الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 674الرجوع إلى "الثقافة"

يد الله

Share

(مهداة إلي صاحب " يد الإنسان " ا )

لست أدري أهي مقالة أدبية ، أم مقالة علمى ، أهى صادرة عن أديب أم عن رجل عالم ، إنني استطيع القول - مع الاعتذار للدكتور طه - بأنها مقالة أدبية . وأستطيع القول بأنها مقال علمى ، وأستطيع القول بأنم مقالة أدبية علمية ، أو علمية أدبية ، ولكن الذي لاريب فيه أنها مكتوبة بقلم أديب ، وبروح عالم !

لاشك أنك توافقني على تنوع الأذهان ، واختلاف المشارب ، وتباين الأذواق وتضارب العقول ؛ ولقد عرفنا هذا منذ اجتيازنا لمرحلة الثقافة العامة في المدارس الثانوية . عندما خيرونا بين الأقسام الثلاثة . الأدبي ، والعلمي والرياضي ، واضعين نصب أعيننا ما حصلنا عليه من درجات في مختلف المواد ، عرفنا أن منا من خلقه الله بعقل رياضى يحكم على الأشياء وفقا لمقاييسه الخاصة ، وطبيعته التى تتشكل المعايير وفقا لها وتبعا لطريقتها في تذوق الأشياء . فيرضيه ما يرضيها ، وينفر مما تنفر منه ، ومنا من خلقه الله بعقل لا يطبق التفكير فيها هو رياضي أو يمت إلى الرياضة بصلة من بعيد أو قريب ، ولكنه يميل كل الميل ويرغب كل الرغبة في أن يخوض بحار الأدب واكتشاف مجاهله والعثور على كنوزه والتفرقة بين جيده ورديئه ، وحلوه ومره والتجوال في حدائقة والتطلع إلى ثماره . وهذا إنما إنما يحكم على الأشياء وفقا لما تهديه إليه روحه الشاعرة وذوقه الأدبى .

فإذا عرض مشهد من مشاهد الطبيعة - مثلا - لهذين الشخصين ، فلا ريب في اختلاف تقدير كل منهما له . حيث ينفرد بالنظر إليه من زاويته الخاصة ، فيستسيغه صاحب الميول الأدبية لأنه يتفق مع اتجاهه الطبيعى الذي جبله الله عليه ، فيجد فيه متنفسا لرغائبه ومسرحا لملكاته . وحافزا لإظهار مواهبه الكامنة في دخيلة نفسه ، والتي تكون في حاجة دائما إلى ما يثيرها ويدفعها إلى مسرح الحياة . وحيز الوجود .

أما الآخر - صاحب الميول الرياضية أو العلمية ، إذ أنني

لا أفرق بينهما - فلا عجب ) إذا حقر لنا ذلك المشهد الذي لم يصادف هوى في نفسه ، مفضلا عليه أنبوبة من أنابيب الاختبار يتصاعد منها غاز الأيدروجين أو ثاني أوكسيد الكربون ، أو نظرية هندسية يجد في حلها لذة وفي كبح جماحها نشوة ؛ وأنت يا صاحب " يد الإنسان " جندي في ميدان الأدب ، هكذا أردت أو هكذا أراد الله لك ، بدليل اتجاهك الأدبي في التعليم ، وبدليل ما تعتجه من آثار أدبية قيمة تطالعها لك بين حين وحين ، فإذا أنت أصدرت حكمك على شيء من الأشياء فإنما تنتظر منك حكم الأديب ، لا حكم العالم أو الرياض ، لذلك كان عجبى - ولا أقول عجبنا - شديدا عندما طالعنا لك هذا المقال الذي حملت فيه على الطبيعة التي تهيم بها كل نفس ذواقة للأدب ، لأنها إذ تنظر إليها لا " تفكر " فيها سيعود منها على " الدولة " من " نفع " وعلى " أفرادها " من " مادة " !

ليست هذه هي الزاوية التي ينظر منها الأديب إلى منظر طبيعي ، إنها زاوية " العالم الذي يشرح هذا المنظر على مشرحة العقل ، وحكم عليه بمقاييسه المادية الحالية من الشعور ، لأنه لا يقبم وزنا للشعور ، ويخضعه لمبضع "الفكر المجرد" لأنه لا يقيم وزنا للعاطفة ، ويقيسه بالمنفعة الظاهرة لأنه لا يعرف معني للأحساس الداخلي .

لا عجب إذا حقر العالم هذا المشهد لأنه لا يملك (( الأدوات )) التى يستعملها في إدراك جماله ، كما أنه لا عجب في تحقير الأديب لأنابيب الاختبار ومداخن المصانع لأنه بحوزه المجهر الذي يسلطه على هذه الأشياء فيبدو له نفعها ، وتتضح له أهميتها بالنسبة له .

لكل منهما ذوقه ، ولكل منهما حكمه على الأشياء ، فلا تنتظر منهما وحدة النظرة أو وحدة المقياس .

إن مقالك صحيح - في جملته - على ألا يصدر من أديب ! لهذا ننكره منك حتى تعلن براءتك من الأدب والأدباء وانضمامك إلى هيئة العلماء الأجلاء !  على أن هؤلاء بدورهم

ينكرونك لأنك تحوزك المؤهلات الدراسية التى تثبت انتماءك إلى ((حظيرتهم )) ! فلا أنت صرت عالما ، ولا أنت بقيت أدبيا ؛ فخر لك - ولنا - أن تعلن براءتك مما ذكرت ، فتعود إلينا عزيزا مكرما ، فإنك لن تجد نفوسا أكرم ولا أصفي من نفوس الأدباء !

إنني أحيي فيك  يا أخى نزعة التجديد في كل ما تحاول أن تكتب ، والميل إلى الخروج عن الإجماع والثورة على الأوضاع  البالية ومحاولة الإتيان بالجديد ، ولكن . . حذار من الشطط ! لقد ظلت (( الثقافة)) في تقديم كلمتك إلي القراء ((في هذه المقالة فكرة جديدة جريئة صادقة في كثير من نواحيها ، لولا أن الكاتب قد أسرف وبالغ في ازدرائه للطبيعه ، ناسيا أن الإنسان الذي يعلى من شأنه هو نفسه طبيعة)) . ويذكرني هذا القول بعبارة  للأستاذ توفيق الحكيم في كتابه ((القصر المسحور)) بالاشتراك مع الدكتور طه حسين - حيث يقول : (( ومالي أفرق بين الطبيعة و (( فيدياس )) كأن الانسان شىء مستقل عن الطبيعة ، إنه جزء منها . . )) !

لقد كان ذنبك يهون قليلا لو اقتصرت على تمجيد ((يد الانسان)) دون أن تلجأ إلى تحقير الطبيعة والنقص من شأنها ، ولكنك  آثرت هذا ، كأنما لا يأتي تمجيد الأولى إلا بتحقير الثانية !!

لئن كان هناك معدة وأمعاء ومصران ، فهنالك أيضا حس وشعور ووجدان ! لذلك أخطأت يا أخي في الرد على السيدة الفرنسية التى قالت لك : ياله من منظر جميل ، فبدلا من أن تشاركها الرأي أنكرت جماله ووددت لو استبدلت به مصنعا للأدوية !! لقد كانت السيدة في واد ، وكنت أنت في واد آخر ، كما يقولون ؛ ومعذرة إذا قلت لك بأنك قد خلطت بين الأشياء ؛ ولو أنصفت وآثرت الدقة لأجزت قولها ثم عقبت قائلا (( ولكنني كنت أفضل ياسيدتي أن يكون بالقرب منه - وليس بدلا منه - مصنع للأدوية)) فتكون بذلك قد تمنيت لبلدك الجمع بين جمال المنظر وحسن المغير ، وتمنيت لمواطنيك التوفيق بين ((والمادة)) و (( الشعور)) وبين ((الجسد)) و ((الروح)) وكلاهما لازم للإنسان .

إنك تبدي إعجابك في ثنايا السطور بالغرب ومصانعه وآلاته وعلمائه ؛ ولكنك نسيت أن تبدي إعجابك بالعرب وفنانيه وشعرائه وكتابه ، أعجبت بمناخه وسمائه المتغيرة . ولكنك لم تعجب بمغانيه وسمائة الصافية ... أعجبت بالقاطرة

ولم تعجب ((بروميو وجوليت)) ... وأعجبت بالدبابة ولم تعجب (( بالبؤساء )) ... وأعجبت بالطائرة ولم تعجب ( بفارست ) . .

إنني لا أستطيع أن أحط من قدر الأول ، ولكنني كذلك لاأستطيع أن أحط من قدر الثانى .. فكلاهما مجتمعين كان منهما (( الغرب العظيم ))  إن انجلترا يا صاحبى كانت تتخلى عن امبراطوريتها في الهند ، ولا تتخلى من ملكيتها لشكسبير ، لو خيرت بينهما . كما جاء على لسان أحد رؤسائها .

ويأتي بعد ذلك دور النقاد في مقالك ، فتستغرب منهم إعجابهم بالقصيدة التى جاءت نفحة موحاة بدون ان يتكلف صاحبها عملية الإخراج !

وهذه مغالطة ولاشك ، لان القصيدة الموحاة يتكلف صاحبها فعلا عملية الإخراج ؛ فالنفحة هنا هي " الشعور ، والإخراج هنا هو " التعبير " ولابد من الاثنين معا لكيما تكون هناك " قصيدة . بعكس ما تفرضه أنت من أن وجود أحدهما يتطلب عدم وجود الآخر !

ثم نراك تستمر في ثورتك التي لم تستطع أن تقلل من حدتها ، فتعرج على الرسم متعجبا لكرهنا للمذاهب الجديدة فيه لبعدها الكبير هما تعودناه من مشاهد الطبيعة الخارجية ، ولأننا مازلنا حتى الآن نرتاح لمشهد الشجرة والوردة والبحر والسماء ، وانا أعجب بدوري من هذا الذي تقول ! إنني لا أكتفى في الفن ايا كان مظهره ، بالفكرة المجردة إن الفن في نظري عماده الجمال ، وأنا إذ احكم - مثلا - على لوحة فنية فإذا أحكم عليها بمقدار ما فيها من جمال . . جمال في " الفكرة " . وجمال في " التعبير " . فإذا نظرنا إلى الذهب السرياني - مثلا - في الرسم ، وهو أحد المذاهب الحديثة فيه ، نجد أنه يتهم فقط بالفكرة . الفكرة المجردة ، مظهرا باياها في صورة ، قد تكون قبيحة ، وقد تكون منفرة . وقد تكون معقدة . ولكنها في جميع الأحوال بعيدة عن "الجمال" بعد الخير عن الشر ، والفضيلة عن الرذيلة !

لقد سبق لك أن أبديت استنكارك "للتجريد" في الشعر على صفحات الثقافة عند نقدك "لديوان عماد" " فكيف تنكره في الشعر وتجيزه في الرسم وكلاهما مظهر من مظاهري الفن . والتجريد ظاهرة ينطبق الحكم عليها في فرع من فروعه ، على سائر الفروع !!

وأنت تغالط عندما تقول " بالفن إذا خالف الطبيعة صاحبه التوفيق وامتاز بالشذوذ والغرابة . وأثار الدهشة في نفسية المتأمل ...." فالدهشة كما تكون مظهرا من مظاهر الإعجاب ، فإنها تكون أيضا علامة من علامات النفور!

وانت تتهم الذي يحافظ على جمال الطبيعة في لوحته بأنه مقلد ونسبت أن الفنان الأصيل يودع اللوحة - المنقولة

يأملة عن الطبيعة - طابعه الخاص ، وطريقته في الأدباء وشخصيته الفنية ، وهذه لا يتفق فيها رسامان مطبوعان ، وليس لنا شأن بالمقلدين .

لئن كانت يد الإنسان هي ... "العصا السحرية التي أمكنها أن تهب الحياة معني الجمال" فيد التي أمكنها أن تهب الحياة يد الإنسان !

اشترك في نشرتنا البريدية