العصر الحاضر من العصور التى اشتد فيها الاهتمام بالعالم الإسلامى بين جميع الدول الكبرى
لأن هذه الدول على وشك القتال، وتعلم كل منها ولا ريب أنها غانمة رابحة، وأنها كبيرة الأمل فى النصر إذا ظفرت من اليوم بمودة الشعوب الإسلامية؛ وهى موزعة فى المواقع التي تحوم حولها المطامع ويتأشب فيها النزاع
فاليابان تنادي بمبدأ (آسيا للأسيويين) وتعنى بذلك أن (آسيا لليابانيين) وتعرف ما تكسبه فى أسواق التجارة وفى ميادين الحرب إذا هى استمالت إليها مسلمى الصين والهند وما وراءهما من أواسط آسيا، فضلاً عن المسلمين فى جزر الهند، وهم أصحاب شأن عظيم فى تلك الأرجاء
والولايات المتحدة لا يسعها أن تنسى الاهتمام بشىء يهتم به اليابانيون، وبخاصة كل شىء تكون له علاقة بالصين والفليبين وشواطئ المحيط الهادى فى عدوتيه
والدولة الشيوعية الكبرى - وهى الروسيا - تقف لليابان بالمرصاد فى القارة الآسيوية، وتتودد إلى المسلمين هناك، وهى حائرة لا تدرى هل تهدم الشعائر الدينية تطبيقاً لمذهبها فتغضب المسلمين وتدفع بهم إلى أحضان خصومها، أو تبقى على الشعائر الدينية فتغضب دعاتها ولا تستطيع التوفيق بين برامجها فى الأرض
الروسية وبرامجها فى البلاد التى تصاقبها وتبادلها المعاملات التجارية والسياسية.
ولا تتخلف (الفاشية) فى المضمار، بل يبرز على رأسها (موسولينى) منادياً بأنه (حامى) الإسلام ونصير المسلمين، ولو كان على نصيب من (الحذق الاستعمارى) أوفى من هذا النصيب لعلم أن الإيمان بالدين وقبول حمايته من غير أهله نقيضان فى المنطق والشعور على السواء، ولاسيما من وجهة النظر الإسلامية التى تفرض على المؤمن بها حماية نفسه فى وجه المغيرين عليه
أما الدول الديمقراطية فهى تقابل المساعى اليابانية والمساعى الشيوعية والفاشية بالتوجس والحيطة، وتريد أن تقاومها فتعمد إلى عقد المحالفات وفض المشكلات وتوحيد المصالح بينها وبين العالم الإسلامى فى حالتى الهجوم والدفاع، وتفتح لها الطريق فى هذا المجال بريطانيا العظمى ثم الجمهورية الفرنسية
والعالم الغربى يعتقد اليوم أن (العالم الإسلامى) يتحفز ويتوثب، وأنه قوة رشيدة لا تعمل معاملة القاصر التابع لغيره، ولا مناص من حسبان حسابها لمن تربطه بها علاقة قريبة كتبت مجلة (التاريخ الجاري) فى عددها الأخير مقالاً جعلت عنوانه: (محمد يتهيأ للعودة) وعقبت بذلك عنوان آخر فحواه أن المسلمين رقدوا خمسمائة سنة وهم يتحركون الآن ويتوثبون إلى السلطان
ثم قالت: (فى جزائر الفليبين وفى الجامعات المصرية، فى قصور الملوك الشرقيين وفى خيام التتار المرتحلين، على الكراسى البرلمان اليوغسلافى وبين أكواخ الزنوج عند الشاطئ الذهبى، فى آجام أفريقيا وفى صحارى آسيا، يترقب السلمون كل يوم بل كل ساعة مطلع المهدى الذى يتجسد فيه محمد عليه السلام، وقد تيقظت قوة الإسلام واتخذت لها شكلا سوياً فى عالم السياسة، ولا تزال (التعاليم المحمدية) سارية منتشرة بين الشعوب الملونة التى تجد من المقاربة بين إدراكها وبين هذا النوع من التوحيد ما ليست تجده فى المسيحية أو اليهودية. وهنالك عامل آخر من عوامل هذه الحركة وهو إخصاب الشعوب الإسلامية وتوالدها. فإن الشعوب البيضاء تصاب بالعقم وقلة النسل بينما يتوالد المسلمون كالأرانب!)
وعلى هذا الاهتمام باليقظة الإسلامية وهذا الإيمان بقوتها هل تراهم يعرفون الحقائق عن الإسلام أو عن أخبار المسلمين الجوهرية؟
إن مجلة (التاريخ الجارى) من أوثق المجلات الأمريكية خبراً واصدقها بحثاً، ومع هذا ترى الخلط فيها بين نهضة الإسلام وبين ما تسميه انتظار المهدى الذى يتجسد فيه محمد علية السلام
وترى قبل ذلك أنها تمهد لمقالها فتقول: (فى كل يوم من أيام الجمعات يقف خمسة وعشرون ألفاً من رعايا الولايات المتحدة خاشعين مكتوفى الأيدى متوجهين إلى الشرق يصلون إلى الله ويسألونه قرب ظهور المهدى المنتظر. فإن أبناء الإسلام هؤلاء قد حافظوا على عقيدتهم الغامضة فى رجعة مسيحهم كمحافظة المائتين والخمسين مليوناً من إخوانهم الموزعين بين مراكش وجزائر سنداى وبين مدغشقر وأرض المغول)
فأين العلم بالإسلام وبنهضة المسلمين ممن يكتبون هذه الكتابة وهم محسوبون بين أبناء وطنهم ممن يحسنون الخوض فى هذه الشؤون؟
على أن الجهل بالأخبار الواقعة لا يقل عن الجهل بالعقائد النفسية والشعائر الدينية، فقد كتبت مجلة أمريكية أخرى اسمها (أخبار الأسبوع) تقول بعنوان: (الخليفة فاروق) :
(لما دخلت تركيا الحرب في سنة ١٩١٤ أعلن السلطان عبد الحميد (هكذا) باعتباره خليفة المسلمين الدعوة إلى الجهاد أو الحرب المقدسة على الحلفاء الكافرين، وقد فشلت هذه الدعوة ولكنها كلفت بريطانيا العظمى وفرنسا وهما تحكمان مائة مليون وستة ملايين من المسلمين نفقات جمة فى مقاومتها بدعوة أخرى، وبذلت الدولتان تلك النفقات وهما خائفتان.
(ثم ألغى كمال أتاتورك الخلافة فى سنة ١٩٣٤ بعد إقصاء السلطان.
(ثم قام موسوليني ينادى بأنه حامى الإسلام ويستثير العرب على بريطانيا العظمى فى فلسطين وغيرها من البلاد. وشاع أنه أراد بعض حكام العرب من أصدقائه على أن ينصب نفسه للمبايعة بالخلافة، وإن كان الأمل فى نجاح الجهاد اليوم أضعف من ذلك
الأمل 1914 مكتفيا بما تستطيع تللك الخلافة من المضايقة فى بعض الاحوال ).
وبعد أن أشارت المجلة إلى منافسة بريطانيا العظمى فى هذه الحلبة قالت ما خلاصته أن صاحب الجلالة الملك فاروق بويع فى الأسبوع الماضى بالخلافة فى مسجد قيسون العظيم، وأن خمسمائة ضابط هتفوا فجأة للخليفة الفاروق! وأن أمراء العرب شهدوا ذلك الحفل كأنما كان شهودهم إياه من قبيل المصادفة.
هذه أمثلة من جهلهم بعقائد المسلمين وأخبار بلاد المسلمين، وهم يهتمون جد الاهتمام بنهضة المسلمين. ويرجع هذا الخلط إلى أسباب: بعضها مقصود، وبعضها غير مقصود.
فمن الأسباب ما هو مقصود لأغراض سياسية أو تجارية كتمثيل المسلمين فى صورة تسوغ للدول المستعمرة أن تعاملهم معاملة المتأخرين الذين لا يصلحون لقوانين الحضارة وقواعد الحرية
ومن الأسباب ما هو مقصود لأغراض فنية ونعنى بها الرغبة فى التأثير والإغراب وتشويق القارئ إلى العجائب التى لا يألفها فى بلاده وبين أبناء وطنه. ومن الكتاب الغربيين من يتعمد التحريف فى أخباره لأنه يخشى أن (يخيب أمل) القراء فيه إذا أصغوا إليه ليحدثهم عن شعوب الشرق وأحوال الإسلام فإذا هو يحدثهم بما يألفونه ولا يستغربونه ولا يحققون به تلك الصور المزخرفة التى طالما تخيلوها وحلموا بها وهم يقرءون ألف ليلة وليلة ويستعيدون ما نقل إليهم من أقاصيص الرحالين فى الزمن القديم.
أما غير المقصود من الأسباب فمنشأه قلة الاكتراث وصعوبة البحث وعزلة المسلمين فى العصور الماضية وسماع أخبارهم من جهلاء بينهم لا يفقهون أسرار دينهم ولا يبالون ما يهذرون به من عقائدهم وعاداتهم ولا يدركون الفرق بين ما تعودوه ودرجوا عليه وبين ما هو من حقائق الإسلام وشعائره الصحيحة.
على أن الذى يعنينا حق العناية هو أن نعلم نحن حقيقة
الغربيين، لا أن يعلموا هم حقيقتنا، وينفذوا إلى الصحيح من أخبارنا ومقاصدنا، وإن كان علمهم بهذا نافعاً لنا كلما تيسرت وسائله فى أيدينا.
والذى يبدو لنا من العلم بحقيقة القوم أن العالم الإسلامى خليق أن يعامل كل من يعامله منهم على سنة الإنصاف والمنفعة المأمونة العواقب، وكل ما ينبغى أن يحذره هو الإصغاء إلى دعاة الشيوعية والإصغاء إلى دعاة الفاشية، وأن يكون ذنباً فى أعقاب الديمقراطية، فإذا استطاع أن يمشى مع الأمم الديمقراطية الحرة فى الطليعة فلا عليه بعد ذلك أن يعامل من يشاء على سنة الإنصاف والنظر البعيد إلى العواقب الأمور.
