الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 594الرجوع إلى "الثقافة"

يحكى أن, قارع الناقوس الهرم، للكاتب الروسي فلاديمير كرولنكو

Share

أخذ الظلام يزحف بجيوشه ، وأطبق على القرية الصغيرة الرافدة على مقربة من النهر بجوار غابة الصنوبر ، في إحدي ليالي الربيع ، وقد ازداد الشجر حلكة من ضباب الأرض المتصاعد ، فيملأ الفضاء الرحب ظلا لازورديا ، كان كل شئ ساكنا كئبيا حزينا . وكانت القرية هاجعة في هدوء .

وبدت الأكواخ البالية القائمة واضحة للعالم ، وتلألأت الأنوار هنا وهناك . وكنت نسمع بين الفينة والفينة صرير باب أو نباح كلب سرعان ما يكف عنه . ثم لا يلبث أن يبرز من أحشاء ظلام الغابة المترنمة شبح يسعي على قدميه أو آخر يمتطي جوادا أو ثالث تترنح به مركبته . هؤلاء كان أهل القرى المستقرة بالغاية المتفردة ، قاصدين إلى كنيستهم للاحتفال بعيد الربيع العظيم ، تلك الكنيسة القائمة على هضبة بسيطة وسط القرية ، وقد شمخ برج أجراسها القديم الداكن حتى ضل في السماء الزرقاء .

وصر الدرج تحت قدمي قارع الناقوس الهرم مبخبنش في طريقه إلى قبة النواقيس ، ومصباحه الصغير المدلى من يده يتأرجح في الجو فيبدو كالنجم المتألق في السماء . وجعل الكهل يرتقي الدرج في مشقة ، فقد كانت ساقاه تكادان تعجزان عن حمله ، وعيناه يتعذر عليهما تمييز ما حولهما . . لقد كان الأولى برجل في سنه أن يكون في عداد الأموات . بيد أن الله باعد بينه وبين الموت . لقد دفن أولاده وحفدته ورافق الكهول والشبان إلى مرقدهم الأخير . ولكنه

لا يزال على قيد الحياة وما أشق ذلك على نفسه ، وما أكثر ما استقبل من أعياد الربيع . إنه لا يستطيع أن يتذكر كم من المرات قد انتظر ساعته المحتومة في ذلك البرج ذاته . ولكن يشاء الله مرة أخرى أن . .

ووصل الكهل إلى قمة البرج ، ثم اعتمد على الحاجز . وبدت له قبور القرية في الظلام حول الكنيسة ، وقد لاحت الصلبان القديمة باسطة أذرعها وكأنها تحمي الأجداث . وانحنت فوقها هنا وهناك أشجار عارية . وحمل إليه النسيم الأريج الشذي للبراعم الصغيرة ، يتصاعد من أسفل ، فيجلب معه شعور الحزن من النوم السرمدي .

ترى أين يكون بعد عام ؟ أيتسلق أيضا هذا البرج ويصل إلى هذا الارتفاع تحت الأجراس النحاسية ليوقظ الليل الهاجع برنيها المدني ، أو يكون راقدا في ركن مظلم من أركان القبر تحت أحد الصلبان ؟ إنما يعلم ذلك الله . . إنه لعلي استعداد . أما في الوقت الحاضر فقد منحه الله سعادة استقبال العيد مرة أخرى .

وهمست شفتاه " المجد له ! " تلك الجملة المعتادة ، وقد تطلعت عيناه نحو السماء اللامعة بملايين النجوم المتلألئة ، ثم رسم علامة الصليب .

وناداه صوت مرتجف لرجل كهل : " مبخبينش ، يا ميخينش ! " كان الكهل يحدق إلى قبة الأجراس ،

وقد ظللت يده عينيه الشاردتين القاتمتين من فرط الدموع ، محاولا أن يري مبخيبتش

ورد قارع الناقوس وهو ينظر إلى أسفل البرج قائلا : - ماذا تريد ؟ أنا هنا . ألا تستطيع أن تراني ؟ . - كلا ، لا أستطيع . لا شك أن وقت دق النواقبيس قد حان . ماذا تقول ؟ .

وتطلع الاثنان إلى النجوم . وتلألأت آلاف الأضواء في عنان السماء . وجعل ميخيبتش يتأملها مفكرا .

- كلا ، لم يحن الوقت بعد . . أني أعرف متى . . حقا لقد كان يعرف . ولم يكن في حاجة إلى ما يدله على الوقت ، فنجوم الخالق ستخبره عندما . . إن السماء والأرض والسحاب الأيض السابح في خفة ، والغاية الحالكة بدببها المهم ، ومجرى الماء المتماوج يغلفه الظلام - كل ذلك كان شيئا مألوفا عنده ، جزءا من كيانه . إنه لم يقض حياته هنا سدى .

وتعالى الماضي السحيق أمامه : تذكر كيف صعد للمرة الأولى هذا البرج مع والده . يا إلهي ! ما أطول ما مر من الزمن ؛ ومع ذلك لكأنه لم يمض منه شئ وشاهد نفسه صبيا أشقر الشعر ، متألق العينين ، والريح - لم تكن تلك التي ترتفع من غبار الطرقات ، إنما ريح غريبة يخفق جناحاها الصامتان ، فتعبث بشعره . . وهناك في الطريق تحته ، سارت مخلوقات كالأقزام هنا وهناك ، وبدت أكواخ القرية صغيرة أمام ناظرية ، وتراجعت الغاية ، وخيل إليه أن رقعة الأرض المنبسطة البيضاوية التي تقوم عليها القرية قد أصبحت شاسعة ليس لها نهاية .

وابتسم الرجل ذو الشعر الأشيب وهو يرنو إلى تلك الرقعة الصغيرة ثم قال : " ومع ذلك فها هي ذي بأجمعها ! " إنها سنة الحياة فعندما يكون المرء في زهرة العمر لا يستطيع أن يرى نهايتها . أما الآن ، ها هي ذي ، كما لو أنها في راحة اليد ، من بدايتها إلى القبر الراقد هناك ، ذلك الذي تخيله لنفسه في ركن المقبرة . . حسن ، المجد لله لقد حان وقت الرفاد . إن ما حمله من أعبا الحياة قد حمله في شرف . وبدت له الأرض الرطبة وكأنها والدته . . وقريبا ، قريبا جدا ! . . بيد أن الوقت قد أزف . وتطلع ميخيبتش مرة أخرى إلى النجوم ، ثم خلع قلنسوته ، ورسم علامة الصليب ،

وأخيرا أمسك محب النواقيس . وإن هي إلا برهة حتى ردد نسيم الليل صوت رنة أعقبتها أخرى ، فثالثة ، فرابعة الواحدة تلي الأخرى ، فتملأ العشية المقدسة الساكنة وتصب فيها أصواتا جهورية شادية .

وتوقفت النواقيس . وبدأت مراسيم الكنيسة . وكان ميخيبتش قد اعتاد من قبل أن ينزل ويقف في ركن بجوار الباب يصلي ويسمع التراتيل . ولكنه ظل بالبرج في هذه المرة ، فقد كان من التعذر عليه أن ينزل الدرج ، فضلا عما يشعر به من جهد ونصب . وجلس على المقعد ، ثم غرق في لجة من التفكير . وهو يصغي إلى رنات النحاس المتلاشية . فيم يفكر ؟ لقد تعذرت عليه الإجابة . . كان البرج سئ الإضاءة ، تلك المنبعثة من مصباح واهن الضوء . وكانت النواقيس مختفية في الظلام ولما نزل تهتز ، وكان يتناهي إلى سمعه بين الفينة والفينة ترانيم خافتة مقبلة من الكنيسة ، وتلاعب نسيم الليل بالحبال المشدودة إلى ألسنة النواقيس الحديدية

وترك الرجل الهرم رأسه يسقط على صدره ، وقد هامت بعقله الخيالات . وفكر قائلا : " إنهم الآن يرتلون " وتخيل نفسه داخل الكنيسة يستمع إلى تراتيل الصبية . وشاهد الأب ناعوم ، وقد فارق الحياة منذ زمن بعيد ، يقود الصلاة جماعة ، فترتفع وتنخفض رءوس مئات القرويين وكأنها أعواد الحنطة الناضجة أمام الريح . . ورسم القرويون علامة الصليب . . كان كل هذا شيئا مألوفا لديه ، على الرغم من أنه قد ولي جميعه وانقضي . . ها هو ذا يلمح وجه والده الفاسي . وهاك شقيقه يصلي في حرارة . وها هو نفسه واقف هناك ، برفل في حلل الصحة والشباب ، وقد غمره أمل لا شعوري بالسعادة . . وأين كانت تلك السعادة ؟ . . وأومضت أفكار الرجل الهرم فترة ، فأضاءت مختلف أطوار حياته الماضية ؟ . .

ولاح له الضنك والحزن والهم . . أين كانت هذه السعادة ؟ إن الضنك لا بد أن يشق طريقه حتى في وجه كل شاب ، ويحني ظهره القوي ، ويعلمه كيف يتنهد كما علم أخاه الأكبر .

ها هي ذي حبيبته واقفة هناك بالجهة اليسري بين نساء

القرية ، وقد أطرقت برأسها في خضوع . امرأة طيبة . فليهبها الله فسيح جناته ! يا للمرأة المسكينة ، كم تعذبت . . إن الإملاق الدانم والجهاد المستمر والأحزان التي لا مناص منها في حياة امرأة لابد أن تذوي بجمالها ، وتفقد عيناها بهاءهما . ثم يستقر بدلا من الهدوء االمألوف ، خوف مبهم من مصائب فجائية ، يستقر استقرارا دائما على وجهها . . حسن إذا أين كانت سعادتها ؟ . . لقد بقي لها ولد واحد ، أملهما الوحيد ، بهجتهما . بيد أنه كان أضعف من أن يتحمل أعاصير الحياة .

وها هو ذا عدوه الثري راكع يصلي حتى يسامحه الله على الدموع الغزيرة التي ذرفها اليتامي بسببه . ورسم علامة الصليب في حرارة ثم خبط جبهته بالأرض . . وغلي قلب ميخيبتش في صدره ، وعبث الغضب بوجوه القرويين ، وقد حلكت من الأحزان البشرية والشرور الإنسانية .

كان كل ذلك قد ولي وخلفه وراءه . وأصبح العالم كله الآن أمام عينيه محدودا بهذا البرج ، حيث الريح تئن في الظلام ، والجبال تهتز . . وتمتم الرجل الهرم قائلا : " اللهم عدلك ! " ثم أطرق برأسه الأشيب ، وقد انخدرت الدموع على وجنتيه .

وصاح أحدهم من تحت : ميخيبتش ، يا ميخييتش هل استسلمت للنوم ؟ . فأجاب الرجل الهرم وقد هب واقفا على قدميه : ماذا ؟ يا إلهي ! أكنت نانما حقا ؟ لم حدث لي مثل ذلك من قبل مطلقا ؟ .

وبيدين سريعتين مجربتين أمسك بالحبال . كان القرويون يسيرون تحته وكأنهم أسراب من النمل ، وكانت الأعلام تلمع بالحرير الموشى بالذهب ، وترفرف في الفضاء . . والتف الموكب بالكنيسة ، ثم سرعان ما وصل إلى سمع ميخيبتش الدعاء المهج " المسيح يقوم من بين الأموات " .

واستجاب قلب الكهل في حرارة إلى هذا الدعاء . . وبدت له الشموع المحترقة أكثر إضاءة ، والحشد أشد حركة ، والأعلام ، وقد دب فيها دبيب الحياة ، والريح المستيقظة وقد جمعت أمواج الصوت على جناحيها ، وسبحت بها ، ثم مزجتها برنين النواقيس مرحبة بالعيد .

إنه لم يسبق لميخيبتش أن قرع مثل هذا من قبل ! . وبدا كما لو أن قلب الرجل الهرم قد انتقل إلى النحاس الخالي من الحياة فأخذت النواقيس تشدو وتضحك وتبكي ، ويتعالى رنينها ، وقد اتحدت ألحانها في تيار متناسق متسام ، ثم يرتفع إلى عنان سماء متألفة بآلاف النجوم ، وأخيرا يتدفق إلى الأرض في رعشة

وأعلنت مختلف النواقيس بألحانهاالمتغايرة " قيام المسيح " وبدت القبة القديمة ترتجف وتهتز والريح تضرب بجناحيها وجه قارع الناقوس الشيخ وهي تردد " المسيح يقوم ! " .

ونسى القلب الهرم حياته الزاخرة بالهموم والأحزان . ونسى قارع الناقوس الشيخ أن حياته محصورة بالحدود الضيقة لقبة الجرس المظلمة ، وانه وحيد في العالم وكأنه جذع شجرة قديمة اقتلعتها العاصفة . . واستمع إلى تلك الأصوات الغنائية الباكية تتصاعد إلى السماء ثم تسقط ثانية إلى الأرض الحزينة ، وخيل إليه أنه محاط بأولاده وحفدته ، وانه يسمع أصواتهم المشوبة بالبهجة ، أصوات الشباب والكهولة تتحد في شدو أغنية السعادة التي لم يتذوقها في حياته مطلقا . . وجذب الحبال ، والدموع تنحدر على خديه ، وقلبه يخفق في شدة ، كلما تصور هذه السعادة . .

وأصغي الناس أسفل الدرج إلى رنين الأجراس ، ثم قال بعضهم لبعض : إنه لم يسبق ليخيبتش أن قرع الأجراس في مثل هذه الجودة .

وعلى حين غرة ، صدر من الناقوس الكبير صوت مبهم ، وما لبث أن صمت . ثم أعقبه دوي الناقوس الأصغر في صوت متقطع ، ثم توقف كما لو كان عن خجل ، ليصغي إلى الصدي الكئيب للنبرة المترددة المتطاولة تتلاشي في الجو . .

وتهالك قارع الناقوس الشيخ ، وقد استنفد قواه جميعها ، ساقطا على المقعد . وانحدرت العبرتان الأخيرتان في بطء على وجنتيه الشاحبتين . .

" إيه . يا من هناك : أرسلوا بديلا . فقد دق قارع الناقوس الشيخ آخر دقاته "

اشترك في نشرتنا البريدية