كانت الروضة مزدهرة بائعة تغمرها الشمس بشعاعها الصافي، وكان النسيم الوديع يملأ الصدر حياة وأملا، وكانت العيون تقع على لون البحر الأزرق ولون السماء اللازوردية، فتشع في القلب معاني الصفاء، فتمزج طهرا أمام البصر يطهر في اعماق الصدر. وهناك في ثغر الإسكندرية الانيق عرفت يوسف في مطلع الحياة في مدة الدراسة الثانوية ، وما إن عرفته حتى سرت بيننا ألفة الصبا الساذجة ، فإذا نحن صديقان كانما ننتمي لأب وأم ، فكانت المدرسة لنا بيتا ، وكان أهل كل منا أهلا لصاحبه ، وكان اسم يوسف في بيتي حبيبا كما يكون اسم الآخ الشقيق .
فكان العام يمر في الدرس المتواصل وليس فيه مواقف
تهز النفس إلا في ساعتين: ساعة نبكي إذ نفارق الأهل لكي نسافر إلي المدرسة ، وساعة تبكي إذ يفارق أحدنا الآخر في آخر العام عائدا إلي أهله .
وانتهت الدراسة الثانوية ، وتشعبت بنا طرق الدراسة العليا ، ولكن يوسف الصديق بقي حيث كان ؛ فلم تزل الحياة تجمعنا خارج معاهد العلم ، وقد نما الادراك وصلب العود ، واتسع الأفق ، فوجدنا في مطامح الحياة العامة ما اجتمعت عليه عواطفنا المتلائمة ومبادئنا المتحدة فما زلنا على ذلك حتى صار يوسف جزءا متمما في الحياة ، يتلفت إليه القلب كما احس وحشة ، ويتجه إليه الرجاء كلما لاح في سبيل الحياة ما يدعو إلي اتجاه الهمة محو غاية . ثم أقبل صيف الحياة بعد الربيع فإذا يوسف شجرة
ناضجة ظليلة الأغصان ، تحمل أطيب الثمار ، فكان قرة للدين وسلاما للقلب ، وعونا على الخير ، ومنبعا للمكارم وكان الصيف يتقدم بإيامه ، فلم نحس إقبال الخريف ، وإن كان بعض اشجار الصيف قد ادركه من حولنا الذيول . ثم إذا بي ارى ذلك العود النامي يهتصر فجأة ، ولم تلمسه بعد يد الخريف التي تذوي من لمسها الغصون . فواحر قلباء لم املك النفس إذ جاءني منعاه لكي افكر في الحياة بعده ، فقد كان النبأ الفاجع صدمة أذهلت النفس ، وشردت الفكر ، فساقني الحزن في سبيله حتى لم اتبين كيف يكون اليوم ، او كيف يصبح الغد . وحجب الجوي الخاطف افق المستقبل ، فلم أفكر إذ سممت نعيه كيف اقضي ما بقي من الأيام في وحشة منه ثم تكشف المستقبل رويدا من خلال الآستار المسدلة ، فواحر قلباء كيف تكون الحياة إذا تلفت حولي فوجدت مكان يوسف خاليا بين الأصدقاء
لن اتحدث عن يوسف عضو الوفد المصري ، ولا عن يوسف عضو مجلس الشيوخ ، فقد عرفه الناس في غنائه وولائه ، وفي قوة نفسه ونيل خلقه ، وفي اضطلاعه بالأمانة وحمله على النفس في اداء الواجب ، وقد سمع الناس صوته المدوي الذي يتردد فيه الاخلاص ، وادركوا معنى حجته التي يرن فيها الصدق والوطنية . قد عرفوا ذلك كله وسمعوه ، فما بي من حاجة إلى ان اتحدث عنه ، وإن كان لمتحدث ان يعيده للذكرى فهناك من هم أولى مني بإثباته وأقدر فيه على الوفاء بحقه وبحسي أن أحاول التخفيف من لوامج حزني عليه بتذكر بعض ما احطت به عنه في لمحات من الحياة لا تزال باقية في اعماق الذكري ، احتفظ بها كما يحتفظ السائح بصور عزيزة عليه تعيد له ذكري لحظات سعيدة مرت به يدخرها لعلها تكون له عزاء في اوقات الحزن او الوحشة ، أو لعلها تعير صدره الكئيب أنفاسا تفرج بعض كربته .
منذ نحو خمسة وثلاثين عاما اهتزت مصر كلها إذ مات مصطفى كامل زعيم الحركة الوطنية عند ذلك ، وكان الحزن الذي شمل الشباب لا يجد من قيود الاعتبار ما يخفف وقدته فتدفقت العيون بالدمع ، وخيم على القلوب حزن يشبه البأس ، وكان حزن يوسف عليه مثل حزن إخوانه فياضا مندفعا عنيفا ، ولكن معنى جديدا لا أزال أذكره إلى اليوم نبت في قلبه منذ ذلك الحين كأنه كان ثمرة ذلك الحزن المستعر وقد أفضى إلي يوما في بعض حديثه بذلك المعنى الذي وقع في قلبه ، إذ سألني في سذاجة الصبا وطموح الشباب الاول : " لم لا نتعاهد على ان نمضي في سبيل مصطفى كامل إذا ما بلغنا مرتبة الرجال ألا يكون ذلك تخليدا لروح الفقيد الذي نبكية ؟ " وتعاهدنا على ذلك في جد بقسم من الأيمان المقدسة ، ثم تقدمت بنا الأيام وانزوت ذكري هذا العهد في أعماق الصدر ، ومضي يوسف في حياته وهو في كل خطوة يحقق جانبا من العهد الذي أقسم عليه .
عرف يوسف الطالب بين إخوانه بسلاسة القلم وقوة العاطفة ، يسكب عواطف قلبه في رسائل تتقد وطنية وحماسة ، فإذا تكلم في موطن انصتت له القلوب واستعذبت وقع كلماته البسيطة التي لا تكلف فيها ، ورنة صوته المتحمس ، بل لقد كانت له لثغة بالراء تكسب ذلك الصوت قوة من معني الأخلاص الذي تتم عنه ، وإني إن اسفت على شيء فاني أسف لأنني اضطررت بعد سنوات إلي أن أحرق رزمة من رسائله الفياضة التي كنت احتفظ بها ، وإنما احرقتها خوفا عليه من عاديات الطاغية ( فلبيدس ) الذي قضي في مصر سنين عديدة يهدد الابرياء بجواسيسه وطغيانه فقد سمعت يوما أن ذلك الشيخ المخيف سيبعث اعوانه إلى داري أمله يجد فيها وسيلة إلى فريسة ، فأسرعت اول كل شئ إلى تلك الرسائل فأحرقتها حتى لا يجد على صديقي سبيلا
وكان يوسف يجمع إلى عواطف هذه الوطنية المتقدة في صدره نبلا طبيعيا لا تكلف فيه ، وقد ظهر ذلك النبل في حياته العامة وتحدث الناس بما عرفوه فيه ، إذ هو ملء الحياة في ميادين السياسة المضطربة ، ولكني لا أزال اذكر مثلا من ذلك النبل منذ كان يوسف شابا في أول عهده بالحياة ويلذ في ان اذكره ، ففيه آية تدل على تغلغل ذلك النبل في طبعه
فقد اسس مع بعض إخوانه شركة مالية هو أمين صندوقها وروحها ومحركها ، وكانت دفاتر هذه الشركة ووثائقها كلها عنده ، ومن بينها صكوك التجار الذين كانوا يتجرون بأموال الشركة . وفي ذات يوم جاءه نبأ بأن اعوان فلبيدس سيهبطون على بيته بعد قليل ، فكان أول خاطر خطر له أن يمزق تلك الدفاتر وما فيها من أوراق لأنه كان يعلم أن كناية أسماء أصحابه في دفاتر كافية لان تكون عند ذلك الطاغية برهانا لا يقبل الشك على انهم يديرون سوءا في الخفاء . وبالغ في الاحتياط فألقى بتلك الأوراق الممزقة حيث لا يستطاع استرجاعها . فلما مضت العاصفة وخرج أعوان الطاغية من داره على غير طائل أدرك ذلك الصدين الامين أنه قد أودي ببرهانه قبل التجار ، كما ضيع حساب أصحابه من الشركاء ، فكانت حيرة شديدة لم يجد منها مخرجا إلا أن تحمل الآمانة وحده واضطلع يحمل الوفاء بعد ان ضاعت الأموال التي لم يجد عليها برهانا فأعاد إلي شركائه مالهم من الانصباء إلا من كان منهم على علم بالحقيقة فأبي أن يزيد في إجهاده ، وكان هؤلاء قلة من الشركاء
وإني لاذكر يوما اني كنت لا أزال طالبا بمدرسة المعلمين وكان هو طالبا بمدرسة الحقوق . فجاءني يوما زائرا على عادته وجلس على ( كنبه ) من تلك الكنبات العتيقة التي كانت من قبل شائعة في البيوت ، وجلس يحدثني حديثه العذب المملوء بأسمي الآمال إلى أن قال : " وماذا تري لو الفنا جمعية نتعاون فيها على التأليف والترجمة
لتكون وسيلة إلي نهضة فكرية تعقب حركة تساعد على ما نرجوه من الامال ، وكان هذا أول عهدي بالفكرة التى انتجت فيما بعد لجنتنا المباركة لجنة التأليف والترجمة والنشر بعد ان تحدرت الميول من قلوب عامرة اخري ، فاجتمعت الميول جميعا في واد طاهر . نسأل الله أن يزيدها طهرا وبركة .
وأذكر يوما من أيام الثورة المصرية في سنة ١٩١٩ اذا جاءني يوسف في منزلي ليلا ، وكنت مدرسا في إحدي المدارس الأهلية وأقيم في السكاكيني . وكانت البلاد كلها فى وثيتها الهائلة النبيلة ، فعلمت منه انه قد جاء لائذا بالقاهره . وهو طريد ، بعد ان كان منه في بلده ما كان وليكنه لم ببال الخطر المحدق به ولم يرض ان يقعد عن الجهاد مع علمه بشدة الطلب من خلفه ، فكان يتخذ الليل ستارا ليمضي فى نضالة حتى انجلت الظلمة بعد حين ، وهدا الجو فترة ، وانفرجت السكرية الأولى من كرب الجهاد .
ومضي في حياته السياسية بعد ذلك ثابت العقيدة إلي آخر ايامه ، لم يتزعزع يوما عن إيمانه ، ولم ينزلزل عن مبادئه التي تغلغلت في اعماق صدره منذ أيام الشباب . وكان في شدة إيمانه لا يعرف العدوان ، ولا يضمر الكراهة لاحد من معارضيه ، وإن كان من ألد خصومه في رأيه ؛ وهكذا يكون الايمان الثابت إذا ارتكز على نفس صافية . ولكم كنت أراء في جهاده يقسو على نفسه فأشفق عليه واخشى عواقب الجهد فيه ، وكم افضيت له باشفاقى فما كنت اجد منه غير تلك البسمة الوديعة التى تعودتها
منه وهو يقول : " ما أنا إلا جندي . وهل يتراخي الجندي في الميدان ؟ " ومضي في سبيله لا يتردد حتى هوي في ميدان الجهاد شهيدا
وإني اليوم انظر إلي الآفق الذي خلفته ورائي عن بعد تلك السنين الطويلة ، ثم انظر اليوم إلى الأفق الذي حولي ، والحوادث في الفضاء تضطرب ، فأناجي نفسي
لقد اوفيت يا يوسف بعهدك الذي قطعته صبيا ، وحققت املك الذي كنت تطمح إليه فنيا . وإن كنت يمونك العاجل قد فجعت املك وصحيك ووطنك فقد بررت بوطنك واديت واجبك عليك سلام الله ورحمته ما شاء أن يترحم ، وجزاك الله عن بلادك جزاء الأبرار
أي صديقي : سأقضي سائر الحياة أتلفت إلي موضعك وافتقدك . أستلهم روحك لعلها تسددني ، وأستضيء بالشملة المقدسة التي رفعتها لعلها تهديني ، وعزاء إلى بنيك والك ، وعزاء إلى شركائك الذين فإسمتهم النضال ، وعزاء إلى خلصائك وإخوانك الذين محضت لهم المودة ، وعزاء إلى خصومك الذين سددتهم بنقدك ، ولا زلت حبا في قلب صديقك الحزين .
