] كان بوكاشيو صديق دانى وصفيه ، وكتابه عن تاريخ حياة دانى هو أهم المصادر عنه ، ولكن شهرة بوكاشبو تعتمد على كتابه )) دى كامرون (( الذى أعاد فيه حكاية مائة قصة فى حفنة متصلة ، وعن هذا الكتاب أخذ شوسر وشكسبير ودرايدن وكثيرون غيرهم من كبار الكتاب ، وقد أحب ابنة غير شرعية لملك نابولى كانت زوجة أحد الأمراء . وهى التى ألهمته أكثر آثاره ، وأظهرها بطلة لقصته (( فيامينا )) [
كان فى مسبنا ثلاثة شبان . إخوة تجار . تركهم موت والدهم - وكان من سان جيمانيالو - أثرياء . وكان لهم أخت . اسمها ليزابتا ، فتاة جميلة تضارعهم أدبا وتهذبا ، لكنها لسبب ما لم تتزوج بعد . وكان عند الإخوة الثلاثة فى متجرهم شاب من بيزا . اسمه لورنزو . يدبر لهم كل شئونهم ، ولما كان يمتاز بالأمانة والشهامة فإن ليزابتا كانت كثيرا ما تمنحه نظرة . وبدأت تميل إليه . وقد لاحظ لورنزو ذلك فهجر كل حبيباته وبدأ يبادلها الإعجاب . وتمكن الحب من قلبيهما فاندفعا لا يحفلان بشىء . ونسيا أن يحيطا أمرهما بالكتمان اللازم ، فحدث ذات ليلة وكانت ليزابتا ذاهبة إلى حجرة لورنزو أن رآها أكبر الإخوة دون أن تشعر ، فآلمه ما رأى لكنه اعتصم بالحكمة ولم يقل شيئا ، وقضى الليلة يقلب الأمر فى ذهنه على أوجهه ، وفى الصباح أخبر إخوته بما رأى فى الليل ، ولكى لا يقع العار على
أحدهم أو على شقيقتهم قرروا بعد تدبير طويل أن يعتصموا بالصمت كأنهم لم يروا أو يسمعوا شيئا ، إلى أن يحين الوقت المناسب لكى يضعوا حدا لهذا الأمر قبل أن يستفحل ، فلم يكفوا عن الضحك والمزاح مع لورنزو كعادتهم ، وبعد أيام تظاهروا بأنهم ذاهبون إلى المدينة للمتعة ودعوا لورنزو ليرافقهم ، فقبل هذا وذهب معهم . فما وصلوا إلى مكان بعيد منعزل رأوا أنه يناسب غرضهم هاجموا لورنزو الذى أخذ على غرة إذ لم يطلب بذهنه أى شك فى نياتهم ، فذبحوه ثم دفنوه دون أن يشعر به أحد .
وفى عودتهم إلى مسينا ادعوا أنهم أرسلوه فى مهمة تتعلق بالعمل ، ولما كانوا كثيرا ما فعلوا ذلك من قبل فإن أحدا لم يرتب فى شىء . لكن لما لم يعد لورنزو سألت ليزابتا إخوتها عنه بإلحاح وقلق وقد حزت فى قلبها غيبته الطويلة ، فحدث ذات يوم عندما كانت تلح فى سؤالها أن
قال لها أحد الإخوة : ما معنى هذا ؟ وما شأنك أنت بلورنزو حتى تسألى عنه هكذا على الدوام ؛ لا تسألينا عنه ثانية وإلا جازيناك عن هذا السؤال بما تستحقين .
ولذلك كفت الفتاة عن السؤال . وقد غمر قلبها الأسى والشجن ، وأحست بخوف منهم ، لكنها كثيرا ما نادته فى الليل فى ضراعة تدعوه أن يعود إليها ، وتبكى غيبته الطويلة بالدمع الحنون وتتلهف على عودته حتى أضناها الغم والسقم . وحدث ذات ليلة إذ أوت إلى فراشها بعد ما بكت طويلا فاستغرقت فى النوم أن بدا لها لورنزو فى الحلم شاحبا وقد تمزقت ملابسه كأنها الأسمال وقال لها : " أى ليزابنا ! ما عاد لك من شغل إلا دعائى . لقد تسببت فى عذابك بغيبتى الطويلة ، ولشد ما تحز فى نفسى دموعك . لكنى لا أستطيع أن أعود إليك ، ففى آخر يوم رأيتك فيه قتلنى إخوتك . . .
وبعدها وصف لها المكان الذى دفنوه فيه . وطلب منها ألا تبكى بعدها ولا تنتظره . ثم اختفى . فاستقيظت الفتاة فزعة وهى لا تشك فى أن هذا الحلم حقيقة . وفى الصباح لم تستطع أن تقول شيئا لإخوتها وصممت على أن تذهب إلى المكان الذى عينه لها فى الحلم لتتحقق مما رأته فى المنام . فادعت أنها ذاهبة للترويح عن نفسها قليلا خارج المدينة واستصحبت خادمة مخلصة كانت تعيش معها وتعلم كل سرها ، وأسرعت إلى المكان الذى عينه لها بأقصى سرعتها ؛ وما إن أزالت بعض الأوراق الجافة المنتثرة فى ذلك المكان وبدأت تحفر حيث بدت لها الأرض أشد طراوة حتى وجدت جثة المحب البائس ولم يتناولها عبث ولا تلف ، وهكذا علمت دون أدنى شك أن ما رأته فى المنام كان حقا ، وودت وهى أشد النساء حزنا وأسى لو وقفت طويلا تندبه هناك . وتمنت لو تستطيع أن تحمل الجثة كلها لتدفنها فى مكان يليق بها . ولكنها كانت لا تستطيع ، فأخذت سكينا وفصلت الرأس عن الجسد ، ثم لفته فى قماش وأهالت التراب على بقية الجثة وغادرت المكان ولم يرها أحد . ثم عادت إلى منزلها وهناك أغلقت عليها
حجرتها ومعها الرأس وقبلته آلاف المرات فى كل موضع ، ويكت طويلا فى حرقة فوقه حتى أغرقته بدموعها . ثم لفته فى قطعة رقيقة من القماش ووضعته فى إناء جميل من ذلك النوع الذى يزرع فيه الريحان والورود ، ثم غطته بالتراب وزرعت فوقه بعضا من أحسن أزهار الريحان فى سالونو ، وكانت لا ترويها إلا بدموعها أو بماء معطر بالورد وشذى البرتقال ، وكثيرا ما جلست إلى جانب الإناء تسقيه بدموعها ، وإذ تعهدت التربة بهذه العناية التى لا تنقطع وكان الرأس المتعفن داخلها يغذيها الغذاء الدسم فقد نمى الريحان بجمال فائق وشذى عجيب .
ومضت حياة الفتاة على هذا المنوال . ودهش إخوتها إذ رأوا جمالها يذبل وعينها مقرحتين ، وكان بعض الجيران قد لاحظوها إذ تجلس إلى إناء الريحان ، فأفضوا بالخبر إلى الأشقاء ، وهؤلاء راقبوها وزجروها مرة أو مرتين ، ولكنها لم تكف عن مسلكها ، فأخفوا عنها الإناء دون أن تشعر ، ولما افتقدته ولم تجده أخذت تطلبه بإلحاح ، فلما لم يعطوه لها مضت لا تنقطع عن النواح والبكاء حتى مرضت وهى لا تكف فى مرضها عن التوسل إليهم أن يعيدوا إليها إناء الريحان .
فدهش إخوتها الشبان دهشة شديدة وأرادوا أن يروا ما يحويه الإناء ، فلما أزالوا الطين رأوا قطعة القماش وبدخلها الرأس لم يأت عليه البلى ، فعرفوا أنه رأس لورنزو وأخذتهم الدهشة وخافوا أن ينتشر الخبر ، فدفنوا الرأس ! وفى سكون وهدوء حصلوا على إذن خاص بمغادرة مسينا ورحلوا إلى نابولى . ولم تكف الفناة عن البكاء والتضرع حتى ما تت ،
