أخذت القرية تتثاءب وتستيقظ من نومها فقد تزايد صياح الديكة ، وانبعثت نداءات متفرقة هادئة . وهذا رجل ينادي زوجته ، وتلك ام توقظ ابنها برفق . وبدأت الابواب تدق وتفتح ، وعلا في سماء القرية صوت المؤذن ) الله أكبر الله أكبر " وما هي إلا بضع دقائق حتى دبت الحياة . بكاملها فكنت تري شيوخا و كهولا وشبانا يهرولون نحو المسجد مسرعين يلبون نداء الله . وتسمع في الأحواش أصوات الصبية ، وقد تعالت نداءاتهم ، وانطلقت الدواب وانتشرت في الطرقات وشغلت النساء في حمل ما تحتاجه العائلة من زاد نهار طويل ، فكنت تري هذي تضع اللبن في " المحلبة ؟ وذلك تضع الخبز في الجراب وأخري تضع الطفل في " الحذل " وكأن القرية تهيئ نفسها لرحيل موقت كيف لا وهذا موسم الحصاد موسم الأمل ومعقد الرجاء ؟
انطلقت هذه الأفواح وانتشرت زرافات ووجدانا متجهة نحو الحقول ، ولم يتخلف في القرية إلا من اقعدته الظروف لعجز أو لشغل هام .
قلت لنفسي وقد تواري الناس عن القرية واختفوا : " ولم لا الحق بهم ؟ واليوم يوم راحتي . . فلأقض بعضا منه بالاستئناس معهم تناولت فطوري علي عجل وتدرجت خارج القرية على مهل وما هي إلا ان اخذت الشمس ترتفع في السماء . وواصلت السير حتى وصلت الحقول ، وإذا بها قد غمرتها أفواج من الناس والدواب . وقد انتشر الرجال والنسوة مكبين على زرعهم والمناجل تلوح بأيديهم
منظر يثير في النفس الغبطة والإعجاب . إكباب متواصل وايد متحركة ، هكذا يعملون تحت وهج الشمس ، فلا يضجرون ، ويلفح الهجير وجوههم فلا يتأففون ، بل نفس شعور المرح والنشاط يتجلي في تلك
الأغاني والأهازيج التي يرددونها . هذا غلام يردد بأعلى صوته ، وقد اخذت الحماسة منه كل مأخذ وطلع على وجهه البشر والعرق معا :
أنا خيال المنجل والمنجل خيال الزرع
فيتبعه إخوانه حصدا وإنشادا .
منجلي يابو الخراخش منجلي في الزرع طافش
ما أحلى النشيد مع العمل . . اسمع ما يردده فوج
آخر من الشباب :
سبل الحصايد ذهب وململم الزينات
إن في تردادهم رمزا حيا للحصاد ، فهو في نظرهم موسم زراعي يجنون فيه ما بذروه ) سبل الحصايد ذهب ( وموسم عاطفي فيه الفرصة للتنفيس بتلميح غزلي محتشم ) وململم الزينات ( ، وهل غير الإنشاد على مسمع من العذاري من سبيل :
يا حلولتى في زينك ما طلعت البر ولا حصدت الحصايد في نهار الحر
يرد عليه زميله
ياريتني خيمة وارد الشمس عنكو ولا مطر صيف وأرد الربيع الكو
صليل المناجل يستمر ، وفصل الزرع يتواصل ، والإنشاد ينبعث من هنا وهناك ، بلا انقطاع . .
يا حلو دربك سند والرجل تقلانه واقعد تسليك يا بوعيون نعسانه
يرد الآخر :
ماشي على جالكو والرجل تقلانة والقلب يطلب وفق والعين خجلانه
اسمع لهذا الفوج من الرجال وقد بدا في طليعتهم رجل بين الشباب والكهولة ينشد :
وادي الحصي رق سيلك ولظعون تقطع بلاد غيرنا جفتنا وأمحل المزرع
فيرد عليه من خلفه هازجين :
هذي بلدنا أو ينفلح في أراضيها إن امحلت أو أخصبت بالروح نفديها
وهكذا يتحول الحقل الهاديء إلي نشاط وحركة بعد أن دبت فيه الحياة . اخذت طريقي بين الأفواج وتوجهت نحو شيخ جلس ناحية يستظل تحت عريشة اقامها من البوص اقتربت من الشيخ فحييته : " صح بدنك ياعم - " بدنك يسلمك ، تفضل " . وافسح في مجلسه فجلست بجانبه ودار الحديث : - كيف الزرع هذا العام ياعم ؟ . - فاضت الخيرات والحمد لله . ولا تحلو بعض الأما كن من محل ، ولكنها سنة خير ، والخير فيما اختاره الله . .
قال هذا وقد لمع في عينيه بريق وطغا على وجهه بشر خلته محا التجاعيد الصارمة في وجهه من اثر السنين ، ثم تناول طرف ردائه ومسح به التراب والعرق من على وجهه قائلا : غبار وحر هذا النهار . - غبار الفخر هذا ياعم
فالتفت الشيخ إلي بسرعة وبدا علي وجهه الحزم ، وقال بلهجة هادئة رزينة : فهو تراب الفخر وعرق العافية . ألا تري الحصادين ؟ وأشار بيده نحو الأسراب مكبين على زرعهم يقضون طيلة النهار تحت وهج الشمس فلا يتأففون وتغبر وجوههم فلا يبالون ، ثم هم بعد هذا لا يهمهم إن تمتع بثمرة تعبهم جاحد او شاكر . فهم ادري الناس بأن عيش هذه الامة من ايديهم ، ودعاؤهم دائما " يارب أطعمنا وأطعم عنا " .
يالها من حكمة قالها الشيخ مسترسلا بلا عناء ولا تكلف . هكذا تجود الفطرة بالقول الصائب والرأي السليم
واستمر الشيخ يقول وقد لحظ استئناسي وإعجابي بحديثه
- هذا العمل يا أخ لا يعرف المواربة ، أزرع تحصد ، فلا واسطة ولا تزلف ولا نفاق . والطبيعة لا ترحم يا أخ ، فالأرض تطلب حرثا لا رجاء ، وشقوق المحاريث تطلب بذارا ، لا حيلة وخداعا ، والبذور تطلب ماء لا سرابا . والحصاد يتطلب كل هذا المجهود الماثل امام عينك ، فكأن قوي الطبيعة وقوي القرية النازحة بأجمعها تقوم بهذا العمل متعاونة على أساس شريف نزيه لتحصل على هذه الثمرة بعونه تعالى . وأية ثمرة ؟ هي الثمرة المقدسة التى يشاركنا الناس على اختلاف طبقاتهم بالنعيم بها . وكأن الله أراد لأبينا ادم ان يقدر خير لذة ممزوجة بالتعب ، فرماه بهذه المهنة لقد تقادم العهد على مهنتنا يا أخ ، فاعطأها طعما ألفته الآجيال أبا عن جد ، وتقادم العهد على النصائح لنا فأرخصها وانقص من قدرها . .
عندها قاطعت الشيخ مستغربا - " وأي النصائح تقصد ياعم ؟ " .
- لو تدري يابني ، أأسميها نصائح ام تهكمات أم مغريات أم تضليلات . تارة يصبح الفلاح معيارا واخري فخرا ؛ ينافقه الناس حينا فيضعونه سيدا ، وطورا يهملونه فيعدونه خادما ، والفلاح ادري بنفسه . هو كما يقول عن نفسه -أنا خادم الأرض وسيد الحقل ، وخادم الناس ، وسيد نفسي
صوروا مهنتنا بمختلف الشقاء ، وتمسح بنا كثير من المتظاهرين بالشفقة ، هل تري في هذه الظاهرة الماثلة أمامك في الحقول ما يدعو للشفقة قل لي بربك اصدقنى
- لا أري ياعم إلا النخوة والنشاط والعمل المتواصل ينسجم مع الإنشاد والمرح والغبطة بما تجنيه الايدى . وما تنتظره من نتائج مجهودها .
قلت هذا وقد هممت بالإنصراف فوقف الشيخ مودعا بعد أن ألح على بالبقاء للغداء ، فاعتذرت له وودعته وبنفسي ان يطول الحديث معه .
عدت طريقي بين الافواج وحديث الشيخ يجول في
خاطري ولم يقطعه إلا انبعاث الأناشيد من بين الزرع والشيخ في جده والشباب في عملهم ومرحهم . اسمع هذا يقول :
يا بنت ردي متعك من اشكارتنا تدري رماك الهوي ولا محبتنا
يا حلو يابو الذوايب لك زمان غايب حرمت طرد الهوي من بعد كو نايب
اسمع هذا الكهل يسير بين الزرع متثاقلا يلتفت نحو فوج من الشباب يطارحهم الإنشاد عن قرب ، والظاهر انهم تحدوه :
ياما طردنا الهوي وأحنا اصباويه واليوم مقال مافينا فلاتيه
فتصدى له شاب يرد عليه :
ياناس طرد الهوي بده فضاوة بال وانتو طردتو الهوي عالفارغ البعال
وابتعدت قليلا وما زالت الإغاني تنبعث متفرقة يخفت صوتها كلما ازددت بعدا حتى لم اعد أسمعها ، مذ توارت الحقول
سرت في الطريق راجعا وحدي ، والشيخ وحديثه وصورة الحقل ماثلة في ذهني ، ولكن هناك صوتا خلته لم ينقطع ورافقني طول الطريق وانا إخاله يتردد بنبرة عاطفية قوية : اللهم اطعمنا واطعم منا . وصوت الشباب يرن : " سبل الحصايد ذهب وململم الزينات "
بنير - فلسطين
