جلس هنري جارنيت إلي أصدقائه وقد قطب جبينه وبدا عليه الغضب . فانهالو عليه بالاسئلة يستوضحونه سر حزنه ، فعلموا منه أن ابنه قد عصاه ، وأنه تصرف تصرفاً مشينا أثناء رحلته إلى مونت كارلو . . وبدا يقص عليهم قصته :
ذلك أن ابنه نيقولا ، وهو من خيرة لاعي التنس في كامبردج ، قد عرضوا عليه أن يشترك في مباراة التنس التي ستقام في مدينة مونت كارلو . . وقد رحب الابن بهذا العرض ، إذ وجد فيه فرصة سانحة لإظهار مهارته في مباراة دولية كبيرة ، ثم لزيارة إيطاليا للمرة الأولى في حياته .
ولكن والديه استشعرا القلق فقد خشيا علي ابنهما أن يجرفه تيار مونت كارلو وأن ينغمس في لهوها وجوها الموبوء . ولكنهما اضطرا إزاء إلحاح ولدهما أن يقبلا ، وانفرد الأب بابنه يوصيه وينصحه :
إني آمل أن تسلك هناك مسلك الشاب الطيب العاقل . . ولن أثقل عليك بالنصائح ، ولكني أوصيك بأن تتجنب أموراً ثلاثة : الأمر الأول خاص بالميسر ، فلا تفكر في المقامرة . . والثاني خاص بالمال فلا تقرض أحدا مالا .
والثالث خاص بالنساء ، فلا تقربهن . . أرجو أن تذكر ذلك جيداً . .
فابتسم نيقولا وقال : إني أعدك بألا أنسي أمراً من هذه الأمور .
وسافر نيقولا إلى مونت كارلو واشترك في المباراة ، وبرغم أنه لم يتغلب فيها على واحد من منافسيه إلا أن لعبه كان رائعا ، ولكي يحتفظ بصحته امتنع عن تناول الخمر وقلل من التدخين وصار يأوي إلي فراشه في وقت مبكر . ولكنه في مساله الأخير بمونت كارلو أحب أن يخرج ليشاهد معالم المدينة والحياة فيها ؛ ذلك أنه راحل في الغد إلى لندن وقد خشي أن تفوته مشاهدة هذه الحياة الصاخبة التي طالما جمع عنها واشتاق إلى رؤيتها .
ودخل نيقولا أحد نوادي الميسر ووقف خلف الجموع المحتشدة يشاهد لعبة الروليت لأول مرة في حياته . وداخله العجب وهو من عاش طيلة حياته باقتصاد ، ينفق النقود بحذر ، إذ يري الآلاف من الجنيهات وهي تضيع من أصحابها في ثانية دون أن تتغير ملامحهم .
ودخل نيقولا في حوار مع الواقف بجواره وأفهمه أنه لم يلعب الروليت مطلقا في حياته ، فأشار عليه صاحبه
أن يجرب حظه ولو مرة واحدة قبل مغادرته المدينة وقال : - إنه لمن الحماقة أن يغادر المرء مونت كارلو دون أن يلعب الروليت ، ولن يضيرك لو خسرت مائة من الفرنكات .
فأجاب نيقولا : ولكن الميسر هو أحد أمور ثلاثة وعدت أبي أن أتجنبها في مونت كارلو . .
وغادر نيقولا رفيقه وانتقل إلى مائدة أخرى يشاهد اللاعبين . . وكان اللعب مثيراً إلى أقصى حد ، فبدأ يتبين صحة قول صاحبه ، وانه من الحماقة ألا يلعب المرء الروليت قبل رحيله عن مونت كارلو . . ثم إنها ستكسبه خبرة جديدة . وعلي الشاب في مثل سنه أن يكتسب الخبرة أينما وجدها . . ثم تذكر انه لم يعد أباه ألا يقامر . . إنه وعده فقط ألا ينسى نصائحه . . والوعد باتباع النصيحة غير الوعد بعدم نسيانها . .
وأخذ ورقة بمائة فرنك ووضعها على الرقم ١٨ وتتبع المجلة وهي تدور بقلب يخفق بشدة . وبدأت الكرة تخفض من سرعتها ، فهل صدق نيقولا عينيه عندما وقفت عند الرقم ١٨ ؟ .
وانتقلت إليه أضعاف القيمة التي راهن بها . . وفي غمرة ذهوله نسي أن يسحب ما وضعه على الرقم ، ودارت العجلة مرة اخرى فما راعه إلا صوت رفيقه يصيح به : لقد كسبت مرة أخري . .
فسأله مدهوشا : أنا ؟ إنني لم أراهن هذه المرة . . فقال له : لقد نسيت أن تسحب ما راهنت به في المرة السابقة فكسبت مرة أخري .
وانتقلت إليه مرة أخرى أكوام من الأوراق النقدية فاحصي ربحه وإذا هو يبلغ سبعة آلاف من الفرنكات . . ودار رأسه وتملكته قوة غريبة ، فابتسم ولاحظ امرأة فاتنة واقفة إلى جواره تبتسم له فقال لها : - أليس ذلك غريبا ؟ إنها أول مرة اشترك فيها في العب . فأجابته : وهذا هو السر في أنك تكسب . . هل لك
أن تقرضني ألف فرنك . . لقد خسرت كل ما أملك وسأعيد إليك نقودك بعد نصف ساعة . فأجابها : حسنا جداً . وأعطاها المبلغ فشكرته وانسحبت قال له رفيقه : لن تراها بعد الآن .
فذهل نيقولا وتذكر نصيحة أبيه الثانية ، وهي ألا يقرض أحدا . فما أغباه فيما فعل . . وخاصة لامرأة لا يعرفها . . ولكن الحقيقة هي أنه شعر في هذه اللحظة بحب جارف لجميع الناس فلم يستطع الرفض . . وتابع اللعب فخسر أولا ثم بدأ يكسب باستمرار ، وبعد مضي ساعة وجد عنده عشرين ألفا من الفرنكات ، وانسحب من المائدة وكان على وشك الخروج من النادى عندما أتت إليه المرأة التي اقرضها الألف قادمة نحوه . . وقالت له :
- لقد بحثت عنك في كل مكان فلم أجدك . . ها هو ذا الألف الذي أقرضتنى إياه وشكرا لك . واحمر وجه نيقولا . . كيف ؟ إنه شك فيها فإذا هي أمينة مخلصة . . وأساء إليها دون أن تدرك هذه الإساءة . لقد حذره أبوه من الميسر فكسب عشرين ألف فرنك . وحذره من إقراض المال فإذا المرأة الغريبة عنه ترده إليه . . إنه ليس بالغبى كما يظن أبوه وقد دفعته غريزته إلى إقراض هذه المرأة وهو واثق من أنها سترد الدين فجاءت غزيزته صادقة . .
وأفاق على صوت المرأة وهي تقول : - إن زوجي موظف في مراكش وقد اتيت هنا للراحة والاستجمام لمدة أسابيع . لقد رأيتك تلعب في المباراة ، والحق أن طريقتك في اللعب رائعة . . كما أن منظرك في لباس اللعب جذاب . .
فداخلة الزهو والغرور وقال في نفسه إنها لم تفترض منه المبلغ إلا لكي تتعرف به . قالت : ألا تريد أن ترقص ؟ هلا ذهبنا إلي
" كنيكربوكر " لتناول العشاء هناك ؟ وتذكر نيقولا نصيحة أبيه الثالثة وهي أن يتجنب النساء . . ولكن رفيقته لابد وأن تكون من فضليات النساء ، فلم ير مانعاً من مرافقتها إلى المرقص .
ورقصا في كنيكربوكر ، وشربا زجاجة من الشمبانيا ، وألصقت خدها بخده فاضطرب قلبه وخفق خفقاناً شديداً وأحس بسرور غريب .
وقالت له : هل قال لك أحد من قبل إنك جميل الطلعة ؟ فضحك وقال : لا . وأضاف يقول لنفسه : لقد وقعت في حبي . وضمها إليه فأغمضت عينها وتنهدت . . وشعر نيقولا بمرور الوقت سريعاً فقام مستأذنا للانصراف فقالت : إنني ذاهبة أيضا فهل توصلني بعربتك إلى الفندق الذي أقيم فيه ؟
ودفع نيقولا ثمن العشاء والشراب ثم استقلا عربته حتي الفندق فنزلا منها وصرف نيقولا العربة قائلا إنه سيكمل المسافة إلى فندقه ماشيا . . - أرجو أن تصعد معي لحظة حتى أريك صورة طفلي الصغير .
وصعد معها إلى غرفتها ولكنها لم تره صورة طفلها الصغير ، بل جعلت يديها حول عنقه وقبلته قبلة حارة على شفتيه . .
واستيفظ نيقولا بعد ساعتين فلم يدرك أين هو . . ولكن الغرفة لم تكن مظلمة تماما ، فباب الحمام كان مفتوحا . وأدرك فجأة أن شخصا يتحرك في الغرفة ، ثم تذكر على حين بغتة أنه ما زال في غرفة صديقته ، وكاد يتكلم لولا أن رأي أنها مقدمة على أمر فقد كانت تمشى بحذر وكانت تلتفت من حين لآخر إلى السرير . وساءل نيقولا نفسه عما يكن أن تضمره هذه السيدة . . ولكن تساؤله لم يطل ؛ فقد رآها تتجه إلى الكرسي الذي وضع عليه ملابسه وتمسك بمعطفه ثم تأخذ منه العشرين ألف فرنك . .
وأرجعت المرأة المعطف ثانية إلى مكانه ونظرت إلي السرير فتظاهر بالنوم العميق ثم سارت إلي مائدة عليها أصيص تبرز منه نبتة فأخرجتها منه ووضعت النقود تحت الطين ثم أعادت النبتة وعادت إلى السرير .
واستمر نيقولا متظاهراً بالنوم العميق وجعل يلعنها : - إنها لا تعدو أن تكون فاسقة محتالة هي وطفلها وزوجها في مراكش . . لقد حاولت خداعي وظنتني طفلا أبله .
وأعمل فكره سريعاً حتى انتهى إلي حل ، ودله تتفسها المنتظم على أنها قد استغرقت في النوم فقام بهدوء وانسل من السرير ومشي ببطء نحو المائدة وأخرج الطين من الأصيص وتحسست يداه موضع النقود فأخرجها وأعادها إلى معطفه ثم ارتدي ملابسه على عجل وخرج من الغرفة
ولم يشعر نيقولا بالطمأنينة إلا عند ما ترك الفندق . فسار إلى فندقه وهو يكاد يرقص في الهواء ، فأعد حقائبه وتناول إفطاره . . وبعد ساعة كان قد استقل الطائرة التي ستحمله إلى انجلترا .
وشعر نيقولا وهو في الطائرة برغبة في أن يعد نقوده من جديد فأخرجها من جيبه وبدأ يحصيها ورقة ورقة . . ولكنه لاحظ شيئا عجيبا . . فبدلا من أن يجدها عشرين ألفا وجدها ستة وعشرين ألفا . . فانتابه الذهول ولم يفهم . . وأعاد عدها مرة بعد اخرى ، ولكنه وجدها ستة وعشرين ألفا كل مرة .
وفجأة قفز إلى ذهنه السر . فهو عند ما تحسس بيده موضع النقود في الأصيص قد أخذ كل ما هنالك ولم يترك شيئا . فهو لم يدرك أن نقوده لم تكن وحدها هنالك بل ونقود المرأة أيضا . .
وانفجر نيقولا يضحك كالمجنون . فهذا أغرب ما مر به في حياته . . وتخيلها وقد استيقظت في الصباح متوقعة أن تري النقود كلها في الأصيص فلا تجد نقوده ولا نقودها . .
وتمتم قائلا : إنها تستحق ذلك . . ثم انفجر ضاحكا مرة أخرى ،
هذه هي القصة التي قصها هنري جارنيت على أصحابه وعلق عليها قائلا : - ما يثيرني ويغضبني هو أن هذا الفتى الملعون مسرور من نفسه . لقد قال لي اليوم : " يظهر يا أبي أن نصيحتك لم تكن صحيحة تماما . لقد نصحتني بألا أقامر فكسبت الآلاف . ونصحتني بألا أقرض فرد على ما اقرضته ، ونصحتني
ألا اتصل بأمرأة فزادت نقودي ستة آلاف فرنك . وسكت هنري جارنيت فانفجر اصحابه ضاحكين ، فنظر
إليهم وقال : - لقد كان الفني يحترمني ويثق في . . وإني لأعتقد الآن أنه لا يرى في سوى أنني أحمق مغفل مع أن نصائحي - وأظنكم توافقوني على ذلك - نصائح طيبة للغاية .
فقال له أحدهم يهدئه : لا تقلق فإن ولدك قد ولد محظوظاً ، وإنه لخير للمرء أن يولد محظوظاً من أن يولد ذكيا أو موسراً .
