الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 615الرجوع إلى "الثقافة"

يحكى أن, الأقمصة، للكاتب التشيكوسلوفاكي كارل كابك

Share

إنه يود لو يفكر في أشياء متعددة ، أشياء أكثر أهمية من ذلك الأمر . ولكن ماذا يفعل وهذا الفكر بثابر على التردد في ذهنه : إن مديرة داره تسرقه .

كانت تقيم معه منذ سنين عديدة . وكانت قد فارقته عادة اقتفاء أثر حاجاته الشخصية . فهو يفتح صوان ملابسه كل صباح ، فيأخذ قميصا من لمة الملابس المكدسة ، ثم تجيء جوهانكا بين الفينة والفينة فتعرض أمام عينيه قميصا ممزقا ، وتخبره أن جميع الأقمصة على هذه الحال . وأن على السيد أن يشتري جديدا غيرها . حسن جدا ، سيذهب إذا السيد وببتاع نصف دستة من الأقمصة ، ولو أنه لم يغب عن باله أنه قد قام بنفس هذا العمل من وقت ليس ببعيد .

وكان هذا نفس الحال مع الباقات وربطات العنق ووالملبوسات وغيرها من آلاف الأشياء التي لا غني للرجل عنها ولو كان أرملا . إن كل شئ لا بد أن يتجدد من آن إلي آخر ، ولكن . كانت هذه الأشياء تقدم وتبلي في سرعة ، ويعلم الله ما الذي يحدث لها . لقد كان لا ينقطع عن شراء حاجات جديدة . ومع ذلك فكان كلما فتح صوان ملابسه لا يواجهه إلا خليط من الملابس الرثة الباهتة التي لا يدري متى أصبحت هكذا .

أما الآن ، فللمرة الأولى بعد كل هذه السنين ، تتغلغل في ذات نفسه فكرة أن حاجاته تسرق منه بانتظام . لقد تسلم في ذلك الصباح رقعة دعوة إلى مأدبة تقيمها جمعية أو ما شابه ذلك . فجعل يبحث عما إذا كان لديه قميص فاخر يليق بهذه المناسبة . وأخرج الأقمصة من الصوان فلم يجد فيها قميصا إلا وقد تهرأت ياقته أو بلي كماه . ونادي جوهانكا وسألها : اليست لدي ملابس لائقة ؟ وبلعت ريقها وصمتت لحظة قبل أن تقول في حدة : إنه لا بد للسيد أن يشتري أقمصة جديدة ، فلا فائدة من مداومة ترقيعها الأقمصة القديمة . إنها أشبه ما تكون بخيط العنكبوت .

وامتلكه شعور مهم بأنه اشتري بعضها من زمن قريب . ولما لم يكن متيقنا من ذلك ، فقد لزم الصمت وشرع يرتدي سترته حتى يذهب ويبتاع غيرها . بيد أنه عند ما أخذ يرتب حاجاته ، ويخرج بعض الأوراق القديمة من جيوبه ليري إذا ما لزم الاحتفاظ بها أو إلقاؤها بعيدا ، إذ وجد من بينها كشف حساب أقمصته الأخيرة ، وقد دفع ثمتها منذ بضعة أسابيع . إذا فمنذ بضعة أسابيع كان قد اشترى نصف دستة من الأقمصة ! وهذا ما جعله يدرك أن أقمصته تسرق منه .

ولم يذهب ليشتري غيرها . بل جعل يجول في الحجرة مفكرا . ورجع بذاكرته إلى بضع سنين مضت ، تلك التي قضاها وحيدا . فمنذ أن ماتت زوجته ظلت جوهانكا تدير له داره . ولم تساوره فيها مطلقا أقل شبهة أو خيانة . ولكن ها هو ذا الآن راوده شعور مؤلم في أن حاجاته كانت تسرق منه طول هذا الوقت . وتلفت حوله ، إنه لا يستطيع أن يحصى ما الذي فقده من الأشياء . بيد أنه لاحظ فجأة أن المكان أصبح خاويا مهجورا ، مقفرا .

كان هناك شئ لا يستطيع أن يفسره . لماذا تسرق مديرة داره حاجاته ؟ وما الذي تفعله بها ؟ او " . إنه يعرف السبب . لقد تذكر فجأة واقتنع تماما أن ذلك هو السبب ! إن لها ابن أخ تحبه حبا شديدا ، ذلك الحب الذي يستولي على عمة مولعة بابن أخيها . ألم يستمع إلي ثرثرتها وهي تتحدث عنه كزهرة من زهور الشباب ؟ واندفع في غضب شديد ، وهرول إلى المطبخ ، وصاح بجوهانكا قائلا : أيتها الشمطاء الشريرة ؛ ثم كر راجعا وغادرها مرتعبة ، والدموع تثري من عينيها .

ولم يكلمها طوال ذلك اليوم . كانت تتنهد كما لو أنها أهينت . وأخذت تحدث ضوضاء بكل ما يصل إلى يديها من أدوات ، وهي لا تدري سببا لتهوره . وجعل يرتب ويحصي ما في صوانه وأدراجه . وكانت في حالة مروعة . وأخذ يتذكر شيئا ، ثم غيره مما كان يملكه زمنا ما . ها هو ذا لا يجد شيئا منها . لا شئ . كأنما قد حدث حريق أتي عليها . وشعر بالرغبة في البكاء غيظا وكمدا .

لو كان قد دري بذلك في حينه لصفعها على وجهها . ما الذي يفعله معها ؟ ايطردها في الحال ؟ أو يسلمها إلى رجال الشرطة ؟ ولكن ، من يقوم بالطهى غدا ؟ فليذهب إلى المطعم . ولكن ، من يقوم بتسخين الماء وإشعال النار ؟ .

وأبعد عن ذهنه تلك الاعتبارات وقال : سأنهي هذه المسألة غدا . وأقنع نفسه أنه لا بد أن يتغير الحال . وسخر من فكرة أنه مقيد بها .

وعند ما أقبل المساء تمالك زمام نفسه بقدر ما يستطيع ، وذهب إلى المطبخ وقال لها بلا مبالاة : عليك بالذهاب لقضاء بعض حاجات لي من الخارج ، ثم زودها بالتعليمات اللازمة للقيام ببعض المهمات المعقدة التى كان من الطبيعي أن يطلبها . وأمرها أن تقوم بإنجازها في الحال . كان قد دبر كل ذلك بمشقة . ولم تفه جوهانكا بكلمة ، بل تهيأت حتى تتجز طلباته ، وقد بدا عليها جو الشهداء

وأخيرا انصفق الباب خلفها وتركته وحيدا . وسار إلي المطبخ بقلب واجف ، ثم تردد وقد وضع يده على الرتاج . وتملكه الرعب عندما أدرك انه لا ينبغي له أن يدفع بنفسه إلى اغتصاب صوانها . إن ذلك من فعل اللصوص . وفي اللحظة التى هم فيها بالتراجع إذا به يفتح الباب ويدخل . كان المطبخ يتلألأ نظافة وقد قام هناك صوان جوهانكا .

وكان مغلقا وليس هناك اثر لمفتاح . وزاد ذلك من رغبته في إنجاز الغرض الذي أتي من أجله ، وحاول أن يغتصب باب الصوان بسكين ، بيد أنه عجز عن فتحه . وجذب كل درج يبحث عن المفتاح . ثم جرب كل مفتاح من مفاتيحه . وأخيرا ، وبعد نصف ساعة من الغضب وجد أن الصوان لم يكن مغلقا بالمرة ، وكان في استطاعته أن يفتحه بأية أداة

كانت الملابس مطوية في عناية وترتيب على رفوف الصوان ، وشاهد بأعلاها ستة أقمصة من أقمصته لم تزل مربوطة بالشريط الأزرق كما أتت من محل بيعها . وجذب كل شئ من الصوان ووجد جواريه وياقاته وصندوقا من الصابون ، وفرشاة أسنانه ، وصدرة حريرية قديمة ، وأكياس وسادته . كانت كل هذه الأشياء في الواقع تخص صوانه . وكان من الجلى أن معظمها يرسل منذ زمن بعيد إلى ابن الأخ . إذا فهذا

ما يحدث ؟ جوهانكا ، جوهانكا ، أأستحق كل ذلك منك ؟

ونقل أشياءه ، الواحد تلو الآخر ، إلى حجرته ، ونشرها على المنضدة . وقذف بما يحص جوهانكا داخل الصوان في المطبخ . كان يود أن يضعه في ترتيه السابق ، بيد أنه عجز بعد عدة محاولات ، فانسحب تاركا الصوان منفرجا . ثم شعر بالخوف ينتابه خشية أن تعود جوهانكا ، فيضطر إلى محادثتها حديثا خطيرا . وشعر بالامتعاض من ذلك ، حتى إنه أخذ يرتدي ملابسه في سرعة وهو يقول : " غدا ، غدا أناقشها الحساب . يكفي اليوم أن تعرف أني اكتشفت الأمر " وحينما انتهى من ارتداء ثيابه تسلل خارجا وكأنه اللص . وظل يتسكع مدة ساعة في الطرقات تحت وابل من المطر حتى حان موعد ذهابه إلى المأدبة .

ولاحت جوهانكا في خاطره وهو سائر في الطريق بعد عودته من الحفلة . ووالت عليه الأفكار وقد أسرع الخطى وجعل يرسم خطته . ما الذي يقوله لها ؟ وتجمعت الكلمات في جمل طويلة قوية ، وارتبطت ببعضها في سهولة لم يعهدها من قبل . خطبة طويلة من الاتهامات الخطيرة . إنه لن يلقي بها في الطريق ، فقد تبكي وتتوسل . وقد تستمع إليه في صمت دون أن تثير شفقته أو تحرك عواطفه ، فيقول لها في حزم : جوهانكا ، سأمنحك فرصة تكفري فيها عن نكرانك الخميل فكوني أمينة مخلصة ، ولا أطلب شيئا خلاف ذلك . أنا رجل كهل ، ولا اود أن أكون قاسيا نحوك . وتحمس لذلك تحمسا شديدا حتى إنه لم يشعر إلا وهو داخل داره . كان النور مضاء في حجرة جوهانكا . واختلس النظر خلال الستار الذي يحجب عنه المطبخ . يا إلهي ؟ ما هذا ؟ كانت جوهانكا مندفعة في أنحاء المطبخ بوجه ممتقع متورم من البكاء وهي تقذف بحاجاتها في حقيبة كبيرة . * *

وانزعج انزعاجا شديدا . وزحف إلي حجرته سائرا علي أطراف أصابعه ، مرتبكا ، خائفا ، حائرا . هل جوهانكا على وشك الرحيل ؟

ورقدت أمامه على المنضدة كل الأشياء التي سرقت منه . ولمسها بأصابعه دون أن يشعر بأقل سرور ، وحدث نفسه قائلا : لقد فهمت . إن جوهانكا قد كشفت معرفتى بأنها مذنية بارتكاربها السرقة . وهي تتوقع أني سأطردها في الحال - وهذا هو سبب جمعها حاجاتها . حسن جدا ، سأتركها على اعتقادها إلى الغد وسيكون ذلك عقابا رادعا لها . نعم سأتحدث معها صباحا ، ولكن لعلها . . لعلها تأتي إليه الآن طالبة الصفح . ولسوف تجهش بالبكاء ، وتنهمر دموعها أمامه ، وتسقط على ركبتيها وغير ذلك من الأفعال . هذا يكفي يا جوهانكا ، إني لا أود أن أكون فظا معك ، يمكنك أن تظلي بالدار .

وجلس ينتظر الحوادث وقد خيم الصمت عليه ، وغرقت الدار به كان يسمع كل خطوة تخطوها جوهانكا بالمطبخ ، وصوت الصقاق غطاء الحقيبة في شدة ، ثم أعقب ذلك الهدوء . ما هذا ؟ وهب منزعجا . لقد تناهي إلي سمعه عويل طويل مرعب . كما لو أنه صادر من مخلوق لا ينتمي إلى البشر ، ثم أعقب العويل سلسلة من التشنجات الهستيرية ، كانت جوهانكا تبكي . وكان في الواقع مستعدا لكل شئ إلا هذا . وهب واقفا بقلب واجف ، وأصغى إلى ما يحدث بالمطبخ ، فلم يسمع إلا تشنجات البكاء . عما قريب تتمالك جوهانكا روعها وتطلب منه الصفح . وجعل يذرع الحجرة حتى يستعيد حزمه . ومع ذلك لم تحضر جوهانكا

وكان يقف من آن إلى آخر ويتسمع . لقد تحول عويلها إلى سلسلة من العواء المرتفع الممل . وأصبح بأسها في نظره كربا . وعزم على الذهاب إليها . لن يقول لها إلا " فليكن هذا درسا لك يا جوهانكا . فكفي إذا عن البكاء ، سأنسي ماحدث على أن تكوني أمينة في المستقبل " .

وبغتة سمع جلبة عنيفة ، وفتح الباب في شدة ، واندفعت جوهانكا منه ، ثم وقفت بجواره تعوي . كم راعه رؤية وجهها التورم من البكاء . ولهث قائلا : جوهانكا .

وخرجت الكلمات من فمها متقطعة : هل . . أنا . . أستحق ذلك ؟ شكرا جميلا لهذا . كما لو أني لصة . . يا للعار

فصاح في انزعاج : ولكن يا جوهانكا . ولكن لقد استوليت على حاجاتي . كل هذا . . أترين ؟ ألم تستولي عليها ؟ .

قالت وكأنها لم تستمع إليه : مثل هذا العار . . تبحث في صواني . كما لو كنت . غجرية لصة . تعيرني أنا حقا كان يجب ألا تفعل ذلك يا سيدي . . لا حق لك في إهانتي مطلقا حتى يوم مماتي . . لم أكن أتوقع ذلك منك . هل أنا سارقة حقا ؟ .

وجعلت تصرخ وتقول : ألم تفكر في عائلتي ؟ ذلك لم اكن اتوقعه منك . فقال وقد تصبب عرقا : ولكن يا جوهانكا تعقلي . كيف أتت هذه الأشياء إلى صوانك ؟ أتخصك أم تخصى ؟ . ونشجت جوهانكا وهي تقول : لا أريد أن أسمع منك شيئا . يا إلهي . أي عار

ثم قالت في صوت مخيف : ولكن . . حالا . . في هذه الآونة . . في الحال . . لن أمكث حتى الصباح . فاعترض في انزعاج قائلا : ولكن افهمي . إني لا أود أن أتخلى عنك . ستظلين . أما ما حدث . حسن فليعف الله عن سيئاتنا . إني لم أقل لك شيئا حتى الآن . فكفي إذا عن البكاء .

وقالت جوهانكا وهي تختنق بالدمع : ابحث عن واحدة أخرى غيري ، فلن أظل هنا حتى الغد . كما لو كان المرء ، كلبا . . إني أرفض . ثم هتفت تقول في بأس : لن يكون ذلك حتى لو دفعت لي الآلاف . إني أفضل أن اقضي ليلتي على الإفريز . فجادلها قائلا : ولكن لماذا يا جوهانكما ؟ هل جرحت شعورك ؟ ومع ذلك ، فلا يمكنك أن تنكري .

فقاطعته صائحة في صوت لا يزال جريحا من الألم : كلا . لم تجرح شعوري ؛ ليس هذا يجرح شعور . . بحثك في الصوان كما لو كنت لصة . . إنه لا شئ مطلقا . لم يسبق لأحد أن فعل مثلما فعلت . . يا للعار

وجعلت تصرخ وقد انهرت الدموع من عينيها ، ثم اندفعت خارجة ، وصفقت الباب خلفها في شدة . ووقف ذاهلا مشدوها ، فبدلا من الندم ، يأتي هذا المشهد ، ماذا يعنى ذلك ؟ إنها تسرق كالغراب ، ولا شك في هذا ، وتشعر بالإهانة لأني عرفت سرقتها . وهي لا تخجل من كونها لصة ، بل تشعر بأنها أهينت في قسوة . هل هي مختلة الشعور ؟ .

ولكنه أصبح يغمره شعور من الأسف عليها أخذ يزداد شيئا فشيئا ، وقال لنفسه : " إن لكل شخص نقطة ضعف في ذاته . وأشد ما يجرح شعوره ويهينه أن تفصح له عن هذه النقطة . آه ! ما أكثر ما يضمر الإنسان من الحساسية حتى في أخطائه ! ضع إصبعك على رذيلته المتخفية ، ولن تسمع إلا صيحة الألم والسخط إجابة لما حدث " .

وأقبل من المطبخ صوت بكاء مكتوم ، وود لو يدخل إليها . ولكن ، كان الباب موصدا . ووقف هناك يحاول أن يجعلها تحكم صوت العقل والمنطق ، وان يوبخها ثم يهديء روعها . ولكن كان ردها عليه ازدياد بكائها . وعاد إلى حجرته ميهموما وقد غمرته شفقة جارفة وألقى بنظرة علي المنضدة وقد حفلت بالأشياء المسروقة . ومر بإصبعه عليها في لطف . بيد أنه شعر كما لو أن في النفس شيئا ينتسب إلي الحزن واليأس . .

اشترك في نشرتنا البريدية