ذر الرماد في العين - في تونس أو في جيبوتي أو في قتال السويس ؛ لكنها لم تجد اذنا واعية ، ولم تعدها فرنسا بشيء قليل أو كثير ، ولم تجاملها انجلترا حتى بالتوسط بينها وبين فرنسا . عندئذ أحس موسوليني بخيبة الأمل ، وتيقن أن مشروع سياسة المحرر كان نكبة لإيطاليا ، ولم يكن وقع المصبية على موسوليني بأقل من وقعها على الشعب الإيطالي الذي لم يتمالك كبت عواطفه ، فباح بسخطه على هتلر وجهر بتخوفه من سياسة المحور . واعتقد موسوليني أنه يمكنه أن يخفف من حدة الموقف بتوريط زعيم النازي والتقرب إليه ، فطلب منه أن يمده بالخبراء العسكريين لتنظيم الجيش الأيطالي وتدريبيه ، ظانا أنه بهذه الحيلة يوجد جوا من التفاهم والمجاملة بين الألمان والإيطاليين ، لكن الأمر جاء بعكس ما أراد موسوليني ، وغضب رجال الجيش الأيطالي لكرامتهم ، وغضب الشعب الايطالي لغضب رجال الجيش ، وتطور تخوف الأيطاليين من الألمان إلي عداء لهم . ووجدت انجلترا الفرصة سانحة للايقاع - كما هي عادتها - بين الحليفتين ، فأخذت الصحف

الانكليزية والفرنسية تشهر برجال الجيش الإيطالي واستكانتهم لمثل هذا الاعتداء علي كرامتهم . ووجدت هذه الدعاية مجالا للتأثير ، وتحرج الموقف بين موسوليني ورجال جيشه ، حتى قيل إن الجنرال بأدليو هدد بالاستقالة واتباع سياسة معينة إذا لم يكف الكونت شيالو عن الاهتمام بتثبيت قواعد المحور . ولم يقتصر تذمر رجال الجيش الايطالي على الكلام بل تعداه إلي العمل . ففي أوائل الشهر الحالي نظم سلاح الطيران الإيطالي مناورة جوية على روما ، وكانت قيادة الطيران الحربي الألماني على علم بهذه المناورة ، فأرادت أن تعمل مفاجأة سارة للحليفة بإرسال ٢٧ طيارة المانية للاشتراك في هذه المناورة ، وما إن راها الطيارون الإيطاليون حتى خفوا إليها ومنعوها من دخول منطقة المناورة والاشتراك فيها ، فعادت من حيث اتت ، ولم يجرؤ زعيم الفاشست أن يبوح بكلمة إزاء هذا التصرف .

وفي وسط هذا الظلام الحالك الذي أحاط بالدونشي من كل جهة داخل بلاده وخارجها ، لأح له قبس من النور يخرج على هداه ولو إلى جهة ليست بأفضل مما هو فيه ، ذلك القبس هو تعقد مسألة وانزج وحاجة المانيا الشديدة إلي التظاهر بقوة المحور ، في الوقت الذي فاز فيه الديمقراطيون بانحياز تركيا وأمريكا وغيرهما إليهم .

رأي موسوليبي ان الفرصة سائحة للعمل علي التخلص من الخطر الجرماني الرابض في منطقة التبرول الإيطالية ، فعرض على زعيم النازي ترحيل سكان هذه المنطقة الذين هم من اصل الماني إلي المانيا مع تعويضهم عن ممتلكاتهم ، حتى لا يكونوا في المستقبل أداة تهديد لزحف المانيا نحو الجنوب ، فلم يجد الفوهرر بدأ من التظاهر بقبول الطلب خوفا من أن يتعجل تصدع المحور ، ولكن أتي له ان يؤوي نيفا ومائتي ألف نفس في بلد توزع حاجات المعيشة على سكانه بالقائمة ؟ بل اتي له ان يقفل بابا من أبواب اتجاهاته السياسية ؟ ( البقية هي الصفحة التالية )

الموقف دقيق ، وسان في ميدان التسويف و كسب الوقت متسع للجميع . ومن ثم اتفق علي تأليف اللجان للمفاوضات وعمل الاحصاات وتقدير قيم الممتلكات وتيسير الأماكن وغير ذلك .

وأحس الصديقان كل من صاحبه أن سياسة المحور لن تدوم طويلا ، وراح كل منهما يبحث عن عوض لأخيه . وها هي المانيا تستغل فشل مفاوضات روسيا والديمقراطيين لتتقرب من روسيا . ومهما يقال في هذا الصدد من أنه مستحيل ، ومن انه ضرب من خيال مروجي الإشاعات ، فإنا نعتقد أنه لم يعد في عالم السياسة شيء مستحيل ، وإن نجحت ألمانيا في استمالة روسيا إليها فعلي المحور السلام ، كما على اتفاقات الديمقراطيين مع دول شرقي اوربا الف سلام.

اشترك في نشرتنا البريدية