الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 285الرجوع إلى "الرسالة"

يا إنسان أين الاحسان ؟

Share

ما أطول أحاديث البؤس وأكثر حوادث أهله ! كان للمقالين اللذين كتبناهما في غفوة الاحسان عن مرتجيه، وقسوة الوقف على مستحقيه ، رجع شديد في أكثر النفوس . فقد غدا علينا البريد بعشرات من الرسائل الباكية كأ ما كتبت بدموع العيون ودماء القلوب فلا تدرى أهى كلمات أم أنات ولو شئت أن أنقل إليك بعض ما فيها لدهشت أن يكون في مصر - وهى البلد الذى يجرى نيله بماء الحياة ، ويفيض تراه بطيبات الرزق - خلق من بني آدم يدمنون الصيام من الجوع ، ويلبسون الظلام من المرى ، وتصبح أمانيهم على الله أن ينقذهم من الحياة بالموت !!

هاك حالة واحدة من ألوف : روى الشيخ عبد الغنى في رسالته الضافية ما ألخصه لك في هذه الأسطر : طرابيشي في حي ( السيدة زينب) كان يعيش من فضل الله وربح الحرفة في نعمة سابقة . كان رحب الدكان والصدر ، يجلس عنده مراة الى فيتحادثون ويتنادرون و يفضى بعضهم إلى بعض بأسرار

البيوت وأخبار الصحف ، والمكاوى لا تنقطع عن الكي ، والعمال لا يفترون عن البيع . وكان رخى البيت والأسرة ، يغشى قناءه السهل ذور القربى وأولو الحاجة ، يتقلبون في أعطافه وينالون من ألطافه ، ويستريحون إلى ظله . فلما تعود الناس قلة النفقات من كثرة الأزمات ، ووقدت على مصر من وراء البحر بدعة العرى ، فتعرت أرجل النساء من الجوارب، ورؤوس الرجال من الطرابيش ، أخذت نار الطرابيشي تنطفى وحركته تسكن و مورده يغيض ، وأخذ الفرماء مجالس العملاء ، وزاد عدد المحضرين على عدد المشترين ؛ فكان الرجل يفتح دكانه يوماً ويخلعه أسبوعاً ، حتى فدحه الدين وأعيته الحيلة قباع الملك ،

وركبه الهم والمرض فلزم البيت ، وتفجرت عليه المصائب من كل جانب ، فمات ولده الوحيد وكان في السنة الثالثة من كلية الطب ، وتوفى أخوه الباز وكان موظفاً في إدارة القرعة ، وتأيمت أخته الفقيرة الولود فلاذت بجاه ، ووجد الداء في جسمه الواهن المنحل مجالاً ناستشرى ، ورأف الله به أن يعاني الألم في نفسه وفى أهله طويلا فتوفاه . وبقيت بعده زوجته المقطوعة ، وأخته الأرملة ، وابنتاه المانستان ، يعشن على خمسين قرشاً في الشهر ! أندرى من أين تأتيهن هذه الخمسون قرشاً ؟ تأتى من أجرة الدكان . فقد استأجر الصانع الذى كان يعمل فيه آلاته وأدواته وأثاثه بمائة ،قرش فكن يعطين وزارة الأوقاف منها ثمانين كراء المحل، حتى سعى لمن أهل الخير لديها فجعلته خمسين .

ويتساءل الناس بعد ذلك كيف يعيش هؤلاء النساء الأربع على هذا النزر اليسير من الرزق فلا يستطيع أحد أن يجيب ، لأنهن أغلقن على أنفسهن وعلى بؤسهن غرفة من غرف الغسيل في بيت متهدم من بيوت (زين العابدين) فلا يا خل عليهن إلا جارة برغيف ، أو حادة بصحن ... ! فليت شعرى أتقنع الفتاتان كما قنعت المرأتان بهذا العيش،

أم تحملان آخر الأمر على ركوب الغواية والطيش ؟ ذلك سؤال كان ينبغي أن يوجه إلى وزارة الأوقاف وأغنياء الأمة ؛ ولكن وزارة الأوقاف ليست بيت المال الذي كان يقوم

عليه عمر ، والأغنياء في مصر كلما أفهم الله جيوبهم بالمال، أفرغ جنوبهم من الرحمة . فأموالهم للأحزاب والانتخاب ، وعواطفهم للخيل والكلاب ، ودنياهم للغرور والأبهة . فلم يبق لطرائد الشقاء وفرائس الفلقة غير الله . والله فى أموال هؤلاء القساة حق معلوم هو الزكاة . والزكاة ركن من أركان الإسلام كالشهادتين والصلاة . والاسلام يعيد اليوم فى عهد الفاروق زمانه وسلطانه ،

والأمراء والوزراء يصلون ، والمترفون والمثقفون يحجون ، والدين والمدنية يتعاونان على تنزيه النفس وترفيه العيش وتأمين الحياة . فلماذا يظل هذا الركن مهدوماً وهو وحده العماد القوى لبناء الأمة، وانصباب الناجع لأدواء المجتمع؟ لقد نرضت الحكومة على الأموال الثابتة والمنقولة ضرائب العمارة والدفاع والأمن ، وجبتها على الطوع والكره ؛ فما بالها وهي الحكومة الاسلامية القوية لا تجمع بوسائلها الادارية ما جعل الله للفقراء، فى أموال الأغنياء ثم تقسمها على من سماهم الله في كتابه، فتأ من بذلك ثورة النفوس

واضطراب الأمن وسخط العدالة ؟ إنها إن تفعل ذلك ترض تقوس العامة . وفى رضا هؤلاء تكثير النسل وتوفير الإنتاج وتيسير المعيشة . ولن تجد في جباية الزكاة ما تجد في جباية الخراج من امتعاض أو اعتراض أو مشقة ، فان البذل في سبيل الله ربا المؤمن .. ومليونا جنيه من الصدقات يدخلان بيت المال في كل سنة مع الأمانة والعدل، لا يتركان في الأمة سائلاً فى شارع ، ولا جائعاً في بيت ،

ولا جاهلاً في عمل . وكلما استبحر العمران، واستذاب الناس ، واستشرت المطامع . كان أقطاب الرأى وأصحاب الأمر أن الله الذى جعل الفساد فى الدنيا، جعل الصلاح في الدين ؛ فما من علة في الفرد ، ولا آفة في الجماعة، إلا تبه إليها بنوره ، وطب لها في شرعه ، وخفف منها بلطفه

فهل تفكر حكومة الفاروق خليفة الله على وحيه ، في إقامة الدين على وجهه فتهدأ ضلوع ، وتجف دموع ، ويتذون الناس في ظلال الأخاء، سعادة الأرض ونعيم السماء ؟ اجرحوا الرياشية

اشترك في نشرتنا البريدية