روي عن وردزورث الشاعر الإنجليزي الذي عاش في أوائل القرن التاسع عشر أنه قال " ليست للقدرة على النقد عندي قيمة كبيرة . النقد ملكة من ملكات العقل أحط شأنا من ملكة الخلق والأبتكار . ولو ان الوقت الذي يبذل في نقد الآثار الأدبية ينفق في الأدب الإنشائي - من أي نوع كان - لكان ذلك خيرا لنا وأجدي . الإنشاء يبين للكاتب مقدرته الحقة ، ولا ينجم عنه من الشر مثلما ينجم عن النقد . إن النقد الباطل أو الذي ينطوي علي الحقد والضغينة يفسد عقول القراء ، في في حين ان الإنشاء - مهمل قل شأنه - في النثر او في الشعر . لا يعود علي قارئه بضر أو أذي . .
ويقول ماثيو آرنلد - وهو من أكبر النقاد الإنجليز في القرن التاسع عشر - ردا على هذا القول : إننا نكلف الطبيعة الإنسانية كثيرا إذا طلبنا إلي رجل له قدرة خاصة على لون معين من ألوان الأدب أن يحمل نفسه ما لا يطيق ، وان يحاول ما ليس في وسعه ، فينصرف عن النقد إلى الإنشاء ، لأن ذلك في مصلحة الجماعة التي ينبغي أن تكون فوق مصلحته . ولكن إذا كان النقد باطلا أو أو منطويا على الحقد والضغينة - كما يقول وردزورث - فليس منا من يجادل في أنه خير للأدب وللناس أن لا يذاع هذا النقد بين القراء . ولا يجادل أحد كذلك في أن ملكة النقد أقل شأنا من ملكة الإنشاء . ولكن هل من الحق أن النقد في ذاته عمل فيه ضرر وأذي ؟ وهل من الحق أنه من الخير لنا أن نبذل الوقت الذي تنفقه في نقد الآثار الأدبية في الأدب الإنشائي من أي نوع كان ؟ هل من هل من الحق أنه كان من الخير لنا ولجلسن ( وهو من أدباء القرن الثامن عشر ) لو أنه أخرج لنا مسرحيات من طراز مسرحيته " ايرين " ووفر علي نفسه الجهد الذي
بذله في كتابه " حياة الشعراء " بل إني أقول هل كان من الخير للأدب لو ان وردزورث نفسه خصص الوقت الذي صرفه في كتابة مقدمته النقدية الشهيرة ، وفي نقد الكتاب الآخرين لكتابة عدد آخر من المقطوعات الشعرية ؟ لقد كان وردزورث نفسه ناقدا كبيرا ، وإنا تأسف كثيرا لأنه لم يخصص من وقته للنقد اكثر مما فعل ، وكان جيته من اكبر النقاد ، وإنا لسعداء بالقدر الكبير الذي خلفه لنا من النقد .
لاشك في أن وردزورت كان مبالغا أشد المبالغة في نظريته ، ولكنه يشككنا في قيمة النقد ، وببعث الناقد على التساؤل : ما فائدة النقد ؟
ولا مراء في أن المرء لا يجد سعادته إلا في الخلق والإبتكار . ولكنا يجب ان تذكر انه ليس من الضروري أن يكون الأبتكار في الأدب أو في الفن ، وإلا لما تمتع بالسعادة غير أفراد قلائل جدا - وأولئك هم الأدباء المنشئون - إنما يستطيع المرء أن يبتكر وأن يبتدع في فروع أخري من المعرفة والعمل . وقد يجد في النقد نفسه مجالا للخلق والابتكار . ويجب أن لا يغيب عن الذهن كذلك أن الابتكار في الأدب أو في الفن ليس ممكنا في كل العصور وكل الظروف ، وقد يكون الجهد فيه بغير جدوي ولو بذل هذا الجهد في التمهيد له وفي جعله مكنا لكان أجدي . وذلك لأن الذهن المبتكر لا يستطيع أن ينتج إلا إذا توفرت له العناصر والمواد الأولية - كالبناء ليس بوسعه أن يشيد البناء بغير الملاط والحجر . هذه المواد الأولية في ميدان الأدب هي " الأفكار " خير الأفكار الشائعة في العصر في كل موضوع يمسه الأدب . ولا خير في الأنتاج الأدبى المبتكر إذا لم يتعرض لهذه الأفكار ويعالجها وأقول الأفكار الشائعة ولا أقول الأفكار البعيدة المنال ، لأن العبقرية الأدبية الخالقة لا تتجلي في كشف الآراء الجديدة . إنما هذا عمل الفليسوف ؛ وإنما عمل الأديب
النابغ أن يتناول الكليات وبعضها أجزاء مفصلة مدعمة بالمثال - فهو عمل تركيبي ، ولا يتناول الجزئيات ويصل بها إلي الكليات ويكشف الحقائق ، لأن هذا عمل تحليلي ليس منه شأن الأديب . الأديب يستمد الوحي من الجو الفكري السائد ومن الآراء الشائعة ، ثم يعالج هذه الآراء بيد صناع فيخلق منها آثارا فنية رائعة ويعرضها عرضا جذابا يخلب العقول ويجذب الأبصار . وليس الاهتداء إلى هذه الآراء - وهي مواد الأديب الأولية - بالأمر اليسير ، ولذا كانت عصور الابتكار في تاريخ الأدب نادرة جدا ، وكان هناك كثير من الأدب الرخيص المبتذل الذي ينشئه أحيانا عباقرة الأدب أنفسهم
لابد لإنتاج العمل الفني الرائع من قوتين : قوة الرجل المنشئ ، وقوة العصر الذي يعيش فيه . وذلك ان الأديب المنشئ - مهما يكن نابغا - بحاجة إلي الألمام بمختلف المعارف . وبحاجة إلي من يقدمها له يتناول منها ما شاء حينما شاء . وهذه هي وظيفة الناقد في فروع المعرفة ، المختلفة في الدين والفلسفة والتاريخ والفن والعلوم . الناقد يخلق للأديب بيئة فكرية وجوا من الآراء . وهو يبصر الأشياء على حقيقتها ، ويحكم على الفكرة بالحياة أو بالموت ويحاول أن لا تسود بين الناس غير روائع الاراء . فهو يبشر بالحق ، ويهز كيان الجماعة بقوته فتتمخض الجماعة عن عصر من عصور الإنشاء في الأدب .
ولزيادة الإيضاح نقول إن الشاعر - مثلا ينبغي أن يعرف الحياة وطبائع الناس قبل أن يعالجها في في شعره ، والحياة وطبائع الناس في الآزمنة الحديثة شديدة التعقيد ، ومن ثم كان الشاعر المبدع بحاجة إلى الناقد الذي يبرز له الحقيقة ناصعة واضحة ، فيتغني بها في شعره وينشئ فيها روائع القصيد ، ولعل هذا هو السبب في أن " بيرن " لم يرتفع إلى السماء التي كان يحلق فيها " جينه " كان لكليهما ذهن قادر على الابتكار والخلق غير ان جينه كان يعيش في جو من الثقافة الصحيحة
لم يستنشق ريحة " بيرن " فأدرك الشاعر الألماني من حقائق الحياة وطبائع الناس ما لم يدركه زميله الإنجليزي .
هذا الجو المشبع بالثقافة الصحيحة ، والذي يخلقه الناقد ، لم ينتشر في انجلترا في الربع الأول من القرن التاسع عشر ، فكان الشعر في هذه الفترة . وهو الشعر الرومانتيكي الذي اعتمد على الخيال والعاطفة خلوا من المعرفة الكافية ، فلم يترود وردزورث ، وكولردج ، وشلي وكيتس ، بالعلم والمعرفة ، انتاجهم ينم عن العبقرية الذهنية ، ولكن لا يشف عن سعة الإطلاع ، ولا يحسبن القارئ أن الكتب وحدها هي سبيل تحصيل المعرفة ، فقد كان شلي كثير الادمان على مطالعتها ، وكذلك كان كولردج ، في حين أن بندار وسوفوكل لم يطالعا من الكتب غير القليل ، كما أن نصيب شيكسبير منها كان أقل من القليل . ولكن بلاد اليونان لعهد بندار وسوفوكل ، وانجلترا لعهد شكسبير ، كانت تتوهج فيها الحياة توهجا ، وكانت الجماعة فيها مشبعة بالرأي الناضج والفكر الصحيح ، وفي هذا غناء للأديب عن الكتب والمطالعة وباعث له على الخلق والإنشاء . والشاعر في أثيتا في عصر بركليز وفي انجلترا في عصر إلزبث يعيش في جو زاهر من الفتوح والتقدم وكان جينه في المانيا يحيا في عصر ثقافة ونقد ، ولكن انجلترا في أوائل القرن التاسع عشر لم تشغلها الفتوح ولم تغرها الثقافة فجاء الشعر الرومانتيكي مفتقرا إلى النظر العميق وفهم دقائق الوجود ، وهو ما يقوم به الناقد ذو البصيرة النافذة ، إذ النقد الصحيح هو الأساس الذي يشيد عليه الأدب البناء . ولكي يؤتى النقد ثمرة طيبة ينبغي أن يتنزه عن الغرض ، وألا يسف فيهبط إلي الحياة العملية . الناقد يجيل ذهنه في كل موضوع يمسه بغض النظر عما لهذا الموضوع من علاقة بعمل من الأعمال أو من صلة بالسياسة أو بالأفراد . إنما الناقد يستخرج خير ما عرف الإنسان وخير ما فكر فيه في أي بلد من البلدان ، ثم ينشر
هذه المعارف القيمة في أمانة وإخلاص ، ويخلق بها جوا من الآراء الصائبة الجديدة ، ولا يهمه ما يترتب على نشر هذه الآراء من نتائج . وليس للناقد أن يناصر أو يناهض حزبا من الأحزاب او رايا من الآراء السياسية أجل إنه لابد لكل حزب أو رأي من ناقد يدفع عنه طعون الأحزاب والآراء الأخرى ، ولكن مثل هذا الناقد لا يؤدي رسالة النقد المقدسة .
الناقد المخلص لنقده يوجه ابصارنا إلى الحق والخير والجمال ، ويشعرنا بقصورنا عن ادراك الكمال ، ويدفعنا إلى السير في سبيله . في حين أن الناقد المتحزب يعمى بصائرنا لأنه يحاول ان يصور لنا ان الحزب الذي ينتمي إليه وبدفع عنه قد بلغ أوج الكمال . يقول جينه " إن الشوط الذي قطعه الانسان في طريق التقدم يبدو لنا قصيرا حينما نمد البصر إلي الإمام ونري مقدار ما ينبغي لنا أن نقطعه " ، والناقد هو الذي يبين لنا معالم الطريق .
وقد يحسب القارئ أن إبعاد النقد عن الحياة العملية يبعده عن الواقع ، ويجعل اثره في تقدم الانسان بطيئا . وحقا إن النقد قد يكون بطئ الآثر ولكنه محقق النفع والفائدة . إن أكثر الناس لا يرون الأشياء على حقيقتها وكثيرا ما يقنعون بالرأي الناقص والفكرة الخاطئة وعلى هذه الآراء الناقصة والافكار الخاطئة يقوم معظم النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يشكو الناس جورها وعسفها . الحق لا يراه إلا القليل من الناس وهؤلاء هم النقاد المبصرون ، وعليهم وحدهم يتوقف نشر الرأي الصائب وسعادة الانسان - إن الحياة العملية كالرحي سريعة الدوران تجذب اليها المرء دون أن يقف لحظة يتدبر أو يفكر . وإنما الناقد هو الذي لاينصاع لهذه الرحي ، وهو بذلك يخدم الرجال العاملين .
الرجل العملي لا يدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء وفي هذه الفروق الدقيقة يكمن والمعرفة الصحيحة وليس من السهل ان تغير وجهة الرجل العملي الذي
اعتاد أن ينظر إلي الأمور من ناحية واحدة ، وليس من اليسير أن نبرهن له أنه لا يسلك محجة الصواب فعمل الناقد إذن شاق عسير . وينبغي له أن يتحلى بالصبر ، وان لا يتعجل ثمرة ما يرمي إليه من إصلاح ، ويجب أن يكون واسع الثقافة حتى يميز بين الغث والثمين ، وأن لا ينشر الرأي إلا بعد الدرس والتمحيص وأن لا يخشى في الحق لومة لائم . يقول جوبير " إن الجهل في الأمور الخلقية يخفف الجريمة ، ولكنه في الأمور الفكرية جريمة من أكبر الجرائم " ، وقد تغتفر الزلة يقع فيها الكاتب المنشئ ، ولكن الناقد ينبغي له إلا يزل أو يخطئ . الكاتب المبتكر كالمتهم قد يثبت القاضي براءته أو جرمه ، في حين أن الناقد هو القاضي الذي يحكم ، وعليه ان يلزم حدود العدل والانصاف ، وهو عرضة لأن يخطئ الناس فهمه لان عامة الناس تستمد عقائدها من الحياة العملية التي يختلط فيها الخطأ بالصواب ، ولا تحتمل الفكر المجرد ويقول جينه " العمل يسير والتفكير عسير " ، والناقد في كثير من الاحيان يقف مقاوما في وجه التيار العملي الذي يسبح فوقه الناس ، والمقاومة كما نعلم عسيرة وبخاصة حين تصطدم مع الدين أو قواعد العلم المقررة
ونستطيع في كلمة موجزة ان نقول " إن الناقد رجل يسعي سعيا منزها عن الغرض إلي إدراك خير ما عرف الإنسان وما انتجت القرائح في انحاء العالم أجمع ، ثم يذيع بين الناس نتائج بحثه فيخلق جوا من الآراء الطريفة الصحيحة ولم يعرف في التاريخ أن امة واحدة عرفت خير إنتاج القرائح البشرية ، ولذا كان من واجب الناقد أن يطلع على إنتاج الأمم الآخرى جميعا .
الناقد يعرف ويحكم ، ويقدم للقراء معرفته مقرونة بحكمه ، ولكنه يجب أن يذكر دائما أن المعرفة أهم من الحكم عليها .
