الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 175الرجوع إلى "الثقافة"

يد النساء، فى مأساة أوربا الحاضرة

Share

]ملخصة عن الانجليزية[

يقول الفرنسيون في أمثالهم " فتش عن المرأة " وقد يظن البعض أن هذا المثل لا يصدق إلا على بعض نواحي الحياة الفردية الخاصة ، وما يحدث بين الأسر من مشاكل وخواتم روائية ، ومآس في بعض الاحيان . وقلما يظن الانسان أن سياسة الدول العليا تصرفها النساء في كثير من الأوقات ، وأن الملوك ورؤساء الوزارات ، والدكتاتورين أنفسهم يخضعون النساء ، أو علي الأقل يستخدمونهن خلفية لنيل أغراضهم وتحقيق مطامعهم

وسنقص في هذا المقال وفيما يليه من المقالات -

إن سمحت الثقافة - طرفا من أعمال النساء ، والدور الذي يلعبنه في مأساة أوربا الحاضرة . وسنبدأ ببلغاريا  لأنها كما يلوح مقدمة على عمل خطير في القريب العاجل ، ولأن الرواية التي تمثلها لم تتم فصولها :

يقولون إنه لولا نشاط الأميرة يودكسيا Eudoxia أخت الملك بوريس ، لظلت بلغاريا على الأرجح بعيدة عن دائرة النفوذ الألماني ، ولتجنبت ويلات الحرب الأوربية . إن هذه الأميرة تعيش في الظاهر في عزلة بعيدة عن تيارات السياسة العليا ، ولكنها في الحقيقة اليد التي تحرك الملك بوريس ، وهي ملكة بلغاريا غير المتوجة التي ترفع وزراءها إلي السماك الأعلي أو تنزل بهم إلى الحضيض ،  وهي بطبعها كائدة دساسة يلذها أن تدبر المؤامرات . أما في حياتها الخاصة فهي في نظر الناس الأخت البارة  المخلصة للملك بوريس التي لا تفكر إلا في خيره ومنفعته ،

وهي تسمى نفسها دائما ربة منزله وطاهيته ، وكثيرا ما تذهب إلي مطبخ القصر لتعد للملك صنفا من الأصناف التى يشتهيها . ولا جدال في أن يودكسيا من أقدر النساء وأقواهن عقلا ، وهي تتكلم ست لغات بسهولة ، وكان في وسعها أن تصبح من أهل الفن ، لأنها تجيد التصوير بالألوان المائية ، وقد عرضت في معارض صوفيا مناظر جميلة ؛ ولكن أخص خصائصها هي رغبتها الشديدة في السيطرة على شئون البلقان بأسرها ، وهي عاجزة عن أن تظل بعيدة عن التيارات الخفية تيارات المكايد والدسائس في تلك البلاد .

فرجال السياسة الذين يطمعون في الشهرة والمجد يسمون إليها ليعرضوا عليها آمالهم ورغباتهم ، وهم يعلمون أنهم إذا كسبوا يودكسيا فقد كسبوا كل شئ . وقد اندفعت يودكسيا في تيار الدسائس البلغارية وهي فتاة لم تبلغ العشرين ، وكان تزنكوف Tsankof رئيس وزراء بلغاريا الألماني النزعة يعمل في ذلك الوقت للاستيلاء على أزمة

الحكم . وتزنكوف رجل  كثير المال ميت الضمير ، وكان يعتقد أن الملك غير راغب فيه كاره لدسائسه ، فاتصل بيودكسيا وضمها إلي جانبه ، فأصغت إلي مطالبه وعاونته بنفوذها بالقدر الذي كان لها من النفوذ وقتئذ ، وعين تزنكوف وزيرا . وكان ذلك قبل الحرب الأوربية الماضية .

ولما هزمت بلغاريا في تلك الحرب سقط تزنكوف وثار الشعب البلغاري الذي سئم الظلم والاستعباد الطويل ، وتولى الحكم أستمبولسكى زعيم حزب الفلاحين ، وهو رجل خيالي عفيف اليد عظيم المواهب ، ولكنه قليل المال . ولم تستطع الوزارة التي ألفها أن تقاوم سيل الرشاوي الذي انساب من تزنكوف وأعوانه . وكانت يودكسيا ألد أعداء زعيم الفلاحين ، لأنها وجدت فيه منافسا قويا في وسعه أن يسقط الملكية ويقيم على أنقاضها دولة شيوعية . وكان تزنكوف طوال هذه المدة يعمل لبث الرعب في قلب الأميرة وفي قلب الملك عن طريقها . وظل يعمل كذلك حتى تأزمت الأمور في بلغاريا وقام فيها حكم الارهاب ، وانتشر جواسيس تزنكوف في كل مكان يضايقون أنصار رئيس الحكومة ويقتلونهم في كثير من الأحيان ، حتى أفلح آخر الأمر في العودة إلي الحكم .

وكانت ألمانيا منذ قيام الحكم النازي تعمل على أن تكون صاحبة الكلمة النافذة في شئون البلقان تمهيدا للسيطرة التامة عليه في الوقت المناسب . وكان لا بد لها أن تعمل في الخفاء ، لأن إيطاليا كانت تنظر شزرا إلى كل خطوة يخطوها الألمان . وأخذ المال الإيطالي ينساب إلى بلغاريا ، وكان للأميرة يودكسيا نصيبها منه ومن العمل على تقوية النفوذ الايطالي ؛ وكانت حجتها أنه سواء قوي النفوذ الايطالي أو الألماني فان العرش سيظل في أمان ، وانضوت الأميرة تحت لواء الحزب الفاشي الإيطالي لتبرهن بذلك على إعجابها بموسوليني وعطفها على الأغراض التي يعمل لها حزبه .

وارتاعت لذلك ألمانيا ، فقررت أن تضاعف من نشاطها ، وأسرع رسلها إلى صوفيا ، وعرف رينتروب أن الاميرة حليف قوي يحسن بالنازيين أن يصطنعوه ، ودله تزنكوف على الطريق الموصلة إليها ، وأيده في ذلك الرسل السريون الذين كانوا يعملون لصالح ألمانيا في بلغاريا ، وصدرت الأوامر من برلين إلى هؤلاء الرسل أن ينشروا في طول البلاد وعرضها الأنباء عن أغراض الشيوعيين ليقذفوا بذلك الرعب في قلب الملك وقلب يودكسيا من الخطر الداهم الذي أعلن هتلر أنه سيقاومه إلي آخر رمق من حياته .

وأثرت هذه الحملة من حرب الأعصاب في يودكسيا ، فظنت أن الخطر الأحمر يهدد البلاد ، وان الثورة الشيوعية ستطوح بأخيها عن عرشه ، وتقضي علي سلطانها قضاء لا مرد له . وأخذ وكلاء النازيين في زي عمال من الروس الشيوعيين يكيدون ليودكسيا ، و أخذت يودكسيا وأعوانها يكيدون لهم ، واضطرت أن تلجأ إلي زملائها الفاشست الطليان ليأخذوا بيدها في هذا النزاع . وأبلغ تزنكوف النبأ سرا إلي برلين ، ورأي الألمان أن يسارعوا لكسب يودكسيا واستخدامها لغرضهم ، وهو ضم بلغاريا إلي دائرة النظام الجديد .

وكانت الحرب دائرة رحاها منذ أربعة عشر شهرا ، وكان يلوح أن  النصر مكفول فيها للألمان . وكان الذين يأخذون بظواهر الأمور يعتقدون أنه لن يمضي إلا بضعة أسابيع حتي يتم النصر لألمانيا ، وبقضي علي انجلترا القضاء الأخير . وكان موسوليني يتأهب للانقضاض في الوقت الذي يظن فيه أن أن انجلترا لن تستطيع النهوض من كبوتها ، ويمنى نفسه بنصر عاجل لا يكلفه كبير عناء ؛ ولذلك حبس المال الذي كان ينساب إلي يودكسيا ومواطنيها ، وقصر كل جهوده علي نيل مطامعه القريبة واستاءت يودكسيا من هذه العاملة التي

لم تألفها فولت وجهها شطر برلين . وهذا النفوذ الألماني يقوي ويشتد في صوفيا ، وأذاع الألمان أنه لم يبقي ثمة خطر علي بلغاريا من الشيوعية ، وأن الترك هم الخطر الداهم المحدق بها ، لأن في وسع الأتراك أن يتحالفوا مع الإنجليز ، ويفتحوا للأسطول الإنجليزي أبواب الدردنيل ، ويهددوا تجارة البلغار في البحر الأسود . ولكن الملك بوريس لم يكن في أول الأمر يؤمن بأن الألمان سوف ينالون النصر السريع ، وحاول أن يقف على الحياد ، ثم لاح في ذلك الوقت أن هيبة بريطانيا في الشرق الأوسط آخذة في الاضمحلال ، فقد كانت الجيوش الايطالية بعد

دخول إيطاليا الحرب منتصرة في كل مكان ، وفتحت رومانيا أبوابها للألمان ، وأخلت الطريق أمامهم إلي آبار الزيت الغنية . ولم يكن الحظ يبتسم للانجليز إلا في بلاد اليونان ، حيث كان الايطاليون بتقهقرون أمام الجيش اليوناني الصغير ومساعديه الانجليز . ولكن الألمان والايطاليين كانوا يؤكدون أن الأمور ستستقيم بعد حين ، وحشدت الجيوش الألمانية في رومانيا لتنجد الطليان في اليونان ، ولم يكن في طريقها إلا الملك بوريس .

وسرعان ما هبط الوحي من برلين ، ودعيت إلي العمل يودكسيا التي لم يكن لأحد غيرها سلطان على الملك بوريس ، وعقدت هي وتزنكوف اجتماعا سريا في دارها لم يعرف ما دار فيه من الحديث ، ولكن كانت نتيجته العاجلة أن ضعفت مقاومة الملك بوريس . وتكرر اجتماع يودكسيا بأخيها الملك وأخذت تقنعه بأن من العبث مقاومة ألمانيا الأمة القوية التي ستساعد بلغاريا علي تحقيق أمانيها القومية واستعادة ما خسرته من الأراضي في الحرب الماضية ؛ ويقال إن بوريس أجابها أول الأمر بقوله : " لقد انحزنا إلى الجانب الخاسر في الحرب الماضية فجدير بنا ألا نرتكب الخطأ نفسه

في هذه الحرب " . ويقال إن يودكسيا ردت عليه بقولها : " إن الخطأ الذي يمكن أن نرتكبه هذه المرة هو أن نتخلى عن أصدقائنا وحلفائنا السابقين . إن اليونانيين سوف يطردون من ألبانيا ويهزمون في عقر دارهم قبل أن يصل إليهم المدد من شمال أفريقية ، وسنستولي على سلونيك ونهدد الترك إذا سولت لهم أنفسهم المقاومة ، وستصبح بلغاريا أعظم قوة في بلاد البلقان . لقد وعدني بذلك هتلر ورينتروب ، وقالا إنهما سيعيدان إلى بلغاريا ما فقدته ، وإننا عند ما نجلس في مؤتمر الصلح سنجني ثمار النصر . فلتبق على الحياد إذا شئت ولتقف في وجه قضية الرقي والرخاء إذا أردت ، ولكن عليك أن تتذكر أن مستقبل هذه البلاد مرهون بالخطوة التي تخطوها الآن " .

ولم يلبث بوريس بعد ذلك أن أذعن لمطالب أخته وانحاز إلي جانب النازيين ، وخطا الخطوة التي لم يستطع بعدها النكوص .

وتبلغ يودكسيا الآن الثالثة والأربعين ؛ وكثيرا ما حاولوا في صوفيا أن يجدوا لها زوجا ، وفكروا أولا في الملك كارول ثم في أمير من آل ههتزلرن ، واستدعي الأمير بالفعل إلى صوفيا ، ولكن يودكسيا أبت أن تتزوج من ألماني بادن مختال غير ظريف . ثم وقع الاختيار علي أمير إيطالي ، ولكن هذا أيضا أساء إلى سمعته بملكه في سوفيا ، ثم اختير دوق ورتنبرج ، ولكن منظره لم يرقي في عين يودكسيا .

وكذلك ظلت الأميرة عزبة ، ويلوح أنها تفضل العمل على تدبير الدسائس والبقاء ملكة غير متوجة لبلغاريا على أن تكون زوجا لأمير صغير الشأن في بلد بعيد لا يتسع لنشاطها ومطامعها الواسعة .

اشترك في نشرتنا البريدية