سبق أن كتبنا فى الثقافة كلمة تحت عنوان (( كتيبة الخير ، بينا فيها ما يخالجنا من الأمل فى قلوب مصرية عامرة بالايمان لا تزال تجاهد فى ميدان الإصلاح فى صمت وهى موزعة أفرادا لا يعرف بعضهم بعضا ، وسمينا هؤلاء (( كتيبة الخير )) . وقد دعونا كل فرد من هذه الكتيبة إلى أن يعمل على التجميع والتوحيد وينادى بالتكاتف والتآزر بقصد تحقيق الغاية النبيلة التى يسعى إليها الجميع .
وإنا نعتقد اعتقادا لا يعتريه الشك من بين يديه ولا من خلفه أن علة العلل التى أصابت مصر وأصابت الشرق كله إنما هي علة تفرق الكلمة وصدع الوحدة . فالتفرق علة العلل فى الحياة الاجتماعية كما أنه علة العلل فى نضال الأمم ، فهو الذى يسبب الهزيمة فى كل جماعة ، سواء أكانت تجاهد فى ميادين السلام أم تجاهد فى ميادين الحرب . وقد كانت خطط الحرب جميعها منذ أقدم العصور ترمى إلى تمزيق شمل العدو حتى يتمكن الجيش الظافر من الانتصار
، وكانت الدول الاستعمارية تعمل دائما على تمزيق الشعوب التى تريد استعمارها حتى تجعلها مجموعات من أفراد متناحرين متعارضين لكل منهم رأيه ولكل منهم مصلحته الذاتية لأنها كانت بهذه الوسيلة تكفل لسياستها الاستعمارية السيادة والنجاح . وليس الأمر مقصورا على الدول المستعمرة ، فإن الحكومات الطاغية إذا أرادت أن تمضى فى طغيانها عمدت أول شئ إلى تفريق كلمة الأمة حتى لا تقف أمام طغيانها قوة مجتمعة تهددها بالمقاومة ، ولهذا كانت حكومات الاستبداد منذ القدم تعمل جهدها على إشاعة سوء الظن بين الناس وعلى إدخال الوساوس والشكوك فى القلوب حتى لا يأمن واحد أخاه وحتى لا يجتمع رأى الى رأى .
فالتفريق كان دائما وسيلة الاستعباد ووسيلة الاستبداد
ولا تزال الكلمة القديمة ترن فى الآذان تذكرنا بخطة الأقدمين فى تحقيق السياسة الطامعة الجائرة سياسة الطغيان والأنانية وهى (( فرق تسد )) . فليس ببعيد عن أذهاننا جميعا أننا إذا أردنا إصلاح أحوالنا كان علينا أن نبدأ من البداية ، وبداية الإصلاح لا تكون إلا من آخر نقطة وصل إليها الهدم . فالإصلاح المنشود يقتضى أول شئ أن يتجمع الأفراد بعد التشتت ويضموا شملهم فى جماعات حتى تتقابل الآراء فى نقطة وتتفق المصالح عند غاية سامية كبرى هى المصلحة القومية العليا
ولسنا نشك فى أن ميدان الحياة فى مصر خاصة والشرق عامة لم يخل فى وقت من الأوقات من الأفراد المخلصين الذين كانوا دائما يحاولون الإصلاح وبث الدعوة إلى الخير . وكانوا فى أول الأمر يجدون الآذان صماء والقلوب مغلقة لطول ما فعل بها التحطيم فى العصور الطويلة التى مرت على مصر والشرق ، ثم تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور شيئا بعد شئ حتى صارت القلوب اليوم متفتحة لدعوة الإصلاح وحتى أدركت العقول مواضع العلة ، ولهذا نشاهد أننا كلما جلس بعضنا إلى بعض ترددت الأقوال ودارت المناقشات حول ما فى مجتمعنا من العلل وما فى موقفنا من الشذوذ . ولسنا نبالغ فى شيء إذا نحن قلنا إن الآراء تكاد تكون جميعها متفقة على تشخيص مواطن العلة وعلى الخطط العامة فى سبيل العلاج . نقول إن الآراء تكاد تكون متفقة وإن اختلف بعض المفكرين مع بعض فى تفاصيل الوسائل وفى تقدير مناحى الإصلاح . فقد يرى البعض أن نبدأ فى الإصلاح الاجتماعى ، وقد يرى البعض أن نبدأ بالإصلاح السياسى الداخلى ، وقد يرى البعض أن نبدأ فى الإصلاح السياسى الخارجى ؛ ولكن هذا لا يمنع من أن الجميع متفقون على تشخيص أنواع العلل التى نشكو منها وعلى ضرورة الإصلاح ونوع الوسائل التى يجب أن نلتمسها له .
وانه ليسرنى ويسر كل مصرى مخلص لوطنه وكل شرقى مخلص لعدالة قضية الشرق وكل انسان مخلص لقضية الإنسانية - يسر هؤلاء جميعاً أن مصر اليوم قد أصبحت لا تقنع بالأساليب التى كانت تسير عليها مناهج الإصلاح منذ أوائل هذا القرن ، لأن العصر قد تغير فأصبح لا يكتفى بتلك الأساليب المرتجلة الجوفاء التى لم تحقق إلى اليوم شيئاً من الأهداف القومية الكبرى بل لم تتجه بمصر إلى الاتجاه السليم نحو تحقيق تلك الأهداف .
فنحن اليوم لا نرضى بأن نتجه إلى غير غاية ولا نرضى بأن نتجه إلى غايتنا أحزابا متفرقة لكل منها رغبة خاصة فى بسط سلطانه وتلوين الإصلاح بلونه الخاص بقصد الدعاية لنفسه .
نحن لا نرضى اليوم بأن تبقى أساليب القرن التاسع عشر فى الحكم ولا أن تبقى اساليب الأنانية فى السياسة القومية ، فان لمصر حقاً مقدساً فى الحياة ، وهذا الحق أسمى من كل نزاع حزبى وأخطر من كل مطمح فردى .
وقد امتلأت القلوب اليوم باعتقاد لا يمكن أن تزعزعه المجادلة فى هذا الحق الأسمى ولا سيما قلوب الشباب الذى لم تجرفه الحوادث الماضية فى تيارها ولم تلوثه بحزازتها ومنافساتها الباطلة . فهذا الشباب يتطلع حوله اليوم فى شئ من الحيرة وفي شيء كثير من الحنق ، وهو ينتظر الصيحة المنتظرة التى يمكن أن تمس قلبه ويجد فيه صداها وردها .
فهذه الصيحة إذا أطلقت فى جو مصر وكانت صادرة عن يقين وإيمان طاهر اهتزت لها القلوب من جميع أركان الميدان الذى لم يخل فى وقت من الأوقات من الأفراد المشتتين الذين يقاومون الشر ويحاولون الثبات ورفع أعلام الخير . إذا اطلقت هذه الصيحة كانت جديرة بأن تستجيب لها الكتيبة المشتتة ولن تلبث أن تكون جحفلا ضخما .
وقد ترامت الأنباء منذ قليل باجتماع طائفة من رجال مصر وشبابها بقصد تداول الرأى فى الدعوة إلى التجمع
وتحديد أهداف مصر العليا والوسائل التى تحقق المصلحة القومية الكبرى .
وإنه لما يملؤنا سروراً أن نسمع فى الأصوات التى ترددت فى ذلك الاجتماع رنين الإخلاص والصدق ، وقد قال أحد المتكلمين متفائلا : (( إن كلة الصدق المخلصصة إذا صدرت عن قلوب مؤمنة بها فلن يستطيع شئ أن ينبت فى وجهها أو يقاومها . فإذا استمع لها قادة الأحزاب كان ذلك خيراً لهم ، وإلا فان القلوب سوف تتلقفها وإن الإيمان بها سوف ينمو وبقوى بعد حين فلا يقف فى سبيله شئ )) .
نعم إن كلمة الحق إذا صدرت عن قلوب مؤمنة فلن يقف فى سبيلها شئ ، ونحن على يقين من أنها قد آن لها أن تعلو وأنه قد آن لكتبية الخير أن تجمع شملها ، وإنا لنرجو أنها تستطيع بعد حين أن تضم إليها الجنود المشتتين من أركان الميدان وتتقدم بهم فى جمع واحد ينشد أنشودة واحدة هى أنشودة (( الوطن فوق الجميع ! ))
وليس يكفينا اليوم أن ندعو إلى الاجتماع لأننا فى حاجة إلى ما هو أكثر من الاجتماع ، ليست الدعوة الجديدة التى ننتظرها إلا دعوة مخلصة بعيدة عن الوان الأحزاب ، دعوة تقوم على دراسة المثل القومية من أطرافها والاتفاق على الوسائل الفعالة التى تؤدى إلى تحقيقها والتجرد من كل رغبة إلا رغبة توجيه القلوب الى القصد الأسمى . فهيا تقدمى يا كتيبة الخير إلى الأمام ؟ . .

