الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 56الرجوع إلى "الثقافة"

" يا نجمة الفجر . . "

Share

كان يفر من المدينة شهرا في العام ، يقضيه في الريف ، في ضيعة أبيه ، بعيدا عن كتبه ودراساته وهمومه . وكان يجد راحة اعصابه في الهدوء الشامل الذي يمد رواقه على الحقول الحالة ، يخفق فيها الزرع الأخضر النضير فيتضوع شذاه ، ويعطر الحياة ، ويملا الوجود من حوله بذلك السر الذي يرقص الطير علي افنان الشجر ، ويسقي اجنحة الفراش الوانها الفاتنة ، ويشيع البهجة والابتسام في مياه الغدير . .

وعرف " بهجت " في المكان أشياء كثيرة صاحبها وأحبها ، وخيل له أنها صاحبته وأحبه عرف أشجار النخيل النحيلة الممشوقة ، التي تتمايل أعوادها الهيفاء في دلال ورشاقة ، ساخرة من السنين ، حاملة ثمرها الحلو علي مفرقها ، كانه يواقيت تزين شعرها الذعي المحلول

وعرف الساقية العاملة في صدر الحقل عمل الرئة في صدر الانسان ، أما يحيا الحقل بها ؟ . . إنها دائمة الشهيق والزفير ، إنها تدور دائما . . تغني حينا ، وتئن وتشكو حينا ، وتبكى وتتوجع أحيانا ، في صرير تروسها كل الألحان التي تروي قصة الحياة . إنها امرأة مجرية تعرف كل شئ . . إن خشبها العابس المتآكل قد شبع من الحياة ، وذاق حلوها ومرها . . لقد دارت في موهن الليل والفجر يجرر اذياله الوردية ، ودارت في حر النهار متلظية تحت شمس الصيف ، ودارت بينما دموع الأمطار تغسلها من همومها ، وقبلتها أحيانا أشعة القمر . .

بالجمال وروعة الأقاصيص التي تحكيها الساقية ! إنها تفطن - وهي تدور - إلي كل ما يدور في رأس مالك الحفل ؛ إنها تعرف خواطره ، وهمومه ، وهواجسه ،

ونياته . . إنها قد خبرته كما قد خبرت أباه وجده وأسلافه . . كم شهدت من أحقاد ، وأفراح ، ودماء . . كان القائل أحيانا ياتمنها على سر ، ويلقي في بئرها جثة ضحيته . . ! وكان المحزون والعاشق يتخذ من صريرها فيثارة يوقع عليها مواويله وأغانيه ونجواه

وعرف " بهجت أيضا أحجار " الوردة " القائمة منذ بعيد على حافة النهر السعيد لتستقر عليها أقدام القرويات حين يملأن الجرار . . كم صارت هذه الأحجار ملساء ناعمة . ! إن حياتها حب واحتمال . . إنها تتلقي قبلات الموج التي لا عدد لها وتعيش في أحضانه . وإنها تحتمل القرويات وتحملهن من صباهن إلي شيخوختهن . تحتمل الجميلات والدميمات ، والباسمات والدامعات ، وتصغي إلي شكايتهن من ازواجهن ، وإلى نيمتهن وغيبتهن للصويحيات ؛ كما تصغي إلي عمس الخلخال في سيقان الصبابا بأقاصيص العشق الرخيص والعشق العفيف . .

وعرف أيضا الأحجار الأسطوانية العتيقة الدفونة إلى الأعناق في ثري أطراف الحقول ، لتبين حدودها الأربعة ، وتكون معالم الملكية . . إن كل حجر من هذه الأحجار يرمز إلي حب الانسان للأرض وتعلقه بالثري الذي لبث منه . كثيرا ما كتب الدم على هذه الأحجار أقاصيص النزاع الطويل ، والقضايا الخاسرة والبغضاء . . ثم الاغتيال في جوف الليل ، وربما في وضح النهار . . واستحكام العداء بين الأهل الأقربين . وعودة العرائس اللاتي لم تبهت الحناء على أكفهن إلي بيوت آبائهن

نعم لقد عرف كل هذه الأشياء ، وأحبها وأحبته

وفهمها وفهمته ، وباح لها بذات ضميره ، وباحت له بمكنون سرها . .

وعرف أيضا . . سميحة . الريفية الصغيرة ، المليحة ، السمراء . . أول ما رآها منذ أربعة أعوام . . كانت تخطو إلي ربيعها الثاني عشر . . ثم زار القرية في السنين الثلاث التالية ثلاث مرات ، وكان كل مرة ، وهو في طريقه إلي الضيعة ، يجد في قلبه الشوق لأشجار النخيل ، وللساقية ، ولأحجار الموردة ، ولمعالم الحدود . . ولسميحة .

كان في العشرين من عمره لما كانت في الثانية عشرة . وأحب طفولتها المذبة ، وتبناها قلبه . . منذ ذلك الصباح الباكر الذي شاهدها في طراوته في الحقل الذي يستأجره أبوها ، وهي تحكم ربط العصاة على أعين زوج البقر الذي يجر الساقية في رفق وحنان . .

كانت تغني بصوتها الرقيق الرائق موالا مطلعه " يا نجمة الفجر طلى ، وارجعي روحي . . وسلمي لي على الذي ، عندهم روحي . . "

وكان صوتهايقطر حلاوة وبراءة . كانت توسوس بنغمها في أذان البقر ، كانها تواسيه ، وكان البقر يسلس القياد ، ويدور في رضا حول الساقية ، وكانه هفا إلى الاغنية ونسي المشقات التي تنتظره في نهاره . .

ورأته سميحة ، وابتسمت له تلك الابتسامة الواسعة السخية ، التي تنبع من قلب الطفولة الغرير ، الذي تفيض السعادة دائما على شطانه ، مغرقة في جذلها الصادق العميق كل الوجود الذي يحيط بها

ورأي " بهجت في لمحات عينيها ذلك الذكاء الفطري الذي قدر له أن يحيا وعوت في الحقل دون ان يشعله ويذكيه التهذيب والصقل ، كالزهرة التي قسم لها أن تعيش في الأصيص ، ثم تذيل حين ترتطم جذورها بجدران الفخار

الذي تعيش في إساره

كانت ترتدي ثوبا ساذجا ملونا ، وتضع في يديها " غوايش " زجاجية ملونة ، ويضحك في ساقيها خلخال فضى . . كانت في مجموعها تشبه ابتسامة في وجه الشمس الضاحكة . .

من ذلك الوقت أحبها ، وأخلي لها مكانا عزيزا في نفسه ، وألف - كلما قصد إلي الريف - أن يجلس في ظل شجرات النخيل القريبة من الساقية يتحدث إلي سميحة ، ويعرف منها أخبار القرية ، ويصغي إليها وهي تغنيه مواويلها الساذجة ، بصوتها الحنون الصافي .

وكبرت سميحة . وأخذ سر الأنوثة التاوي في طبيعتها يكبر معها ، وتفتحت أكمام الوردة ، وصار لها شذي وعبير

وبدأت أحلام الشباب تلون الحانها وأغانيها . . لم يعد صوت الطفلة هو الذي يترنم ، بل صوت العذراء التي يذاهب روحها الظامئة الحنين إلي المجهول . .

وفي ذلك العام ، لما وصل في المساء إلي القرية ، لم يكد يستريح حتى أسرع إلي شجرات النخيل . . وراي - كما كان يتوقع - سميحة عند الساقية ، فتسلل حتى دنا منها دون أن تشعر ، فإذا بها ملقية خدها على كفها ، تخط على التراب بيدها الأخرى ، وهي تغني في سهوم موالها المحبوب :

" يا نجمة الفجر طلي ، وارجعي روحي . . وسلمي لي على اللي ، عندهم روحي . . قلمي رموشي ، وقلبي بإعمله لوحي    حبري دموعي وانا ، الكاتبة على روحي . . يا نجمة الفجر . . "

لقد عمقت ألوان الألحان في صوتها ! . والفت مع نواح الساقية وظلال المساء ، ذلك الخفاء الحالم الحزين ، الذي تتنفس به الحقول . . الحقول التي مرت بها الأحقاب ،

وعاصرت الماضي السحيق ، وعبرت عليها ظلال آلاف الرجال الدين سقوها من دموعهم ، وعرقهم ، وأمالهم ، ثم مضوا !

في صوت سميحة الآن هم دفين إنه مشوب يقلق سبهم ! إنه واجف ! إنه يلهث ! كأنه آت عدوا من المجاهل السحيقة في روحها ، حيث ترقد الأسرار البعيدة الدفينة التي يكتمها الانسان ، حتى عن نفسه .

ونادها باسمها فالتفت مذعورة . وأخذت تتمالك نفسها كأن خواطرها كانت مبعثرة مع الرياح الأربع . ورأي الخجل يصبغ وجهها ! . . لم تكن تخجل من قبل من أغانيها ؛ فما لها الآن تذعر كانه هتك الآستار ، وكشف الأسرار ؟ .

طاف بها بصره وهو يمد إليها يده ، فرأي ما صنع عام كامل بالوردة النائمة في أكمامها .

إن الأنوثة الآن قد أعلنت سرها وسحرها ، وقد تمت آية الحسن ، وصارت الصبية التي كانت تشبه ابتسامة في وجه الشمس ، عروسا من عرائس النور الباهر النادر .

أحيانا تحب الطبيعة أن تتأنق وتفنن ، فتجري جدولا ، رفرافا بين الادغال ، تضحك امواجه مقبلة العشب الاخضر او تنبت زهرة يذكر جمالها بالفردوس ، او تصادف طائرا فتلون ريشه بألوانها المعجبة ، وتنفث في صوته من موسيفاها السماوية المدخرة .

وأحيانا تحب الطبيعة نبتا من نباتاتها الناميات في كنفها العائشات في حضنها ، فتسرق له جمال الجدول ، وفتنة الزهرية ، وروح الطائر - وتمنحه كل ذلك بركة من الله فاطر الحسن ، وباري آبانه . .

والطبيعة لا تعرف المحاباة ولا الملق ، فلما فكرت في أن يحقق حلمها المتأنق المفتن لم تسبغ نعمتها على ابنة العمدة

ولا علي شقيقة ملاحظ النقطة . . بل علي سميحة الفقيرة ، التي يستأجر أبوها أربعة أفدنة من أرض الضيعة يحصل من ريعها على القوت والكساء . .

وسألها أن تغنيه موالها الفضل : " بانجمة الصبح " فاستحيت وتمنعت ، ثم لانت . .

هيه ! . إن صوتها لم يعد صوتها . . إن فيه غنة جديدة . إنها تغيرت !

ووصلت في غنائها إلي مقطع الموال : " وسلمي لي على اللي عندهم روحي . . وجفلت فجأة ، واخفت وجهها في ذراعها ، وفرت

وعجب من ذلك ! . ومضت الأيام . وكان يلقاها ، ويتحدث إليها ، ويسمع إلي صوتها الجديد . . وازداد بقينا أن في حياتها شيئا  جديدا ، وان الطبيعة التي أجزلت لها كل هذا الجمال ، قد سرقت قلبها . .

لكنه لم يعرف أين فرت الطبيعة بالقلب المسروق . وأين خبأته

إن كان لكل قلب قصة ، فلا شك أن قلبها قد بدأ قصته .

ياللعذاري   كلهن سواء كلهن يبحثن عن الهناء في مستهل شبابهن ، وينشدنه في قلب رجل تعتمد عليه حياتهن . ويحلمن أن يعشن له وحده ، طيعات ، مضحيات : . كل فتاة تتمني ان تكون عروسا . . إن سميحة غير ملومة إن كانت قد انتخبت رجلها . إن كانت قد ربطت قلبها بعيني فتي وسيم من فتيان القرية ، يعود بزوج البقر إلي الدار ، ويعين اباها في زراعة الحقل ، ويمنحها طفلا يرضى غريزة الأمومة الثاوية في طبيعة كل امرأة ، ويغني لها المواويل

لكن : من الفتي السعيد الذي سيحصد الأحلام النائمة في عينها ؟ الذي يضنيها هواه فتحكى للساقية الباكية قصتها معه : " قلمي رموشي ، حبري دموعي . . وانا الكاتبة على روحي . .

صار بهجت يفاجئها دائما ساهمة مطرقة تخط في التراب ، او تمرك بأناملها زهره البرسيم ، او تقشر الثوب الأخضر عن غصن من أغصان الشجر . وكانت تفزع لقدومه ، وتفيق كأنما كانت في حلم عميق ، وتضطرب في عينيها حلاوة آسرة ، وتعبر على صفحة وجهها الصبوح ظلال وردة من نسج الحياه   وكانت لا تلبث بعد إلحاحه أن تغنيه ، وهي جالسة عند قدميه ، تلك الأغاني التي تؤلفها وتلحنها روحها البسيطة الصافية ، المرسلة على سجيتها

وكان خلال ذلك يلمح فرحا غامضا يلمع في وجنتيها ، ويروي صوتها ، ويتسلل إلي اعطافها ، فيهزها اهتزاز الوتر  في فيثارته . .

وكثيرا ما كان يري فرحها ذاك ينطفئ فجأة ، وتنطفئ معه رنة صوتها ونضرة وجنتيها ، حتى ليخيل له ان ينبوعا من الحزن ينفجر في نفسها فجأة ، وتعلو أمواجه السوداء حتى تغرق قلبها . .

في فرحها وحزنها كان يسألها عن ذلك الفتي الذي يدل من اطوارها ، الذي لا شك انه دخل حياتها ؛ فكانت الظلال الوردية تتداول علي وجهها ، وتخفيه بين ذراعيها ، وتفر هاربة .

وجاء ميعاد الرحيل . . وانباها ذات مساء انه سيبارح القرية في الفجر

ليأخذ قطار الصباح إلي العاصمة من البلدة المجاورة . . ومد لها يده مودعا . . وتناولت يده وقيلتها . . إنها دائما تقبل يده أول قدومه وعند رحيلة . هذه هي تقاليد القرية . . في المدينة القبلة على اليد تحية الرجل للمرأة . وفي القرية هي تبجيل المرأة للرجل

وانفعل الفتي . ياللبنية الأمينة ؛ لقد أبقت شفتيها على يده برهة طويلة . ليخيل إليه أن تلك القبلة حارة أكثر مما ينبغي . . وأنها رفعت وجهها عن أنامله بعناء ! .

وأبقي يدها في يده ، وتشبث بها ، وهم أن يدنيها من شفتيه ، وان يجر الحسناء إلي صدره حتى مهيب أنفاسه . لكنه ذكر أبراجه العالية . وأن هذه الزهرة في بطن السهل . وأن عبيرها ليس له . بل لذلك القروي الذي لابد أنها ربطت قلبها بساعديه ، وعينيه القويتين ، وفأسه ، وحقله . .

وترك يدها ، وانطلق عائدا إلي القرية . ولم ير الدموع التي ملأت  عينيها . . وطفقت الفتاة تنظر بهذه الدموع في الناحية التي ذهب منها . ثم جلست على الأرض متهالكة . ووضعت رأسها بين ركبتيها ، وانفجرت باكية . .

إنه ذهب . . ولم تقو ان تصارحه عما كانت تبطن لقد بدد كل شجاعتها . . لقد كانت معتزمة أن تلتمس منه أن يأخذها معه إلي المدينة ، ويجعلها خادمة في بيته ، تجلس عند قدميه كالقطة الآليفة ، وتغنيه الأغاني التي يحب ، وتبتسم الابتسامات التي تري صداها على وجهه . . فإنه هو وحده زارع هذا القلق الذي راود قلبها ، والعاطفة التي عبثت بروحها ، والشوق الذي شمل شبابها وكيانها . . إنها لم تربط قلبها بقلب فتي في القرية كما يتوهم . إن عينيه

هما اللتان ألقتا بذرة الهيام في أهماقها ، في التربة الخصبة اللينة ، وقد استيقظت من أحلامها ، فوجدت البذرة قد شقت التربة ، وخرجت إلي النور . . ومن عينيه وابتساماته رويت ، واغتذت ، وترعرعت . . إنها لم تناج غيره في اغانيها . إن شبابها لم يصب إلي سواء . . ولم تخط في التراب وتستسلم إلى الوجوم إلا وهو  يملأ نفسها ويلتهم تمنيها إياه كل خواطرها . . كان قدومه إلي القرية هو فصل الربيع لقلبها وشبابها ، فكانت تحاول ان تحيا فيه كل حياتها . . قبل أن يذهب ، ويأتي فصل الصقيع . . فلما عنف شبابها وترعرع الزهر في نفسها ، وصارت في حاجة قاسية للري والشبع ، لم تعد تستطيع بماده . . وقد كانت معتزمة ان تسقط عند قدميه ملتمسة منه أن يأخذها معه ، خادمة طبيعة . .

نعم خادمة . إنها لا تطمع في أكثر من ذلك . . إن ابن السيد الذي يملك كل هذه الأرض . . إنه لن يعطي حياته للقروية الخاملة الفقيرة . .

وفي ذلك المساء جلست سميحة طويلا حيث هي ، ورأسها بين ركبتيها ، وتقدم الليل ، واستسلمت لحلم مضطرب انساب انثاءه ، من بين جفنيها ، خيط دقيق من الدموع . .

وفي الفجر . . كان الفتي يغادر القرية على فرسه . . ووراءه الخدم يحملون حقائبه . .

ومر بحقل الأذرة الذي يزرعه والد سميحة ، وأطاف بشجرات النخيل التي ألف أن يراها تحتها نظرة بائسة . كان الصباح باكرا جدا . ولم تكن هناك . .

ليته نظر إلي يساره . . إنه لو فعل لرأي عينين مفعمتين بالدموع تنظران إليه من خلال أعواد الأذرة . . لقد كانت

سميحة متخفية في قلب الحقل ، تنتظر مروره ، وجسدها ينتفض . . من الصقيع

وايقظها من زهولها صوت بعيد هو صوت صفير القطار ، فمدت بصرها إلى الافق ، محو خط طويل اسود من الدخان أخذ يتبدد في السماء .

ورفعت وجهها ، متعقبة الدخان الضائع في الهواء ، وناحت بصوت يقطر كابة : " يا نجمة الصبح . . طلى وارجعي ، روحي . . وسلمي لي على اللى ، عندهم روحي  ( طنطا )

اشترك في نشرتنا البريدية