نعت إلينا الأنباء الأخيرة قطباً من أقطاب الأدب الفرنسي وكاتباً من أعظم كتاب العصر، هو بول بورجيه؛ توفي في الخامس والعشرين من ديسمبر في الثالثة والثمانين من عمره، بعد أن قضى حياة حافلة، وبلغ الذروة في عالم الشعر والأدب والنقد. كان بول بورجيه عميد الأدب الفرنسي المعاصر بعد أناتول فرانس، وكان يتبوأ مكانة في الطليعة منذ خمسين عاماً؛ ولم يعرف الأدب الفرنسي المعاصر، كاتباً قصصياً - إذا استثنينا أناتول فرانس - في قوة بورجيه وعمق تفكيره وتحليله، أو في بًعد آفاقه ووفرة إنتاجه. وكان مولد بورجيه في سنة ١٨٥٢ بمدينة أميان من أب روسي وأم إنجليزية؛ فنشأ نشأة حسنة وتلقى دراسة عالية وثقافة متينة؛ وبدأ ينظم الشعر منذ حداثته، ثم أشتغل بالصحافة؛ وفي سنة ١٨٨٤ أخرج أولى رواياته القوية ' فظهرت فيها براعة الكاتب والقاص، وتجلت فيها مقدرته الفذة على تفهم العواطف البشرية وتحليلها، وهي مقدرة ترجع إلى ذلك المزيج في السلالة الذي كان له أكبر الأثر في تكوين عقلية الكاتب. ثم كتب بورجيه روايتين أخريين هما: , والأخيرة من أعظم رواياته وأقواها، بيد أن بورجيه يبلغ ذروة القوة والطرافة في قصته الشهيرة: (التلميذ) وهي في رأي النقدة أعظم قصصه وأقواها، وأكثرها تمثيلاً لمواهبه وخلاله وفنه؛ ولم يلبث بورجيه أن تبوأ مكانته بين أقطاب الكتاب في هذا العصر: بين زولا، وفرانس، وكوبيه، ودوديه، ورشبان وغيرهم؛ ثم لم يلبث أن أحتل مكانة بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية (سنة ١٨٩٤) . ولبورجيه تراث حافل من كتب الشعر والقصص والنقد والسياحة نذكر منها:
, - , - , ومن القصص - ' و , وله ديوان شعر كبير، وقطع مسرحية عديدة، وله كتب في الوصف والنقد والسياحة.
وبورجيه كاتب خصب متعدد النواحي والآفاق؛ بيد أنه على العموم كاتب أرستقراطي يكتب للخاصة قبل كل شيء، ويصور مجتمع الخاصة، وما يتصل بحياته من بذخ وأناقة، وما يتخللها من نواحي الجمال والرشاقة والفن؛ وما يغشاها من عوامل الفساد والوهن، وهو من هذه الناحية نقيض قرينه ومعاصره فرانسوا كوبيه كاتب البؤس والطبقات البائسة. وأعظم ما تبدو مقدرة بورجيه ومواهبه في المواقف النفسية وفي تحليل القلب البشري ونزعاته، وفي تصوير مختلف العواطف الإنسانية، فهو عندئذ لا يجاري، بل هو أستاذ هذه المدرسة الفذ، وهي مدرسة نلمس فيها الأدب الروسي. ويكتب بورجيه بلغة قوية، وقد تبدو أحياناً عسيرة الفهم، ولكنه يحمل قارئه بقوته، ويأخذ لبه بسحر عرضه، وروعة بيانه وفنه؛ ومع أنه يميل إلى المفاجآت العنيفة في قصصه، فإنه مع ذلك يجنح إلى الحقيقة ويجانب الإغراق؛ وأكثر ما يميل بورجيه إلى التشاؤم، وقلما يميل إلى الجانب المرح مَن الحياة والصور؛ ويطبع الجد أسلوبه وتفكيره دائما؛ بيد أنه يجنح أحياناً إلى السخرية اللاذعة؛ وهو فوق ذلك فيلسوف عميق الفكرة دقيق الملاحظة بعيد الغور والمغزى، وناقد قوي الجدل والحجة، وفنان من الطراز الأول يعشق الفن ويرعاه؛ وكان حتى آخر أيامه مديراً لمتحف شانتي.
ويتبوأ بورجيه كرسيه بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية منذ أثنين وأربعين عاماً؛ وكان إلى ما قبيل وفاته يوالي الكتابة في كثير من الصحف والمجلات الكبرى، ويكتب منذ أعوام في جريدة (الفيجارو) كلمات في السياسة والاجتماع تلفت النظر بقوتها وطرافتها، وبوفاته ينهار ركن عظيم في صرح
الأدب الفرنسي المعاصر.
