الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 575الرجوع إلى "الثقافة"

يقول الطبيب، التطعيم ضد السل

Share

صدق من قال إن الناس أعداء ما جهلوا ، حتى ولو كان فيه صالحهم ومنفعتهم . ألم يأتك حديث تلك الضجة التى اجتاحت المدينة عندما سمع أهلوها بوصول أفراد البعثة النبلاء الذين جاءوا من أقصى الشمال ليؤدوا واجبا إنسانيا وهو تحصين أفراد هذه الأمة المنكوبة الحظ ضد مرض من أشد الأمراض فتكا بالأجسام ، وأعنى به مرض السل ؟ فى اعتقادى - وفى اعتقاد كل عاقل - أن هذه الضجة التى تغلغلت فى جميع الأحياء - سواء الراقية منها والمتوسطة - ليس لها ما يبررها . فلو كان ولاة الأمور يعلمون أن هناك أى خطر من هذه الحقن لما عملوا جاهدين على استحضار هذه البعثة . وشئونكم الصحية - بحمد الله - فى أيد أمينة . ولا نعتقد أنها أقل حرصا منكم على سلامتكم وسلامة فلذات أكبادكم .

ولقد عمم استعمال هذا الطعم فى بلاد الدنمرك والسويد والنرويج منذ عام ١٩٤٠ ، وحقن به ، منذ ذاك الوقت حتى عام ١٩٤٨ ما لا يقل عن مليون شخص لم نسمع أن أحدهم أصيب بضر بسبب هذه الحقن . . ولما تيقن القوم هناك أن الرسالة قد نضجت تماما ، وأن عليهم أن يزحفوا إلى بقية أنحاء العالم لينقذوا سكانه من براثن هذا الداء الوبيل بدأوا زحفهم الزاهر المنتج نحو بلدان أوربا ، فقاموا بفحص وتحصين معظم سكان بلاد وسط أوربا وجنوبها ؟ والذى يحدث تماما فى هذه الحالة أنهم يجرون كخطوة أولى اختبارا خاصا هو اختبار التيوبركلين ، وهو الذى يثبت إذا كان الطفل يتمتع بمناعة ضد مرض السل أم لا ؟ فإذا كان تفاعل التيوبركلين إيجابيا فإن الطفل لا يحقن بالطعم الواقى . أما إذا كان التفاعل سلبيا فإن هذا يدل على أن

الطفل عرضه للإصابة بالمرض ، وفى مثل هذه الحالة يجب حقنه .

ويعمل اختبار التيوبركلين فى الوقت الحاضر بطريقة سهلة جدا ، وهى وضع قليل من مرهم يحتوي على مادة التيوبركلين وسط قطعة من المشمع اللصاق وإلصاقها على أى مكان من جسم الطفل كصدره أو ذراعه مثلا ثم إزالتها بعد أربع وعشرين ساعة فأكثر ، وتسمى هذه الطريقة طريقة مورو . أو قد تحقن المادة بالجلد نفسه فيظهر التفاعل الإيجابى بعد ثلاثة أيام أو أربعة . وهذه تسمى طريقة مانتو . وفى الحالات السلبية ، أى التى لا يحدث فيها أى تغير فى الجلد ، يجب إجراء عملية التطعيم الواقى ، وهى فى حد ذاتها بسيطة جدا لا يشعر الطفل خلالها بأى ألم إلا وخزة إبرة دقيقة وسطحية جدا ، لأن المفروض أن تحقن المادة فى الجلد نفسه لا تحته ، بمقدار لا يزيد عن ١/١٠ من السنتيمتر المكعب ، وهذا لا يحدث أكثر من بقعة حمراء قطرها حوالى ثمانية ملليمترات ، لا تلبث أن تختفى خلال نصف ساعة . وبعد ثلاثة أسابيع أو أربعة تظهر مكانها بقعة حمراء تأخذ هى الأخرى فى الاختفاء تدريجيا ، وقبل أن تختفى تماما يكون الجسم قد تحصن بإذن الله ضد مرض من أشد الأمراض فتكا بالبشرية ، أى أنه لا ألم هناك ولا خطر من جراء هذه الحقن . فالمرحلة سهلة ميسورة مأمونة الجانب ، والاختبار المبدئى يستبعد الأشخاص الذين يتمتعون بالمناعة الطبيعية .

وقد أثبتت التجارب الواسعة أن لا ضرر هناك إطلاقا ، حتى فى حقن الذين عندهم إصابة درنية ظاهرة أو غامضة وهذا سؤال طالما وجهه إلى الوالدون ، فهم يقولون :

" وما أدرانا إذا كانت بطفلنا إصابة خافية ؟ ألا يكون فى حقنه بالطعم خطر كبير عليه ؟ ولقد سبق أن أجبت على هذا السؤال جوابين : أولهما أننا نختبر الطفل أولا ، لأن التفاعل الإيجابى يثبت وجود مناعة اكتسبت فيما مضى نتيجة إصابة ضئيلة سابقة تغلب الجسم عليها . وثانيهما أن حتى لو كان الطفل مصابا - لاقدر الله - فإن حقنه بالطعم لا يضر به إطلاقا .

وقد يخطر على بال القارئ سؤال عن : أى الأعمار أحق بالاستفادة من الطعم الواقى ، أهو الطفل أم الشخص البالغ وللأجابة على ذلك أقول مؤكدا : إن الشخص البالغ لا يقل عرضة للسل عن الطفل . بل بالعكس إن مقاومته للإصابة الأولى واهية سرعان ما تنهار فيقع المريض الشاب فى الميدان صريعا فى فترة أقصر من التى تستغرقها جرثومة السل فى قهر المريض الصغير . فإذا ثبت بالفحص المبدئى بواسطة التيوبركلين أن الشاب أو الشابة خاليان من المرض فيجب حقنهما بأسرع ما يمكن ، وإذا شئنا المفاضلة بين أيهما أحق بالتطعيم من غيره : الطفل أم الشخص البالغ . فإنى أقول بكل قوة : إن الشخص البالغ يحب أن يكون المفضل ، فإذا وجدت أيها القارئ الكريم أن تفاعلك للتيوبركلين سلبيا ، فلا تتردد فى تقديم نفسك لهؤلاء الزملاء الأبرار الذين جاءوا إلى عتبة منزلك ليمنحوك الوقاية التامة ضد هذا الداء القائل .

سامح الله هؤلاء الذين نشروا بذور الشائعات الضالة . فثاروا الرعب والفزع فى نفوس كان يجب أن تطمئن وتغتبط وتفرش الزهور والرياحين فى طريق هؤلاء السادة الذين أتوا إلينا من أقصى الشمال حاملين أكبر هدية يمكن أن يمنحها الأخ إلى أخيه ؛ فبدل أن نهلل ونصفقق انتابتنا موجة من الفزع الذى لا مبرر له ، والتى يبعث مجرد ذكرها أو تذكرها شعورا بالخيبة والخجل . فنحن أمة نضج أهلوها أو كادوا ، وكان أملنا كبيرا على الأقل فى الطبقات المتعلمة ، وهى التى كانت أول من رفع لواء الخوف والهزيمة مع الأسف الشديد . فلننس ما فات ، ولنقبل على التطعيم ضد السل بقلوب مطمئنة ؟ فوالله ما ثبت

لى أن ابن آدم عدو نفسه إلا بعد ما شاهدته ولمسته خلال موجة الفزع الكاذب التى حدثت أخيرا .

فاتقوا الله فى أنفسكم وفى أولادكم ، وثقوا أن أولى الأمر منكم لا يبغون لكم إلا نفعا .

اشترك في نشرتنا البريدية