الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 155الرجوع إلى "الثقافة"

يوسف الكيمياوى

Share

العهد عهد السلطان الناصر محمد بن قلاون، الجالس على عرش مصر والشام، والمستبد الذي ترتجف منه قلوب الولاة والأمراء، والقوي بجيشه ومؤامراته فتخطب وده الدول المجاورة، والقابض بيده على زمام الأمور كلها، فترفع إليه كل يوم التقارير عن العمال والولاة، والحركات والتدبيرات، والدخل والخرج فلا يفوته منها شئ.

والسنة سنة ٧٣١ هجرية ، وقد اصبح المال معبود هذا السلطان، لانه محتاج إليه في ابهته وعظمته، وبذخه وترفه، وجواسيسه واتباعه، وزوجاته الكثيرات، وجواريه العديدات، وبيوته الكثيرة، ونفقاته الضخمة وعماراته، وشروره وخبراته؟ فان لم يحصل علي المال حلالا فليحصل عليه حراما، وليتعرف احوال رجاله ومقدار ثروتهم ومخبا كنوزهم، وليتلمس لهم العثرات بالحق وبالباطل حتى يستبيح مصادرتهم واستحواذ أملاكهم، ووضع يده على ثرواتهم.

وهؤلاء الأمراء على دين ملوكهم يفعلون بالشعب ما يفعله السلطان الناصر بهم، فيغتنفون من الفقراء، ويسرقون من البؤساء، ويجمعون ما يصل إلى ايديهم؛ ثم يصادر السلطان ما تعبوا في جمعه، وتحيلوا في الاستيلاء عليه، جزاء وفاقا.

هذا " سلار " يتولى نيابة السلطنة إحدي عشرة سنة، ثم يموت، فيتعب الحساب في إحصاء تركته، هذه صناديق مصفحة مملوءة بفصوص الياقوت والماس وعين الهر، وهذه صناديق تظهر في اليوم الاول فيهما

مائتا ألف دينار وأربعمائة ألف درهم، وهذه ضياع لا حصر لها، وهذه الخيول والجمال والمراكب والعبيد والجواري والأغنام والابقار مما لا يحصيه مد، وكل يوم تظهر له مخابيء جديدة فيها كنوز جديدة، من اين أني بهذا كله ؟ من الشعب، من الظلم.

ويأتي السلطان فيسمع بتروته فيجري لها لعابة، ويقبض عليه ويسجنه ويجيعه حتى ياكل نعاله، ثم يموت جائعا فيستولي السلطان على ثروته ، وتنتهي الرواية وهذه صور تتكرر كل يوم، ورواية تمثل في كل إقليم.

المال - المال - كلمة سحرية تصدر عنها الأعمال ، وتتكيف بها السياسة ، ويحلم بها كل وال وأمير وسلطان .

في هذا الجو يظهر " يوسف النصراني الشامي "، الفقير المسكين، فيضع خطته المحكمة في هدوء. إن الناس يعبدون المال فايستعبدهم هو يشيح المال، يظهره ويخفيه، ويطمعهم ويؤيسهم، ويلعب بعقولهم لعب المال بهم. إن لمعان الذهب يخلب لهم فالعب بلمعانه، وإن أملهم في الغني يفسد منطقهم وحكمتهم فالعب بأملهم

ولكن قد تقف نصرانيتك حائلا بينك وبينهم، فيرتابون في أمرك ولا يطمئنون إليك اطمئناتهم إلي أهل دينهم، فالعب بدينك لعبك الذهب، وتظاهر بالاسلام وبالصلاح وبالتقوي، فالغاية تبرر الوسيلة

تنقل في بلاد الشام متفرسا في أمرائها، باحثا عن فريسة يصيدها، حتى وصل إلي صفد واميرها يومئذ الأمير " بهادر " فوجده الغنيمة

قال: إني أري السعد في طلعتك، والغني مكتوبا على جبينك؛ وقد جئت إليك لأملأ خزائنك ذهبا وفضة، وقد انفقت عمري في طلب الاكسير حتى وجدته، إن الفلزات واحدة في نوعها، والاختلاف الذي بينها ليس في ماهيتها وإما هو في اعراضها ، وكل شيئين تحت

نوع واحد اختلفا يعرض فانه يمكن انتقال كل واحد منهما إلي الأخر، فالذهب والفضة والحديد والرصاص متحدة النوع مختلفة العرض، فلو أخذنا حديدا أو رصاصا ونقصنا بعض عناصره، وزدنا بعض عناصره تكون من ذلك الذهب لا محالة؛ وقد وصلت إلي الأكسير الذي يفعل ذلك بعد عناء، فاني اطبخ الرصاص أو النحاس بطريقة خاصة ارشدني إليها العلم والتجارب الطويلة، ثم أضيف إليه من هذا الاكسير الذي يمتاز به الذهب عن النحاس او الرصاص، فاذا الذائب ذهب، وما يوجد بالطبيعة يوجد مثله بالصناعة، فالطبيعة تخرج الذهب من العناصر الاخري بحرارتها ومزجها، وهذا هو ما أعمل بصناعتي:

وقد ظفرت بما لم يؤنه ملك

لا المنذران ولا كسري بن ساسان

ولا ابن هند ولا النعمان صاحبه

ولا ابن ذي يزن في رأس عمدان

وستكون إن شاء الله بهذا أغني الأغنياء وأعظم العظماء، تقتني من المال ما اردت، وتسود على الأنام بما شئت وكيف شئت

ومع هذا كله فان لم تقتنع بالمنطق فاقتنع بالتجربة. فأتي له " بهادر " بقليل من الرصاص، وأفرد له غرفة يجري عليها تجاربه، فأشعل النار وطبخ ثم اشعل وطبخ، وأخرج حسقا فيه إكسير وأضافه، فإذا المزيج ذهب.

جن جنون الأمير " بهادر " وتمني الاماني وسبح في الأحلام وجمع ليوسف الكيماوي كثيرا من النحاس والرصاص، واعطاء كثيرا من الأموال لينفق منها على إحالة هذه المعادن ذهبا خالصا، ولكنه تعلل مرة بفساد الاكسير ومرة بخطأ التجارب، وأخيرا غافل صاحبه

وفر إلي دمشق، واراد ان يمثل مع واليها الرواية التي مثلها امام بها " بهادر "، ولكن ساء حظه فعل بأمره فأراد قتله.

وهنا أدته حيلته أن يملا دمشق ضوضاء وجلبة، وانه يريد السلطان حتى يملأ خزائنه وذهبا وفضة، وتحدث الناس به بين مصدق ومكذب، ولم يجرؤ نائب دمشق على قتله بعد ان ذكر اسم السلطان ورسالته إليه، وانتقل خيره من دمشق إلى مصر، وإذا بالبريد يأتي من السلطان إلي دمشق في طلب يوسف الكيمياوي

دخل يوسف إلي مصر في السابع عشر من رمضان، فأنزله السلطان في بيت امير، وأجري عليه الرزق الوفير، ورتب له عدة من الخدم يتولون امره حتى يختبر صدقه، فطلب يوسف انواعا من الآلات ورسمها وبالغ في تركيبها وتعقيدها، فصنعت له، وحدد يوم للتجربة، فاحتفل به السلطان وشكل مجلسا فخما لامتحانه. هذا ناظر الجيش، وهؤلاء عدة من الامراء، وهذا نقيب الصاغة ومعه جمع من الصباغ. واوقدت النار وأحضرت الآلات، وطلب يوسف نحاسا وقصديرا وفضة، فوضعها في بوتقة ووضعها على نار حامية حتى ذاب الجميع، فأخرج من جرابه إكسيرا وضعه على الخليط المذاب، وصبر عليه برهة ثم انزل البوتقة من على النار، فأفرغوا ما فيها فاذا سبيكة من ذهب كأجود ما يكون، زمنها ألف مثقال وامتحنها شيوخ الصاغة، فأفتوا بأمها ذهب خالص لا شبهة فيه

سر السلطان بذلك سرورا عظيما ودهش الحاضرون؛ وانعم السلطان عليه بهذه الألف من الذهب، وبالغ في إكرامه وأركبه فرسا سلطانيا مسرجا ملجما بحرير، ومسني نفسه ان هذا الكيمياوي سيجعل له كل حديد مصر ونحاسها وقصديرها ذهبا

وما هي إلا ساعة حتى انتشر الخير في المدينة أن قد ظهر رجل عجيب يحيل كل شئ ذهبا باذن الله، فما هو إلا أن تقدم له قطعة من حديد، أو إناء من نحاس، أو كتلة من رصاص حتى يعزم عليها ويجعلها ذهبا خالصا. وها قد قتل الفقر وذهب البؤس، وسيسيل الذهب في مصر سيلا ويتدفق انهارا، وسوف لا يكون بعد اليوم فقير ولا مسكين. وكانت أحرص الناس - أول الأمر - على أن يقتنوا الحاشية، فقد قدموا المال الكثير ليوسف، وقدموا له النحاس الكثير والحديد الكثير ليقلبه لهم ذهبا، وهو يلعب بهم ويستخف عقولهم، ويضحك على هذا بجزء من الذهب مما سلبه من ذاك، وهكذا

واراد السلطان ان يستوثق من الأمر مرة اخرى، فأجري يوسف امامه التجربة ثانية، فأخرج له سبيكة ذهبية كالأولي كاد يطير بها فرحا

وتدفق علي يوسف المال من كل جانب، وعاش عيشة البذخ والترف، وافرط في اللهو، ومرت عليه أيام سرور ومتعة لا ينعم بمثلها إلا القليل

والسلطان يستحضر بالليل ويناجيه، ويعرض عليه المشروعات الضخمة التي ينوي القيام بها من وراء الذهب المصنوع  ويوسف يسايره ويحبك له خياله

والناس بأتون إلي يوسف يعرضون عليه الأموال والحديد والقصدير، وهو يعدهم ويمنيهم.

وأخيرا قابل السلطان وقال له: إن الأكسير قد فرغ. السلطان إذا فاصنع غيره يوسف إنه مركب من نبات واعشاب لا تنبت

فى مصر، وإنما تنبت في الكرك.

- سمها لي وصفها ابعت بالبريد من يحضرها - إنها سر أخذت على الله عهدا ألا أذيعة، وإذا أذعته فسد الأمر على وعليك، إذ يستطيع كل إنسان

بعد ان يحصل على الاكسير فيحصل على الذهب، وهو امر حرصت ان يكون لك وحدك، وسر اخترت أن اخصك به فأنت ولي الأمر، وهو في يدك مصلحة، وفي يد غيرك مفسدة

- فما العمل ؟ - تأذن لي أن أسافر إلى الكرك وأستحضر منه

قدرا كبيرا صالحا لتنفيذ مشروعاتك الضخمة. اذن له السلطان، إذ لم ير يدا من ذلك واركبه البريد واوصي به خيرا حينما حل، وامر الولاة ان يمدوه بالمال الذي يريد.

ها هو ذا يوسف يتنقل من بلد إلي بلد، والكرم يتدفق عليه، إذ هو ضيف السلطان ونجيه ومأمله، حتى إذا وصل إلى غزة وأقام م بها اياما، ناقل من معه وشمع الفتلة(١) واختفي، ثم يبحثون عنه ويبحثون، فلا يقفون له على أثر.

وتتبخر الآمال وتنهار القصور التي شيدت في الخيال وفي يوم من ايام ذي الحجة من هذا العام يعثر عليه مختفيا في اخميم؛ وإذا كل أعماله نصب واحتيال، وإذا بالناس كبيرهم وصغيرهم يستكشفون انهم مغفلون، وإذا بالسلطان يحكم عليه أن يسمر ثم يشهر على جمل وإذا بالستار يسدل

اشترك في نشرتنا البريدية