تهمنا ناحية خاصة من تعاليم الفيلسوف سقراط، التى سجلها أفلاطون فى (الجمهورية) وهي رأيه فى تعليم النساء؛ فقد كان يقول بوجوب تعليم الممتازات منهن تعليما لا يختلف عن تعليم الرجال الممتازين، لاعدادهن لتولي منصب الحكام الفلاسفة فى المدينة النموذجية، إذ لا يرى اختلافا جوهريا بين استعداد المرأة واستعداد الرجل. يرى سقراط هذا الرأي فى وقت انحطت فيه مكانة المرأة فى أثينا وأصبحت لا تمتاز من الأرقاء إلا قليلا؛ وبالرغم من أنه كان يعيش مع زوجة يضرب بها المثل فى شراسة الطباع ورعونة الخلق. وهذا لا شك برهان قوي على استقلال رأي الفيلسوف وسموه على الآراء السائدة، والمؤثرات الخارجية،
واعترفا بفضل سقراط على المرأة سأبين فيما يلي ما عاناه من عنت زوجه (زانتيب) فى يومه الأخير بداره قبل القبض عليه، مستعينة بالرواية التى وضعها Clifford Bank عن حياة الفيلسوف.
في صباح يوم راق جوه، وسطعت شمسه، آثر سقراط البقاء فى منزله على غير العادة، فلم يخرج للحوار والمجادلة فى أسواق أثينا، وإنما جلس على مقعد خشبي عتيق فى فناء داره التى كانت
يستعملها غرفة استقبال - وأخذ يخصف حذاءه؛ ولعل ذلك ما منعه عن الخروج ذلك اليوم؛ وتلك عملية كانت تجدد ولا شك كل بضعة أسابيع، لأن الفيلسوف كان لا يستعمل شيئا أكثر من نعليه سوى لسانه!
وبينما هو على تلك الحال، ولحيته الطويلة البيضاء المرسلة تكاد تخفي الحذاء وتعوق سير العمل، اذ بزوجته زانتيب تنقض عليه انقضاض الصاعقة وتفاجئه قائلة: - أنت هنا يا سقراط؟ - نعم: ييا زانتيب، ولكن لا أفهم المقصود من تلك العبارة. .؟ - وما الذى تفهم من شئون الحياة؟ سأفرغ من اعداد طعامك بعد دقائق. . - حسن جدا. - الطعام المعتاد طبعا. - جميل للغاية.
- أحقا ما تقول؟! لو كنت تعمل عملا شريفا وتحصل منه على بعض النقود مثل سائر الرجال المجدين لما أصبحنا فى حاجة لأكل العيش والعدس يوما بعد يوم. - إن من لا يسأل غير الكفاف يا زانتيب يكون بلا شك أعظم الناس شبها بالآلهة! - أبق هذا الهذيان حتى تكون مع صحبك الأعزاء. أما أنا فلا تهذ معي. . . - لقد خلق كلانا محبا للكلام! - لقد خلقت محبا لذاتك، وتلك هى مصيبتك. - ربما. - أيهمك أمري أو أمر اللأطفال؟ لو كنت تفكر فينا حقا لما جننت لدرجة أنك أصبحت تناصب الحكومة العداء، - ما الذى سيحل بي؟ - أريد أن أعلم - عندما يلقونك فى أعماق السجون؟ - عندئذ تصبحين أسعد حالا. - وكيف ذلك؟ هل لي أن أسأل؟ - إن أصدقائي لا يفتأون يقدمون الى نقودا. . . - (زانتيب مقاطعة) وأنت دائما ترفضها. - بالتأكيد! أما أنت فسوف لا ترفضينها!
- هل تريد ان أموت جوعا؟ أما عن اصدقائك فاني أبغضهم جميعا ما عدا (السبياديس) الانيق. اني لا أستغرب ان يقتل الشبان الموسرون أوقاتهم فى المجادلة فى أمور تافهة، ولكن الذى استغربه هو عدم ترك الرجل الفقير لتلك الأمور لمن هم فوقه مرتبة. - لقد اشتغلت بجد فى شبابي - وانفقت كل ما جمعت على الناس! آه لقد نفد معين الصبر معك!
- لقد لاحظت ذلك - آه. كم أود أن تغتاط وتفقد حلمك معي! انني كمن يحاول إيقاد خشب مبتل. - لا تحاولي ذلك - سحقا لك! أعازم على الدخول أنت؟ - سريعا - سوف لا تجد من الطعام غير الماء البارد - هو كل ما أريد (يسمع طرق على الباب)
زانتيب: - من الطارق؟ إذا بقيت هنا للكلام فقد لا تجد طعاما مطلقا. (تخرج)
سقراط: يفتح الباب ويدخل (مليتاس) الشاعر سقراط: أنك لتفاجئني! مليتاس: أتسمح لي بالبقاء دقائق معدودة؟ سقراط: بالطبع. ولكنك منذ ثلاثة أيام قلت إنك سوف لا تكلمني أبدا
مليتاس: لقد كان ذلك هياجا سخيفا. لقد كنت على صواب وكنت أنا على خطأ وقد جئت لأقر بذلك الآن بجانب غرض آخر سقراط: وما هو الغرض الآخر؟ مليتاس - أن أسأل عما اذا كان فى إحضاري صديقين من أصدقائي للحديث معك عمل خارج عن حدود الحرية المألوفة. انهما يتلهفان لمعرفتك
سقراط - بابي لكل وارد مفتوح. من هما؟ مليتاس - أنيتاس الدباغ، وليكون الخطيب من ذوي المستقبل الباهر فى السياسة. ولقد سنحت لهما الفرصة الآن طبعا.
سقراط - الآن؟ ولم الآن؟ مليتاس - أحقا إنك لم تسمع بعد؟ سقراط - لم أخرج اليوم من منزلي قط. مليتااس - إذن أنا الذى سأزف اليك النبأ السار: لقد سقطت الحكومة الاستبدادية وقامت مكانها حكومة ديمقراطية. سقراط - معنى ذلك نفي عدد جديد من الناس على ما أعتقد. مليتاس - معناه أنك أصبحت بعيدا عن الخطر الآن. سقراط - نعم! ولكني واثق من إغضاب الحكومة الحاضرة كما أغضبت السالفة.
مليتاس - وهل نسيت أن لك عددا كبيرا من الأصدقاء فى أثينا؟
سقراط - لي أضعاف أضعافهم من الاعداء. (يسمع طرق على الباب) مليتاس - ها هما ذان قد حضرا سقراط - من أعدائي؟
مليتاس - كلا. كلا. بل قل أصدقاءك الجدد (يدخل أنيتاس الدباغ وليكون الخطيب)
مليتاس - ها قد أتيتما. هذا أنيتااس الدباغ وليكون الخطيب سقراط - اجلسا على الرحب والسعة. ليكون - ان من دواعي فخاري أن أتعرف اليك الآن أنيتاس - وإنه ليسرنا نجاتك المدهشة. ليكون - قد تتساءل عن سبب زيارتنا لك الآن؟ سقراط - صدقت.
ليكون - إننا ديقراطيان متحمسان أنيتاس - ونعد الديمقراطية النوع الوحيد من الحكومات الذى يرضى أفراد الشعب الذين يحترمون أنفسهم ويعتزون بالكرامة. ليكون - وإنه ليسرنا أن سقراط العظيم يوافقنا فى الرأي سقراط - ان نوع الحكومة لا يفضل أي نوع آخر، بل كل شيء يتوقف على الأشخاص الذين يحكمون بالفعل.
مليتاس - ولكنك بالطبع تؤيد المبادئ الديمقراطية؟ سقراط - هل لليكون أن يعرفني ما هى لأنه كما يبدو أكثر احتمالا لغباوتي من غيره؟
ليكون - الديمقراطية هى الحكومة القائمة على رغبة الشعب، هى المبنية على المساواة المطلقة بين الافراد.
سقراط - عظيم جدا. . . ولكن هل لي أن أسأل بعض الاسئلة بحسب طريقتي المعروفة.
زانتيب (من الداخل) سقراط! سقراط! سقراط - هى زوجتي تعلن اعداد الطعام ليكون - اذن يجب أن نستأذن للخروج سقراط - انني أفضل الحديث على الطعام. مليتاس - اذن سل ما تشاء. سقراط - سأبدأ بسؤال ليكون. اتسلم مبدئيا بمقتضى ما لديك من التجارب أن التجارب مثلا ليست من الأمور الهينة وكذلك إدارة الجيش. ليكون - بالتأكيد. سقراط - وأن ادارة الحكومة يدخل ضمنها التجارة والجيش والزراعة وأشياء أخرى صعبة الحصر؟ ليكون - بالطبع
سقراط - وأن من الضروري أن يديرحكومة كهذه كثيرة الفروع مختلفة الاغراض أعقل الأفراد؟ ليكون - بالضرورة.
سقراط: وهؤلاء يختارون بالتصويت العام. أليس كذلك؟ ليكون: هو ما تقول سقراط: وانت تقول إنه لابد من اشتراك الافراد فى الحكومة اشتراكا مبنيا على المساواة فى التصويت ماداموا يتساوون فى الدفاع عن الأوطان؟ ليكون: مازلت محتفظا بنظريتي.
سقراط: ومعنى ذلك أن الفرد الغبي له سلطة تعادل سلطة الرجل الذكي، والنتيجة تكون اختيار افضل الرجال؟ ليكون: (بغضب) إننا نعتمد على الاجماع الذى لا يضل: انيتاس: وما الذى ترمي اليه من محاورتك هذه؟ (تدخل زانتيب)
زانتيب: بمثل هذا الاهمال تعامل الزوجة الصالحة التى تجهد نفسها فى طهي العدس؟ ألا فاشهدوا أيها الرفاق على عقوق الأزواج! هيا انهض معي وإلا كيف يكون الانتقام
سقراط: معذرة أيها الرفاق فانا ذاهب معها! (يخرجان) مليتاس: ألم اقل لكما إنه عدو للحكومة والشعب؟ اذهب يا انيتاس وأحضر من يتولى القبض عليه فهو كما تبين لكما خائن للحكومة وكثيرا ما عاث فى الارض وأفسد عقائد الشيوخ والشبان.
(يخرج انيتاس) (يدخل سقراط) سقراط - أين انيتاس وكيف يخرج غير مسلم؟ ليكون - لقد كلب إلى أن أعتذر اليك إذ تذكر موعدا أنساه إياه حديثك العذب الطريف. . الآن وقد استنرت بآرائك فى السياسة فهل لي أن أطلب هدايتك فى الدين؟ مليتاس - حذار يا ليكون فسقراط معروف بكفرانه بالآلهة سقراط - تلك أكذوبة لفقها كتاب الكوميديا. ليكون - أنت غير ملحد إذن؟ سقراط - يلزمنا أن ننظف أدمغتنا كل عام كما ننظف دورنا من سقط المتاع
مليتاس - وما هو سقط المتاع يا ترى؟ سقراط - آراء ماتت أو آخذة في التعفن والاضمحلال. (تدخل زانتيب) زانتيب - لقد برد طعامك، فما الفائدة من كل ذلك الهذيان؟ إن العدس لا يؤكل الآن
سقراط - لا بأس فلا حاجة لي به زانتيب - أتقول لا حاجة لك به بعد أن تعبت فى إعداده لك ؟ حسنا هاك جرة من الماء البارد هى كل ما ينبغى أن تا كل جزاء وفاقا ( تلقى الجرة فى وجهه ) ( يسمع طرق على الباب ) زانتيب - تسير نحو الباب وتفتحه قليلا ثم ترده بسرعة صارخة وتكر راجعة
زانتيب - الجنود! الجنود بالباب يا سقراط. . . اني أرى الشر فى وجوههم أي زوجي العزيز. . لقد جاءوا فى طلبك ولا شك. ألم أقل لك أن كف عن النقد والجدل. . آه (تبكي) (يشتد الطرق) ولكنك لم تنهرني ابدا ولم تضربني كما يفعل الرجال غلاظ القلوب مغفلة يا زوجي العزيز. واحزناه. . انك لم تذق طعاما منذ ظهر
أمس (تدخل الجنود) سقراط - مهلا ايها الجنود. . انا قادم اليكم. . . وداعا يا زانتيب. . لا تجزعي فسيرعاك الله فى غيبتي. . . واذا ما ذكرتني فاذكري انني لم أعبأ قط بالحياة ولا بالموت بل بالحقيقة التى سأعذب ولا شك من أجلها. . . . زانتيب: ترتمي على مقعد وتنتحب. . .
