الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 252الرجوع إلى "الثقافة"

وباء المدنية

Share

إننا نعيش اليوم فى عصر من عصور التاريخ نزعم أنه (( عصر المدنية )) . ولكن ليس من شك فى أنا جميعا - حتى أكثرنا تفاؤلا - لا نعتقد أنه عصر كامل لا تشوبه الشوائب ولا تعيبه العيوب ؛ بل إن منا من يؤمن بأن المدنية مرض لا بد أن يصيب الأجناس البشرية المختلفة قبل أن يتكامل نموها ويتم نضجها . ولو صح هذا فالإنسانية ما تزال تشكو هذا المرض ، وتئن من ألمه المروع وفتكه الذريع ، وذلك لأن التاريخ لم يحدثنا عن شعب من الشعوب أصيب به ثم أبل منه ؛ بل إن الأمم التى طواها التاريخ جميعا بلغت أوج المدنية والحضارة ، ثم أصابها الجمود والخمود والفناء ، ولم تستطع أمة منها أن تخرج من هذا الدور - دور المدنية - إلى آخر بعده وأعلى منه مرتبة . فهل هذه (( المدنية )) هى أقصى ما يستطيع أن يصل الإنسان من حدود الكمال ؟

قد يبدو من الإسراف فى القول أن ننعت المدنية بأنها مرض أو وباء ؛ ولكن من الأدباء الباحثين المبرزين من يراها كذلك ، ولا يخشى فى إعلان كلمة لومة لاثم . ومن هؤلاء (ادورد كاربنتر) وهو يدعم رأيه بالحجة الدامغة ، والدليل الساطع .

يقول هذا الكاتب إن هذه الألوف المؤلفة من الأطباء برهان قوى على أن الإنسان من الوجهة الصحية فى حالة خطيرة حقا . وليت هؤلاء الأطباء يستطيعون أن يطبوا لأمراضنا ، أو يصفوا لها الدواء النافع ، والعلاج الناجح ! ارفع بصرك إلى قصور الأغنياء ، ثم اخفضه إلى أكواخ الفقراء ، فلن ترى إلا شحوب المرض ، ولن تسمع غير أنين الألم ! ومن العسير أن تقع عينك على شخص صحيح لم تجد العلة إلى بدنه سبيلا ، وما أيسر أن يصاب أحدنا بسعال أو برد أو زكام ، وبرغم ما بين أيدينا من ألوف

الكتب الطبية ، وما بلغنا من علم وفن ، فإنا لم نستطع أن نبلغ ما بلغ الحيوان من القدرة على العناية بأنفسنا . إننا ندفع ثمن المدنية من دمائنا وقلوبنا . إن إنسان المستقبل _ كما يقول باحث اجتماعى - مخلوق بغير أسنان ، أصلع ، لا أصابع له ، رخو العضلات والأعضاء ، لا يكاد يقدر على الحركة من مكان إلى مكان .

ولا تقتصر جناية الإنسان على نفسه ، وإنما هو يتجنى كذلك على ما يستأنس من صنوف الحيوان . فليس من شك فى أن الأبقار والخيل والأغنام والكلاب والقطط التى تساكننا ، أصبحت أقل احتمالا ، وأكثر تعرضا لضروب من الضعف والمرض لم تكن تعرفها حينما كانت تعيش عيشها الهمجى . إن المدنية ما مست جنسا من الأجناس البشرية المتوحشة إلا وأدخلت معها الأمراض الوبيلة ، كما تدخل الخمر وألوان الفسق والفجور .

ومرض المدنية هذا لم يصب منا الأبدان وحسب ، بل لقد لحق كذلك بحالنا الاجتماعية . فكما أن مرض الجسم ينشأ عن فقدان الانسجام بين الأعضاء ، فيحترب عضو مع عضو ، أو ينمو عضو على حساب الآخر ، أو تضعف الأجهزة بفعل الجراثيم والطفيليات ؛ فكذلك نجد الانسجام فى حياتنا الحديثة مفقودا ، ذلك الانسجام الذى تقوم على أساسه الجماعة قوية مترابطة الأجزاء . وقد حل محل الانسجام قتال بين الطبقات والأفراد ، وزيادة ونمو فى جماعة على حساب الأخرى ، وانحلال عام من جراء الطفيليات الاجتماعية الكثيرة التى تطلب العيش بغير عمل . إن الجماعات المتمدنة اليوم تشكو مرضا اجتماعيا لا شك فيه .

هذا من الناحيتين الجثمانية والاجتماعية . والحال كذلك أيضا فى الناحية العقلية ؛ ولا تقصد هذه الكثرة من المجانين الذين تقص بهم مستشفيات الجنون ويفيضون عنها ، وينتشرون فى كل نادر ومجتمع ؛ ولا نقصد هذه الأمراض العصبية التى زاد انتشارها فى العصر الحديث

زيادة تلفت الأنظار ؛ وإنما نقصد هذا الإحساس العجيب الذى نحسه جميعا ، ذلك الإحساس بالقلق العقلى الذى يميز سكان هذا الجيل ، والذى يعبر عنه (رسكن) بعبارته المشهورة : (( أيا كان ما نملك ، فنحن أبدأ نطلب المزيد ؛ وحيثما أقمنا فإنا نتطلع إلى تغيير المكان )) . وهذا الشعور بالقلق وعدم الاستقرار يتغلغل فى نفوسنا حتى يبلغ قرارها ، ويصيب الطبيعة الخلقية فيدفعنا إلى الإحساس بالإثم ، ذلك الإحساس الذى يجهله الوثنى ، ولا يشعر به الإنسان الأول ؛ وهو إحساس قد يكون مقدمة لخير مقبل ، ولكنه الآن دليل على اضطراب النفس ، وعلى اعتلال الحياة الإنسانية .

نحن حين نستعمل كلمة المدنية فى هذا المقال إنما نعنى هذه الحال الاجتماعية التى بلغناها ، ولا نقصد ما قد ينتهى إليه الإنسان فى تقدمه وتطوره . وقد بدأت هذه الحال عندما عرف الإنسان حق الملكية ، وما ترتب عليها من نظم وآراء ، وتقسيم الناس إلى طبقة تملك وطبقة لا تملك ، وقيام الحكومة على أساس الاحتفاظ بالحق المملوك ؛ ويضيف بعض الاجتماعيين إلى الملكية ، اختراع الكتابة وما تبعه من تدوين التاريخ وتسجيل القانون . وعلى هذا الأساس قامت مدنيات كثيرة قبل المدنية الحديثة فى مصر وبلاد اليونان والرومان . وفى هذه الحضارات جميعا ، لم تستطع (( المدنية )) أن تتخطى دور العلة إلى ما بعده ، بل سقطت وهى تئن من وطأة المرض .

ولكن هل كان الإنسان الأول خيرا حالا من هذا الإنسان المتمدن ؟ لا شك أنه كان أحط منه فى بعض الوجوه ؛ ولا شك كذلك أنه كان يفضله فى كثير من الوجوه ، ومن هذه الوجوه خلوه من كثير من الأمراض التى يعانى منها اليوم أخوه المتمدن . وإنك لو نظرت كذلك إلى الحياة الاجتماعية عند هذه الأجناس المتوحشة لألقيتها - مهما تكن بدائية - أكثر انسجاما من حياة

الأمم المتحضرة . فأعضاء القبيلة الواحدة لا يقاتل أحدهم الآخر ، ولا تنقسم الجماعة إلى طبقات متناحرة تعيش إحداها على الأخرى ، ولا تفتك بها الطفيليات البشرية ، والوحدة الاجتماعية قوية شديدة التماسك ، ولا تفصل بين طبقة وأخرى هوة سحيقة من علم أو ثروة أو سيادة ، أو غيرها من أمراض هذه المدنية .

ولا نشك أن البرابرة من الناحية العقلية خير من أبناء الأمم المتحضرة ، فهم يفكرون بالفطرة تفكيرا هادئا ، ولا يزعجهم هذا الإحساس بالإثم الذى يقض مضاجعنا . إن القلق الذى يساورنا ما هو إلا جزاء طبيعى لهذه الحياة المتشعبة الأطراف التى نحيا .

ولدينا فى الآداب القديمة وفى إلياذة هوميروس صورة من هذا الإنسان الهمجى القديم ، وهى صورة رائعة ولا مراء . وفى قصص (العصر الذهبى) و (الفردوس المفقود) ، معنى سقوط الإنسان من حال طيبة إلى حال بغيضة ممقوتة ؛ وهى تشير إلى أن أجناسا عديدة أحست بعدما سارت فى المدنية شوطا بعيدا أنها فقدت رضاها النفسى وطمأنينتها الساذجة الأولى ، ونحن لا نجزم بأن عهدا رخيا سعيدا قد ساد بين الناس فى الزمن القديم ، ولكنا نؤكد أن كلا منا يحس فى قرارة نفسه ألما روحانيا ، ما كان أغناه عنه لو أنه عاش عيشة ساذجة بسيطة .

هكذا كان الإنسان فى الزمن القديم ، وهو اليوم كما ترى ، على درجة يسيرة من الصحة والعقل والخلق والنظام الاجتماعى . فأى طريق يسلك لمستقبله ؟ ليس ثمة ما يدعو إلى التشاؤم . ولئن كان الطريق وعرا شائكا ، فسوف يأتى الوقت الذى تذلل فيه الصعاب حين يشاء الله ، وسيخرج الإنسان من هذه القيود التى تكبله حرا طليقا كما يخرج الطائر من البيضة بعد ما يحطم قشور البيضة التى تحويه .

ولا نشك فى أن الاتجاه سيسير نحو عودة الإنسان إلى الطبيعة ، وإلى حياة متسقة منسجمة . بل إن بوادر هذا العصر قد ظهرت بالفعل ، فالشعراء يمجدون الطبيعة ، والسخط شديد على الآلة ، ومن الناس من يأخذ بمذهب العرى . سيعود الإنسان إلى الفردوس المفقود ، أو قل إلى الفردوس المنشود ، وسيمزق ما أسدلته السنون السوالف على روحه من ستر حجبت عنه نور الشمس فعاش عيشا إلى الموت أقرب منه إلى الحياة ، وكأنه فى رمس ينتظر يوم البعث والنشور ، سيخرج الإنسان من دوره ومخابئه حيث هو الآن يتخفى كأنه مجرم يتوارى عن الأنظار ، وسيتخذ من الطبيعة بيتا له ، كما هى بيت الملائكة والحيوان . وقديما قيل : (( إن الإنسان يتستر باللبس ليهبط إلى الأرض، ويخلع الرداء ليرتفع إلى السماء )) . الإنسان روح قبل كل شىء ، وهو يكسو هذا الروح بمادة من طين هى لحمه وعظامه ودمه ؛ وعلى هذا الجسم يسدل جلود الحيوان والملابس ، ثم يتخفى بعد هذا فى بيت خلف الحوائط والسجف ، وهى مبالغة من الإنسان فى التستر والتحجب . وما أحرى الإنسان وهو يحمل على روحه هذا العبء الثقيل من جسم وملبس ومسكن أن ينسى أنه روح قبل كل شىء ، وما أحرى روحه أن تخمد شعلته ، أو يأوى إلى سبات عميق !

فإن أردنا لهذا الروح خلاصا ، كان واجبنا الأول أن تخلع عنه الرداء . إن الحياة داخل الدور وفى البيوت ينبغى ألا تشغل أكثر من زمن يسير من الحياة . وينبغى لنا كذلك أن نتخفف من الملبس ؛ إن حياة الهواء الطلق ، وإلف الريح والموج ، والطعام الساذج النقى ، وصحبة الحيوان - كل أولئك يرد إلى الإنسان علاقته بأمه الطبيعة التى فقدها منذ سنين . وقد يقول دعاة المدنية الغربية إن قسوة البرد لا تشجع الإنسان على الحياة خارج الدور ، وما أيسر الرد على هذا الاعتراض ، فمن ذا الذى

قال إن موطن المدنية لا بد أن يكون فى الجهات الباردة ! إن البلاد الحارة والبلاد ذات المناخ المعتدل أكثر ملاءمة لنمو المدنية وتقدم الحضارة الحق . ويقول (كاربنتر) بالطعام النباتى ، ويزعم أن أكل اللحوم يؤدى إلى إضعاف الجسم وإصابته بكثير من الأمراض . وبهذه الحياة البسيطة التى يشير بها الكاتب يخف عبء المادة التى يكتسى بها الإنسان ، فتنعدم الهوة التى تفصل اليوم ما بين الجسم والروح .

يجب ألا يكون بين الإنسان والطبيعة هذا العداء الذى نعمل على إثارته . إن الإنسان بحياته التى يحيا اليوم هو الحيوان الوحيد الذى ينبو عن انسجام الطبيعة واتساق أجزائها ، وكان بوسعه أن يجمل الطبيعة ويزينها . إن الذئب لينشىء بيته فى الأحراش فيضيف إلى جمالها جمالا ، ولكن الإنسان حين يقيم بيته هناك فكأنه شيطان حل ترحل عند قدومه الملائكة ، إن الرجل من قبائل البشمان البدائية يستطيع أن يختبىء بين الصخور العارية ، فلا تمييز بينه وبين الصخر ، ويثنى جسمه الأصفر الدقيق وكأنه فرع من دوحة عظيمة ؛ ولكن الإنسان المتحضر إذا أقبل وعلى رأسه غطاء ، وفوق جسمه رداء ، ولت عند رؤيته الطيور من فوق الأغصان وهى تصبح فزعا ورعبا  . إن مجد الإغريق يرجع إلى أنهم قبلوا الطبيعة وقدسوها وعملوا على كمالها . إنما نتطلع إلى ذلك اليوم الذى يشيد الإنسان لنفسه فيه مسكنا ساذجا يلائم زوايا التلال وشطآن الأنهار وأطراف الغابات ، ولا يئلف انسجام المناظر الطبيعية وغناء الطيور . الطبيعة تمدنا بالعلم والموسيقى والفن ، وكل ضرب من ضروب اللهو والمتعة ، وإذا ما عدنا إلى أحضانها وجعلناها ملكا لنا جميعا ، فلن يبقى ثمة داع للملكية الشخصية ، أو تجميع الثروة ؛ وبضربة واحدة سيمحى من هذا العالم نصف ما به من مشقة وعمل وعناية بشئون البيت ، وستتحطم هذه النوافذ والأبواب التى تصد عن الإنسان الطبيعة كما تصد أخاه

الإنسان ؛ وسينشر ضوء الشمس والهواء فى أرجاء البيت ، ويخرج الإنسان أنى شاء وحيثما أراد ، وستنهار هذه الأغلال التى تقيدنا بالدور والمنازل .

فى هذه الحياة الإنسانية الجديدة ستقوى الروابط الاجتماعية بين الناس ، ويسود بينهم التعاطف والتعاون كما يسود بين أبناء الأسرة الواحدة ، ويصبح التعاون غريزيا تلقائيا ، يساعد الجار جاره كما تساعد يسراك يمناك ، وسيقوم كل إنسان بالعمل الذى يجب دون أن يفكر فى أجر أو مثوبة - ويا له من أمل عظيم ! سوف يصيب كل عامل جزاءه الطبيعى ، كما يتدفق الدم إلى العضو الذى يكد ويجهد ، وسينتهى كل هذا النزاع القائم على العمل والأجر ، والتناحر بين الواجب والعاطفة .

هذه هى الاشتراكية التى تعاديها المدنية كما تعادى الدين .

وستختفى الحكومة والقوانين من وجه الأرض ، لأنها لم تقم إلا لتحل محل حكومة النفس وقانون الضمير ؛ إن الجماعة إذا ارتفعت إلى أعلى مراتبها لم تعد بها حاجة إلى قيام الدولة وانقسام الناس إلى حاكم ومحكوم .

وقد تبقى الآلة فى هذه المدينة المنشودة ، ولكنها سوف تخضع للإنسان - بعدما خضع لها روحا من الزمن - وتعمل كغيرها من العوامل على تحريره من ربقة العمل ، وعلى زيادة قدرته وقوته .

فى المدنية الجديدة يشعر الإنسان باتحاده مع أخيه الإنسان ، ومع الجدول والنهر ، والتل والجبل ، والأرض والنجم ؛ ولا يحس بالعزلة والأنفصال عن الطبيعة ، مما يؤدى به أحيانا إلى الانتحار والفرار من هذا العالم البغيض!!

اشترك في نشرتنا البريدية