بدات موجات الجدل العنيف التى اثارتها قضية الشعر العربي الجديد تنحسر شيئا فشيئا ، وبدأت اسس هذا الشعر ودعائمه تزداد مع الايام ثباتا ورسوخا ، وبدأت طريقة تتضح وتمتد في ثقة وتوهج غير عابئة باشلاء المتطفلين او بهجمات الجامدين الحانقين الذين استنفدوا عيدان كناناتهم دون ان يصيبوا منه مقتلا . واذا كانت هذه الاشكال الشعرية الرشيقة قد غرت عددا كبيرا من المتشاعرين الذين هللوا لها وانساقوا فى تيار التقليد الاعمى والخبط فى فوضى التعبير ، فثمة فئة اخرى ادركت بوعيها الادبى الحى وباصالتها الفنية المتجددة انه لابد لكل جديد ان يكون في بدء من التفهم العميق والتمثل السليم لما فى تراثنا الادبي وما فى تراث سائر الامم المتحضرة من روائع انسانية خالدة تعتبر الخميرة التى لا غنى عنها لكل اجادة فى التعبير الفنى شعرا كان امر نثرا
والشاعرة الفلسطينية الشابة فدوى طوقان من هذه الفئة الطيبة التى تمد ادبنا المعاصر بنسغ الشباب المتجدد ابدا معطية الدليل بما توفر لديها من شاعرية فذة ، على ان الشعر الجديد قد اجتاز الازمة ، او المحنة اذا شئت ، موفور العافية ليسهم فى تطوير قيمنا الثقافية وفى اغناء التراث الانسانى بكل جديد رائع .
وديوانها الاخير " وجدتها " الصادر عن دار الآداب في بيروت شاهد قوي على مدى الشوط الذى قطعه الشعر العربي المعاصر ، والديوان يحتوى على مجموعة من القصائد وعلى قصة شعرية بعنوان " هو وهى "
واول ما يستلفت انتباه القارىء هو العنوان الذى وضعته الشاعرة لديوانها فما هو الشئ الذى وجدته فدوى ؟ لكى ندرك هذا الامر ينبغى ان نلقى نظرة عاجلة على ديوانها الاول " وحدى مع الايام " حيث تبدو الشاعرة فتاة حائرة قلقة تضطرب نفسها بين اليأس والرجاء بين التطلع الى اجواء رحبة تحقق فيها
ذاتها كانسانة ، وبين واقع خانق يفرض عليها حياة خانعة ، تحيط بها جدران " الحريم " .
لقد استطاعت فدوى طوقان ان تهدم جدران السجن الذى تجتر فيه فتياتنا الشرقيات وجودهن وتمكنت من الاندماج بكل ما في الحياة من الم وحب وعطاء ، واطلت علينا فى قصائدها الجديدة بروح حرة متوثبة :
وجدتها . . يا عاصفات اعصفى
وقنعى بالسحب وجه السما
ما شئت يا ايام دورى كما
قدر لى مشمسة ضاحكة
او جهمة حالكة
فان انواري لن تنطفي
وكل ما قد كان من ظل
يمتد مسودا على عمري
يلفه ليلا على ليل
مضى ، ثوى فى هوة الامس
يوم اهتدت نفسي الي نفسي
( الديوان ص 40)
لقد وجدت فدوى نفسها اذن وحول هذا الامر الهام تدور معظم قصائد الديوان ، فتحدثنا الشاعرة بصراحة وجرأة نادرتين عن حبها ، عن فتى احلامها عن شكوكها محطمة بذلك الحاجز الكبير حاجز التقاليد والاعراف الاجتماعية من ناحية ثم " الحاجز الآخر الحاجز المنصوب فى اعماقها . . حياؤها كانثى وخفرها كامرأة من الشرق المسلم " كما يقول الشاعر السوري شوقى بغدادي فى حديثه عن الديوان فى مجلة " الثقافة الوطنية " البيروتية :
نادني من آخر الدنيا ألبي
كل درب لك يفضى هو دربى
ياحبيبي انت تحيا لتنادي
ياحببي انا احيا لالبي
صوت حبي
انت دنيا ملء قلبي
كلما نادينتي جئت اليك
فكنوزي كلها ملك يديك
بينابيعي باثماري بخصبي
ياحبيبي
) الديوان ص ٨٠ (
والى جانب هذه الوجدانية العميقة التى تلون اكثر قصائد المجموعة تبرز وطنية الشاعرة وايمانها بعروبتها فى قصيدة " شعلة الحرية " التى قالتها بعد الاعتداء الاثيم على مصر ، ذلك الاعتداء الذي اهترت له النفس العربية كلها من الاعماق ، وانتفضت فيها كل احاسيس الحياة وكل قوى الدفاع عن ذاتها وعن بقائها وعن اكبر مطامحها وانبل اشواقها الانسانية :
هبة الله السخية
هذا الشعلة ارث البشرية
ارفعيها انت يا مصر ارفعيها
للملايين الذين
كم حتى اعناقهم ذل السنين
هذه الشعلة من قال يلاشيها الطغاة الغادرون البغاة المجرمون
وهي أرث البشرية
هبة الله السخية
) الديوان ص34
ولا تنسى الشاعرة وكيف يمكنها ان تنسى ماساة وطنها السليب ، فمن اعماق فرحها بالحياة وتغزلها المتوثب شبابا وتفتحا وعاطفتها الصادقة ، تبدو لنا قصيدة " نداء الارض " فاتحة الديوان حزينة موجعة تتحدث فيها عن المرارة المتجددة فى نفوس ابناء وطنها المشردين والحلم الجميل الذي يراود مخيلتهم يوم يعودون من " الارض الغريبة " الى " الارض الحبيبة " :
اتغصب ارضى ؟ ايسلب حقي وابقى انا
حليف التشرد اسحب ذلة عارى هنا
سأرجع لابد من عودتي
سأرجع مهما بدت محنتي
وقصة عاري بغير نهاية
سأنهي بنفسي هذي الرواية
) الديوان ص ١٠ (
اما القصة الشعرية التى تجيء فى نهاية الديوان فتروى حكايية حب بين فتاة من فلسطين وفتى من مصر جاء مع المجاهدين ليساهم فى انقاد الارض التى اضاعتها الخيانة ، وينمو هذا الحب فى ساحة الكفاح ، ثم يعود الفتى الى بلاده وتلحق الفتاة به بعد عامين حيث يتناجيان طويلا ، ويطهران نفسيهما بالاعتراف وتنتهى القصة دون حل حاسم .
وبعد فديوان فدوى طوقان الجديد فتح فى الشعر العربى المعاصر ، رغم ما يشوب بعض قصائده من سرد نثرى ، ومن اهمال في انتقاء بعض المفردات والتعابير الغنية ، وما يضطرب فيه من صور تجريدية تفتقر الى الحرارة والحركة ولكن هذه الهنات اليسيرة لا تقلل من اهمية الديوان الذي يدل بحق على ما وصلت اليه الشاعرة من مهارة واتقان فى استعمال اداتها الفنية وما اغتنت به نفسها من احاسيس وتجارب اضفت على شعرها مسحة محببة من مرح الحياة وانطلاقة الشباب .
