للعرب موطن واحد أو مواطن متصلة، مترامية بين هضب إيران وبحر الظلمات . وسعة هذا الموطن لم توهن الصلات بين أرجائه المتنائية ، فكانت متعاونة متواصلة ، على حين لم يكن للناس من وسائل الاتصال وطرق التعارف ما كشفت لهم الحضارة الحديثة ، وقد خضعت هذه البلاد كلها حيناً ، ومعظم البلاد الإسلامية الأخرى لدولة واحدة الكلمة العليا فيها لرجل واحد ، يشرف على هذه الأقطار الواسعة ويدبر أمورها العليا . وكأنما زويت للعرب جوانب الأرض فتدانت أطرافها أو كأنها كانت مصورة على خريطة ، كما قلت في الخليفة الوليد :
دانت لسطوته البلدان واجتمعت
في همة العرب أقطار وأمصار
كأن ما بين شيخون وقرطبة
على الخريطة للرائين أشبار
فكيف وقد قرب العلم والصناعة ما بين أقطار العالم كله ، وصار ما بين مشرق الأرض ومغربها أيسر على المسافر وأقرب مما كان قديماً بين أرجاء القطر الواحد . كيف وقد صار الإنسان
يسمع الإنسان يتكلم في أقصى الأرض، ويعرف الأحداث التي تقع في أبعد الممالك أسرع مما كان القدماء يعرفون أحداث المدينة الواحدة
لقد طويت المسافات والأوقات ، وتدانت الأبعاد والآماد . فما سعة الوطن العربي بحائلة دون اتصال أقطاره وتعارفها وتعاونها وتآخيها .
ولهذا الموطن الشاسع لغة وأدب وتاريخ وثقافة ، كانت وما تزال على تطاول العصور ، وتنائي الديار، واحدة أو كالواحدة . فأما اللغة فقد بقيت لغة القرآن شائعة في هذه الأقطار مسيطرة عليها ، فنشأ ما نشأ من اللغات المحلية أو العامية ، ودامت اللغة العربية ملتقى عقولهم وعواطفهم ، وترجمان آمالهم وآلامهم ، ووسيلة تفاهمهم وتعارفهم . فما يلتقي عربي بعربي مهما تباعدت ديارهما إلا ارتفعا قليلاً عن لغتيهما المحليتين إلى العربية الجامعة الواسعة فتحدثا بها ، وتعارفا بما علمتهما العربية من قبل من تاريخ وأدب وما طبعتهما عليه من عواطف وآداب ، وكأنهما أخوان فرقت بينهما الحادثات حيناً ثم اجتمعا .
وإذا تحدثا في التاريخ رجعا إلى أواصر جامعة، ومفاخر مشتركة . فإذا ذكرا خليفة أو ملكا أو أديباً أو شاعراً أو كاتباً أو متكلما أو محدثاً أو مفسراً أو فقيهاً أو فيلسوفاً ذكرا رجالا ليس أحدهما أولى بهم من الآخر ، وسمع كل من أخيه ما يعرفه أو ما يسره أن يعرفه من تاريخه ، وإذا تحدثا في الحاضر فبينهما على العلات عواطف مولفة ، وثقافة مقربة ، اجتمع على تأليفها الماضي والحاضر . وكثيراً ما لقينا العرب من غير ديارنا في أوطان عربية وغير عربية فما تناكرت الوجوه ، ولا تقاطعت الألسن ، ولا تباعدت العواطف ، ولا اختلفت المعارف إلا بمقدار ما تختلف معارف رجل عن أخيه في المملكة الواحدة والبلد الواحد
هذا ولم يعمل العرب اليوم لنشر ثقافتهم بينهم ، وإشاعة أدبهم فيهم ، والتقريب بين عقولهم وقلوبهم ، وإنما هو ميراث التاريخ الذي لم تقو الخطوب على تفريقه ، ورباط الماضي الذي لم تجرؤ العصور على تمزيقه . فكيف إذا مهدت السبل واتخذت الوسائل لتعريف العرب بثقافتهم الموروثة وإمدادهم بثقافة جديدة مشتقة من تاريخهم وأوطانهم ، مستمدة من كل ما أخرجته
عقول البشر في الشرق والغرب. كيف إذا اجتمع علماء العرب على نشر ثقافتهم القديمة مهذبة مرتبة موضحة ميسرة، واتفقوا على إشاعة ثقافة حديثة ملائمة بيئاتهم وأحوالهم ، ثم اتخذوا في نشر هذه وتلك وسائل النشر الحديثة . إن الكتاب ليؤلف اليوم في القاهرة أو دمشق فيقرأ في بغداد بعد قليل ويقرأ في المغرب بعد حين على كثرة ما وضع من الفواصل التي أريد بها قطع المغرب عن سائر بلاد العرب . فكيف إذا نظمت الحكومات والجماعات وسائل التعليم والنشر ، ورفعت العوائق وأزالت العقبات، وتوسلت بما يعرف العالم اليوم من وسائل . إن العالم العربي ليصير إذن بلداً واحداً في ثقافته وتربيته إلا ما تقضى به البيئة من اختلاف بين الأقطار وبين أرجاء القطر الواحد غير مضر بالأواصر ولا مخل بالثقافة المشتركة
والحق أننا حين نتحدث في التقريب بين بلاد العرب أو التأليف بينها لا نحاول أن نخلق أو نضع أواصر وروابط ولا أن نحتال بالأوهام إلى مقاصدنا ولكنها الحقائق الماثلة ، والأواصر القائمة التي غفلنا عنها حيناً فما وهنت ، وحاول الزمان إنكارها فما خفيت ، وعالجتها الحادثات لتزيلها فيما قدرت . إنها خلق الله ومن يغير على الله خلقه ، وإنها سنة الله ومن يبدل على الله سنته . وإنها الحق الذي لا يملك الباطل له تحويلاً ، والتاريخ الذي لا تستطيع الخدع فيه تأويلا
بين البلاد العربية من الروابط والأواصر والعواطف ما بين كل أمة موحدة قوية ، وفيها من الآمال والمقاصد ما لكل أمة عزيزة طامحة ، ولكن ينقصها التهذيب والتدبير والتنظيم والتوضيح . ولهذه كلها وسائلها وهي يسيرة إن صحت عقولنا ونشطت أيدينا
لقد دعا العرب منذ سنوات إلى الاحتفال بذكرى أبي الطيب المتنبي . فاجتمع أدباء من الأقطار العربية في دمشق ، وتجاوبت البلاد العربية كلها بهذه الدعوة ، واحتفلت بهذه الذكرى ، فلم يخل قطر بين دجلة والمحيط الأطلسي من احتفال بالمتنبي وكتابة عنه ، وإعراب عن عواطف العرب بشعره . هذا لم تكن الوسائل الكافية قد اتخذت للاحتفال بالشاعر الكبير ، ولكنها كانت دعوة صادفت نفوساً متعارفة ، وقلوباً متآلفة قد غذاها
أدب واحد وأيدها تاريخ واحد ، والبلاد العربية تدعو اليوم إلى الاحتفال بأبي العلاء المعري هذا العام . وكل أدباء العرب سواء في الاهتمام به ، والدعوة إلى إعظامه . وسيكون احتفال المعري ، مرآة لوحدة الثقافة في البلاد العربية
هذه الأواصر والوشائج الطبيعية والتاريخية التي تربط بين بلاد العرب لا تعمل عملها إلا إذا عنينا بها فأحكمناها ، وأزلنا العوائق من طرقها ، ووجهناها إلى الغاية المرجوة وأحسنا الانتفاع بها . وإلا بقيت كقوانين الطبيعية التي لا يهتدي إليها أو المعادن الغنية التي لا يستخرج ما فيها ، أو الأشجار العظيمة التي لا تجني ثمراتها ، أو الأنهار الزاخرة التي لا يستقى ماؤها . إن النيل ودجلة والفرات وبردى وأنهاراً أخرى صغيرة تجري في بلاد العرب ولكنها لا تسقيها حتى يسيطر الإنسان على مجاريها ويحوز مياهها ويسوقها إلى الأرض بالسدود والقنوات . وكذلكم هذه الأفكار التي في عقولنا والعواطف التي في قلوبنا والآمال التي في نفوسنا ، والقوى التي في أيدينا ، وكل ما عندنا وما نستحدث من علم وأدب وخلق كلها تحتاج إلى العناية والرعاية والتوجيه والاستثمار . فنحن في حاجة إلى مؤتمرات للائتمار بيننا في التعليم والتربية والاقتصاد وشؤون كثيرة ، ثم اتخاذ الوسائل التي تؤدى بنا إلى ما نؤمل من اتفاق وتعاون على بناء حضارتنا على قواعد وطيدة ، والسير إلى مقاصدنا على خطط سديدة . على أن نأخذ للأمور أهبتها ، ونعد لها عدتها ، ونعرف المقاصد وتخط الوسائل على بينة من أمرنا ، وبصر بحاجاتنا، واعتداد بأنفسنا فنخلق من بيئتنا وتاريخنا وأحوالنا وأخلاقنا حضارة فيها من تاريخنا سمات ، وعليها من أيدينا علامات ، فليس كرامة أن تقلد ولا تبتدع ، وليس حياة أن تستعير من غيرك لباسه ، وتستجديه طعامه ، وتأخذ منه حليتك وزينتك ثم تزعم أنك نظيره ، ولكن الحياة فكر ونصب وعمل ودأب وخلق واختراع واعتداد بالنفس واعتزاز بها ، وأن تشيد بناءك بيدك لنفسك ثم للناس . إنما الحياة أن يكون للأمة على الأرض آثارها ، وسماتها وخصائصها . ولا حرج من بعد أن تأخذ من الأمم وتعطي ، ثم تعاون البشر كافة على حضارة إنسانية جامعة
وبعد فعلى الذين يهيمنون على شؤون العرب من رؤساء وزعماء وعلماء وأدباء أن يخطوا للأخلاق خططها كما يخطون للمعارف والصناعات وغيرها . فما يرتفع لأمة بناء على غير قواعد من أخلاق قوية صحيحة فاضلة . ولا يستقيم لها في الحياة منهاج إلا على هدى الفضائل والمكارم. إننا وقد أخذتنا الفتن والمحن ، وألقت علينا الحوادث أعباء باهظة لا نستطيع أن نثبت ونجد إلا بعدد من الأخلاق وأسلحة من الفضائل . ويخشى أن نفتن عن أنفسنا فنضل طريقنا ، ونفقد سجايانا ثم لا يردنا إليها الجهاد الطويل ، والجد الدائم والندم الضائع وقديماً قال شاعرنا العربي :
ما تنسج الأيدي يبيد وإنما يبقى لنا ما تنسج الأخلاق
وحديثاً قال شاعرنا شوقي :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فليحسن سادتنا وقادتنا القيام على أخلاق هذه الأمة ، وليحسن الشعراء والكتاب تربيتها وتغذيتها وليجنبونا كل فكرة سقيمة ، وكل معنى عليل ، ليجنبونا الألفاظ الرخوة والمعاني الدنيئة ، فلا يهبطوا بشبابنا إلى الدرك الأسفل حيث تموت الهمم ، وتخمد العزائم ، وليسموا بهم إلى المعالي التي تطمح إليها النفوس الأبية القوية الطماحة
أمامنا تجاربنا وتجارب الأمم ، فلنعتبر ونتعظ ، فالسعيد من وعظته الحوادث وأخذ من الأيام العبر ، واهتدى بهدى التاريخ ، واستمع لنصائح الزمان . إن الزمان يسرع ، والحوادث تتوالى ، والأعمار تمضي ، والتاريخ يسجل والأجيال تقرأ ، فليسرع بنا التفكير والتدبير ولتحكم الأقوال والأفعال ، لنساير الزمان بكفتيه من الأهبة ، ونلقى التاريخ بملئه من العمل الصالح ، والمجد الباقي
وبعد فالعرب اليوم ، على علاتهم ، فيهم من العقول والأخلاق وبينهم من الروابط والعواطف ، ولهم من التاريخ والمكانة ما يؤلف أمة قوية رشيدة عزيزة كريمة فاضلة . وليس لمسير القافلة إلا أن يبين الطريق وتصلصل الأجراس
وليست دعوة العرب إلا إلى الكرامة والعزة وإلى الخير والحق والوئام والسلام . وليست نيتهم إلا الخير للناس جميعاً . لا يريدون إلا أن يتخذوا مكانهم بين الأمم ، ويؤدوا نصيبهم
في الحضارة الإنسانية ، ويوفوا دينهم للتاريخ . ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل أنصار حق ودعاة أخوة وبناة مدينة وأئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون . ليست دعوة العرب عدواناً على أحد ولا عداء لأحد ، وإنما هي دعوة الأمة الكريمة العزيزة العادلة التي تعرف ما يجب عليها لنفسها وللناس ، وتحرص على أن تحمل ما هي أهل له من الأعباء ، وتشيد ما هي جديرة به من المكارم ، وتأخذ حقوقها وتؤدي واجباتها على سنن بين من العدل والإحسان ، وخطة قويمة من الهدى والرشد . والله المسؤول أن يهيئ لها من كل أمر رشدا

