الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 345الرجوع إلى "الرسالة"

وبشر أيضاً!!

Share

يقول بشار بن برد لخلف بن أبى عمرو في حديث جرى  بينهما معابثة ومزاحاً: ارفْق بعمرو إذا حركتَ نسبته ... فإنه عربيٌ من قواريرِ

وصديقي     (بشر)   قارورة عطر نشوان من نفحات روحه،  قارورة عربية معربدة تختال بطيها تياهة من الخفة والطرب.  وأنا أرفق به ولكنه يأبى - كرماً منه - إلا أن يتحطم في يدي  ليسكب طيبه عليها فيعبق بها، ويبقى أبداً يتضوع منها نسيماً  يسكر، ويعلق بهذا القلم من عطره أثر خالد كرائحة الحبيبة  في ذكرى المحب، و   (للرسالة)  بعد ذلك من شذاه ما يفور  وما يتوهج وما يسطع من نضج عبيره. وبشر - هذا الإنسان الرقيق - يتجهم لي ويملأ علي   (بريد

الرسالة)  زلزلة ورعداً وبرقاً وصواعق. . . ويبصرني بفروق اللغة  بين   (وضع بحراً)  و   (اخترعه) !! وأنا بلا شك لا أستطيع  أن أشغل نفسي بتبصيره بمنطق اللسان العربي. ثم لا يكتفي بهذا  بل هو يغلو في تقديري فيعدني من   (الخلق)  الذي يقف على  معاني الألفاظ العربية من   (إلا كباب على قراءة الصحف  اليومية) !! كلا، بل يجوز ذلك فيعلمني مجاز العربية وحقائق  بيانها ودقائق ألفاظها!! أوه، بل هو يعرفني بالقرآن لأني    (من عامة الناس في هذا الزمان)  ممن يفهمون القرآن  - كلام الله - بما يغلب عليهم من عامية العصر!! ولا يكون  كل ما يكتبه     (بشر)   من علمه هذا   (إلا على جهة التسلي  والتلهي) ! بلى، فهو يرحمني ويشفق على أن يدخل بي في المقاييس  العربية الدقيقة الغامضة التي تستهلك قوة العقل والإدراك، فهو  يأخذني من قريب!! وأنا قد أخطأت وأسأت وأثمت وحبط  عملي، ومحقني اندفاعي إلى شعر بشر   (أتلمس)  - هكذا قال  بشر - أتلمس له الخطأ!!

ولا كل هذا أيها العزيز،   (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا  ما ترك على ظهرها من دابة) ، وأنا يا بشر لا أطاولك في علم  ولا فقه ولا بيان ولا معرفة، فأنت أنت، وأنا حيث أنا من العجز  والبلادة، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. ومن جَهِلتْ نَفْسُه قدرهُ ... رَأَى غيرهُ منْه ما لا يَرَى

وأنا يا صديقي أقل شأناً وأضعف من أن أجرى في عنانك،  ولكنك - إذ كتبت ورددت وأعطيتني فوق ما أستحق في نفسي -  تحملني على المركب الصعب، فكان أولى بك أن تهملني، فإما إذ  أبيت فلا بأس عليك إذ أنا أقحمت نفسي معك؛ فاصبر على هذا  البلاء   (فالحر يظلم أحياناً فيظلم)

وقد زعموا - أيها العزيز - أنه كان رجل عبادي بالحيرة  البيضاء، فلاقى ضحضاحاً من الماء لابد له أن يجوزه ويخوض فيه،  فاستعان الله وأقبل على الماء - وهو إلى الكعبين حسب - فلما  دخله صاح:   (الغريق، الغريق!)  يستنجد أصحابه، فتناولوه  يسألونه: ما دعاك إلى هذا وليس غرق؟ فقال:   (أردت  أن آخذ بالحزم)

وأنت - أيها الصديق - تأخذ بهذا الحزم، فتهرول إلى    (لسان العرب) ، و   (أساس البلاغة)  و   (الألفاظ الكتابية)   تحشد لي ما جاء فيها من مادة العربية في قولهم     (زلزل)   ولا تكتفي  بهذا بل تسعى إلى   (الأغاني)    (طبعة بولاق!)  تقلب أوراقه،  تستخرج تراجم المغنين وأصحاب الملاهي كإسماعيل بن جامع وإبراهيم  ابن ميمون الموصلي - وغيرهما في دواوين العربية وأصولها -  فتفلي ألفاظها وتجري عينيك وراء إصبعك على حروف الكلمات  عساك تقع على جملة يكون فيها     (زلزل)   وما يخرج منها وما يتداعى  إليها، ولا تكتفي أيضاً فتتناول من بين كتبك أحد فهارس  القرآن الكريم -   (وهو الحجة العليا في مثل هذه المشكلات)  -  كما قلت وإن لم تقل، فتجد اللفظ في آيات بينات منه. فتجمع  ذلك كله في مقالك - أو ردك على - حشداً بارعاً عظيما  تضاهي به عمل   (المستشرقين)  الثقات الإثبات المتضلعين المتقنين المجيدين! الذين لا يدعون للحرف مكاناً إلا نبشوه  وتقصوه ورموا بعضة فوق بعض   (أخذاً بحزم العبادي. . .)  الذي  عرفت. وهو أسلوب فاسد عندنا لا يعول عليه في الحجة، وإنما  هو أسلوب ضروري حسن حين يراد منه المقارنة والتدبر  لاستخراج المعاني من الألفاظ وبيان سرها من الحقيقة والمجاز  ودقة التصوير للأغراض التي نصبت لها هذه الألفاظ.

والنصوص التي جمعتها وحشدتها ورتبتها تختلف في حقائقها  ومجازها في العربية، وأنت لم تشرح حرفاً واحداً منها تبين عن  وجه مجازه على العبارة التي وقع عليها، ولو كنت فعلت ذلك  أو أحسنته لطويت كل الذي نشرته عليّ وعلى القراء. . . تعلمني به  ما غاب عني من   (القرآن وهو في صدري، والتفسير والحديث واللغة  وهي شواغلي)  - كما تقول - وأنا لا أضن عليك، أيها  الصديق، بما يجعل لحشدك هذا - الذي رعتنا به حين قذفته  علينا - قراناً ونظاماً يسلك فيه ويمضي عليه، ويعرف به من  لا يعرف سر البيان وكيف يكون مجازه على طريق اللسان العربي  المبين!! فأصل الحرف   (زلزل)  من   (زلّ الشيء إذا زلق فتحرك  فتدأدأ، فمر مراً سريعاً في ذهابه عن مستقره) . فلما ضعفت

العرب الحرف، فقالوا:   (زلزل وتزلزل) ، ضاعفوا معنى هذه  الحركة، فكان معناها الحركة الشديدة العظيمة والاضطراب  والتزعزع، وتكرار هذه الحركة مرة بعد مرة، حتى كأن بعض  الشيء يزل عن مكانه، فينقض على بعض ويتساقط ويتقوض.  وإذن، فشرط مجاز هذا الحرف أن يكون لشيء يتحرك حركة  عظيمة شديدة، فالرجل يتزلزل، والأقدام والأيدي والرؤوس  والقلوب وما إليها من أعضاء الإنسان المتحركة حركة ما، وكذلك  الحيوان كالإبل جاء راعيها بها   (يزلزلها)  أي يسوقها سوقاً عنيفاً  كأنها تزل معه مرة بعد مرة، والمكيل في مكياله كالبر والشعير  كل يتزلزل لأنه يحرك فيتحرك، والدار والأرض والدنيا كلها  تتزلزل لأنها تتحرك أو يجوز عليها الحركة فيتهدم بعضها على بعض،  والنفس كذلك لأنها تضطرب في حيزوم المحتضر اضطراباً شديداً  يتجلى في الكرب الذي يلحقه والضيق الذي يأخذه، فينتزع  الأنفاس، ويضطرب القلب بالنبض الشديد، ويزيغ البصر،

وتتحرك اليد والرجل في الحشرجة حركة كثيرة  شديدة بتردد النفس في نزاع الموت والحياة. ومع  ذلك فأنا أدع أشياء كثيرة لا أتناولك منها أيها الصديق.

أما الأُذن. . . فالإنسان من بين جميع الحيوان  هو الذي لا يحرك أذنيه ألبتة، لا في طرب  ولا غضب، فما بالك وهي ليست مجرد حركة،  وإنما هي حركة شديدة مهدمة لأنها زلزلة. فإذا  علمت ذلك وتلقيت وتدبرته وأحكمته ولم يأخذك  العناد عليه عرفت أنه لا يمكن أن تقول   (أذني  زلزلت)  لأن الزلزلة تتطلب أصلها المقرر وهو  الحركة والانتقال والزلة بعد الزلة من مكان إلى  مكان ولو على وجه المبالغة. فدع أذنك من آذان  خلق الله الذين صورهم فأحسن صورهم - إن شئت.  وأنا لا أصنع في كلامك هذا تعباً فأتلمس لك الخطأ  كما تزعم، ولكن انظر يا بشر كيف يتكلم الشعراء

عن الآذان وعن الزلزلة؛ يقول بشار في مغنية:

لعمُر أَبى زُوَّارِها الصّيدِ، إنهم ... لفي مَنظر منها وحسنِ متاعِ

(تُصلى لها آذانُنا) وعُيوننا ... إذا ما التقينا والقلوبُ دَوَاع

إذا قَلدَت أطراَفها العود   (زَلزلتْ ... قلوباً)  دَعاها للوساوِس داعِ

يروحون من تغريدها وحديثها ... نَشاوَى، وما تسقيهم بصُواع

لعوبٌ بألباب الرجال وإن دنت ... أطيع التُّقى والغي غير مُطاعِ

فانظر صلاة الآذان بالخشوع والإنصات والسجود للصوت،  وتأمل زلزلة أوتار العود التي تزلزل القلب بوقعها وتوقيعها. وكيف  أتم المعنى بذكر الوساوس وهي قلق واضطراب. . . وأما أنت  أيها العزيز

فلا تذهبْ بحلْمك طامياتٌ ... من الخُيلاءِ ليس لهن بابُ

فإنك سوف تحكمُ أو تَناهَى ... إذا ما شبتَ أو شاب الغرابُ

اشترك في نشرتنا البريدية