الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 312الرجوع إلى "الثقافة"

وديعة ميا فارقين

Share

سيف الدولة على بن حمدان امير حلب والعواصم يخط بسيفه مملكة في ثغور الروم ، ويقرها علي الزلازل ، ويثبتها على الأهوال ، ويمكنها في مضطرب الامواج ، ومدارج السيول .

لبث الرجل عشرين عاما يغزو الروم ويدفع غزواتهم ، ويجاهد وحده هذا العدو الذي جاهده العرب وجاهدهم

منذ زال سلطان الروم عن الشام ، لا تفتر همة على بن حمدان ولا يكل عزمه ، ولا تفل ثباته وجيوش الروم وأتباعهم تطغى على البلاد العربية موجة بعد موجة ، فتتكسر علي هذه الصخور من الشجاعة والعزم والجهاد والصبر . ويسيل السيل بعد السيل فيصده هذا  السد الذي مكنته شجاعة سيف الدولة وجنده القليل . وكم نكبت جيوش سيف الدولة فما وهن ولا استكان . ولا ساير الزمان ،

ولا أخلد إلي السلامة ، ولا آثر العافية ، ولكن الحوادث انجلت عن هذا الوجه الوضاء بساما للخطوب ، وهذه العزة القعصاء راسية علي الأهوال :

وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردي وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمي عزيمة   ووجهك وضاح وثغرك باسم

وبنو بويه في بغداد ، والأخشيديون ثم الفاطميون في مصر بمعزل عن هذه الحوادث ؟ اسلموا الأمير الحمداني لهذا الجلاد الدائب والعراك المتواصل

  أنت طول الحياة للروم غاز   فمتى الوعد أن يكون القفول

وسوي الروم خلف ظهرك روم      فعلي أي جانبيك تميل

قعد الناس كلهم عن مساعيك  وقامت بها القنا والنصول

ما الذي عنده تدار المنايا    كالذي عنده تدار الشمول

(2)

هذه سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة والسيف العربي الذي قارع الروم عشرين ياما لم يفل ، والعزم الذي استكبر على النير حقبة طويلة لم يضعف ؛ ولكن سيف الدولة مريض ، عرضت علة لجسده وكبرت عن العلل روحه ،

وقد حاصر الروم طرسوس واستغاث أهلها الأمير العليل ، فلم يقعد به مرضه ، ولا بعث للعدو قائدا غيره ، بل ركب  في الجيش المرزأ بالسيوف المقللة يجيب الصريخ ويغيث أهل الثغور ؟

 وغر الدمستق قول الصداة   إن عليا ثقيل وصيب

   وقد علمت خيله أنه   إذا هم وهو عليل ركب

وخلف الروم لقاء الأمير الذي عرفوه ، وقتال الجيش الذي خبروه ، فتركوا طرسوس وقفلوا إلي ديارهم . وانفرجت الغمة عن طرسوس وما يليها

سبقت إليهم مناياهم   ومنقمة الغوث قبل العطب

فخروا لخالقهم سجدا     ولو لم تغث سجدوا للصلب

كم ذدت عنهم ردي بالردي      وكشفت عن كرب بالكرب

وبقي الأمير العليل يستقل بأعباء الجهاد ، ويحمي وحده الثغور :

أتري المسلمين مع المشركين    إما لعجز وإما رهب

    قليل الرقاد كثير التعب    وأنت مع الله في جانب

على بن حمدان مريض ، يحارب عدوا شديدا ، ويلقي خطوبا سودا ؛ ولكن على الأسد أن يحمي قبيله ، والفحل

يحمي شوله معقولا . يمضى الرجل في جلاده على العلات وعلى رغم العدو والحادثات ، وامراء العرب والمسلمين من خلفه كما قال أبو الطيب لهذا الأمير العظيم :

ألهي الممالك عن فخر قفلت به   شرب المدامه والآوتار والنغم

(3)

في شهر صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة في مدينة حلب يمرض ابن حمدان البطل مرضه الأخير ، وينظر وراءه إلي ثلاث وعشرين سنة من المجد ، والكد ، ويتمثل الخيل المغيرة والنقع المثار ، والسيوف المتضاربة ، والرماح المتطاعنة ، والكر والفر ، والهزيمة والظفر ، ويتذكر من ثبت ومن فر ، ومن وفي ومن غدر ، كما يتمثل الشعراء أمامه يسجلون وقائعة ، ويخلدون ماثره ، والعلماء والأدباء يأتونه من كل صوب ينشرون العلم في كنفه ،

ويجتمعون من الحوادث في جانبه ؛ وتمر بخياله الحوادث حلوها ومرها ، والايام خيرها وشرها ، فيبسم بسمة الرجل ادي واجبه ، ووفي بعهده وترك وراءه صيتا بعيدا . وذكرا حميدا .

وهذه الساعة الثالثة من يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة ، والأمير العظيم على فراش الموت يود لو جمع تاريخه في كتاب ، وأحصيت وقائعه في سجل يأخذه بيده في ساعته الأخيرة ، ليلقي ربه بما قدمت يداه ، وبما جاهد في سبيل الله ! بل يود لو صورت الخطوب ،

ومثلت الحوادث ، وطوي التاريخ في صورة مجسمة ليصحبه في قبره ، ويؤنسه في وحشته ، ويمضى معه حجة ناطقة ، وشهادة ناصعة . وكيف تصور الخطوب ، وتمثل الحوادث ، ويطوي التاريخ مجسدا ؟

يقول سيف الدولة : هاتوا اللبنة ! قد نفضت دروعي بعد الوقائع ، وجمعت ما عليها من الغبار وصنعت من

هذا الغبار لبنة على بهذه اللبنة لأراها ، فإذا مت فضعوها في لحدى عت خدي )

ونقلت جثه الأمير الكبير ، وللبنة الرجل المجاهد إلي ميافارقين فدفنا في التربة التي دفن فيها سيف الدولة والدته فيا ليت شعري أين في ميافارقين قبر سيف الدولة .

وأين من تربتها تلك اللبنة ؟ تلك الهمة المجسمة ، والمجد المجسد ) اين تلك اللبنة التي يشاد عليها صرح من المجد منيف ، ويبني بها ملك من العزة شامخ ، تلك الحجة التي لم يذل بمثلها بطل ، ولا ظفر بنظيرها مجاهد !

لقد صور سيف الدولة من غبار الوقائع لبنة .

فليصور كتابنا وشعراؤنا هذه اللبنة جهادا وعزما وعزة ومجدا ، وليجعلوها في المفاخر مثلا سائرا ، وفي الأدب نثرا بليغا وشعرا رائعا ) ١ ( ليقرأوا فيها شعر ابي الطبيب في سيف الدولة ، أو فلينشدوا فيها شعرا أروع من شعر أبي الطيب . فما أنقد شاعرنا مجد أميرنا وإن قال :

شاعر المجد خدنه شاعر اللفظ   كلانا رب المعاني الدقاق

اشترك في نشرتنا البريدية