محبة القريب
إنكم لتعطفون على القريب ، وتعبرون عن عطفكم بتزويق الكلام ، أما أنا فأقول لكم إنّ محبتكم للقريب إنْ هى إلا أنانية مضللة .
إنكم تلجاؤن للقريب هرباً من أنفسكم، وتريدون أن تعدوا هذا العمل فضيلة، وهل يخفى علىّ كنه تجردكم هذا؟ إن المُخَاطب أقدم من المتكلم، فالأول مقدّس أما الثانى فلم يقدَّس بعد. ذلك هو السبب في عطف الإنسان على قريبه.
إن ما أشير به عليكم هو أن تنفروا من القريب لا أن تحبو لتتمكنوا من محبة الإنسان البعيد ، فإن ما فوق محبة القريب محبة الإنسان البعيد المُنتظّر ، وإنى أضع فوق محبة الإنسان محبة الأشياء والأشباح .
وإن الشبح الذى يعدو أمامك ، يا صديقي ، لهو أجمل منك ، فلماذا لا تعيره لحمك وعظمك ؟
لقد استولى الخوف عليكم فلذلك تفزعون إلى القريب. لا قِبل لكم باحتمال أنفسكم وما حبكم بالحب الكامل ، لذلك أراكم تطمحون إلى إغواء قريبكم لتتمتعوا بضلاله .
أتمنى أن تنفروا من جميع فئات الأقربين ومن جيرتهم أيضاً لتضطروا إلى إيجاد الصديق الذي يطفح قلبه بالإخلاص. إنكم لتدعون شهوداً عندما تريدون أن تغدقوا الثناء على أنفسكم، وإذا ما توصلتم إلى تضليلهم ليحسنوا الظن بكم تبدأون حينئذ بإحسان الظن بأنفسكم.
ما من أحدٍ يرتكب الكذب إلا إذا تكلّم ضد ضميره؛ فأصدق الناس من لا ضمير له يحول دون قوله الصدق. على هذه القاعدة تتكلمون عن أنفسكم بين الناس لتضللوهم في حقيقتكم.
يقول المجنون فى نفسه: ( إن مخالطة الناس تفسد الأخلاق ،
بل هى تفسد بخاصة من لا خلاق لهم)
إن منكم من يهرع الى جاره ليفتش عن نفسه ، ومنكم من يذهب إليه لينساها . انكم تسيئون محبة أنفسكم ، لذلك يصبح انفرادكم بمثابة سجنٍ لكم .
إن الغائبين يؤدون ثمن حبكم للقريب، لأن خمسةً يجتمعون منكم يقضون دائما على السادس الغائب. إنني لا احب أعيادكم، إذ رأيتها مليئة بالممثلين، ورأيت النظارة أبرع منهم تمثيلاً. لا أدعوكم إلى محبة القريب، بل أدعوكم إلى محبة الصديق. فليكن الصديق لكم مظهر حبور الأرض، فتحسون بما ينبئكم بالإنسان الكامل.
أوصيكم بالصديق يطفح قلبه إخلاصاً؛ غير أن من يطمح إلى الظفر بمثل هذا القلب يجب عليه أن يكون كالاسفنجة قادراً على تشرّب السائل المتدفق. أوصيكم بالصديق الذي يحمل عالماً في نفسه، فهو الصديق المبدع الذي يسعه أن يقدم لكم هذا العالم في كل حين، فيعرض عليكم ما مرَّ به من عبر الحياة، فتشهدون كيف يتحول الشر إلى خير، وكيف تنتهى الصدف بكم إلى غاياتكم.
ليكن المستقبل والمقاصد البعيدة ما تصبو إليه فى يومك ، فتحب فى صديقك الانسان الكامل ، وتضعه نصب عينيك كغاية لوجودك . لا أشير عليكم بمحبة القريب أيها الاخوة ، بل محبة الآتى البعيد . هكذا تكلم زارا ...
طرق المبدع :
أتقصد العزلة يا أخى لتجد الطريق التى توصلت إلى مكمن ذاتك ؟ إذن ، فقف قليلا فى ترددك واصغ إلى : لقد قال القطيع :( من فتش فقد تاه ، ومن انعزل فما أمن العثار ).
وأنت قد عشت طويلا بين هذا القطيع ، ولسوف يدوى صوته ملياً فى داخلك . فإذا قلت له :لقد تغير ضميرى جانحاً عن ضميرك -فلن تكون إلا شاكياً متألماً.
إن اشتراكك بالشعور مع القطيع قد أورثك هذا الألم ، وآخر وَهَجٍ من هذا الضمير المشترك لا يزال يلهب فجيعتك فيجددها . ولكنك ترغب فى اتباع هاتف آلامك لأنه يقودك إلى التوغل فى ذاتك ، فأين برهانك على حقك فى المضى إليها وعلى انك قادر على هذا السفر أفأنت قوة جديدة وحق جديد ؟ أأنت حركة ابتداء ؟ أأنت مجلة تدور على ذاتها ؟ أبوسعك أن تجعل النجوم تدور حولك ؟
لَكَمْ من طموح يتحفز نحو الأعالى، ولكم من طمع يرتعش في أمانيه، فاثبت لى أنك لست من الطامحين الطامعين. إن كثيراً من ساميات الأفكار لا تعمل إلا عمل الأكر المنتفخة فلا تكاد تتضخم حتى يحكمها الضمور.
إنك تدعو نفسك حراً، فقل لي ما هي الفكرة التى تقيمها مبدأ لك. ولا تكتف بقولك إنك خلعت نيرك، فهل كنت يا ترى ذا حق بخلعه؟ إن من الناس من يفقدون آخر مزية لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم.
لايهم زارا ان تقول له من أية عبودية تحررت ، فلتعلن له نظراتك الصافية الغاية التي تحررت من أجلها هل بوسعك أن تسنَّ لنفسك خيرها وشرها فترفع إرادتك شريعة تسود أعمالك . أبوسعك أن تكون قاضيا على نفسك وأن تكون منتقماً منها لشريعتك ؟
إنه لأمر مريع أن يبقى الإنسان منفرداً مع مَنْ أقامه قاضياً عليه ومنتقماً منه بالشريعة التى أوجدها . إن مثل هذا الإنسان ليذهب فى الفضاء ذهاب الكوكب مقذوفاً إلى فراغ الوحدة وصقيعها.
إنك وقد اصبحت منفرداً لاتزال تتألم من المحتمع لأنك لم تطرح شجاعتك ولم تزل الأمل مرتع فسك . غير أنك ستتعب من غنفرادك يوماً ، إذا تلين قناتك ، وينحطم غرورك فلا تتمالك من الهتاف قائلا ، إننى أصبحت وحيداً فريداً
سيأتى يوم تحتجب فيه عظمتك عنك فتلتصق صغارتك فيك حتى لترتحف فرقاً من تساميك نفسه إذ يبدو أمامك كشبح مرعب فتصرخ قائلا ( كل شىء باطل ) إن فى المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه ، فإن لم تنل
منه نالت من نفسها وانتحرت . فهل أنت مستعد لارتكاب جريمة القتل ؟ أتعرف . يا أخى ، معنى كلمة الاحتقار ، وما ستكون آلامك إذا أنت أردت العدل واضطرت إلى الاقتصاص ممن يحتقرونك ؟ انك تُكره الكثيرين على تغيير اعتقادهم فيك ، فتثير حفيظتهم عليك . لقد اقتربت منهم ثم تجاوزتهم ، فهم لذلك لن يغتفروا لك .
لقد تفوقت عليهم ، فكلما اعتليت فوقهم ازدادت صغارا في أعين الحاسدين . وما كره الناس أحداً كرههم للمحلق فوق السحاب .
لقد وجب عليك ان تقول للناس :- إننى اخترت طلمكم نصيباًحق لى منكم ، لذلك عز إنصافى عليكم . إن الناس يرشقون المنفرد بالمظالم والمثالب ، ولكنك إذا كنت تريد أن تصبح كوكباً فعليك أن ترسل أنوارك حتى إلى الراشقين .
واحترس بخاصة من أهل الصلاح والعدل لأنهم يتوقون إلى صلب من يوجد فضيلة لنفسه . إنهم يكرهون المنفرد . واحترس أيضا من السذاجة المتبقيَّة ، لأنها ترى الكفر فى كل إنسان لايلتصق بها . وقد كان الساذجون فى كل زمان يتوقون إلى إيقاد النار واللعب بها .
كن على حذر من التطرف فى حبك ، فان المنفرد يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقى فى طريقه . إن من الناس من يحب عليك ألا تمد إليهم يداً ، بل مخلباً ناشباً. غير أن أشدَّ من تصادف من الأعداء خطراً إنما هو أنت وما يترصدك فى المغاور والغابات إلا نفسك .
لقد تبينت الطريق الذى يقودك إلى ذاتك . أيها المنفرد ، وطريقك منبسط أمامك وأمام شياطينك السبعة ، فتصبح منذ . الآن جاحدا لنفسك ، ساحراً مجنوناً ، مشككا كافراً شريداً. فيجب عليك أن ترضى بالاحتراق بلهبك إذ لا يمكنك أن تجد مالم تشتعل حتى تصبح رماداً.
إنك تتبع طريق الخالق ، أيها المنفرد ، فأنت تفتش على إله لك تقيمه من شياطينك السبعة . إنك تتبع طريق العاشق ، أيها المنفرد، وقد عشقت نفسك ، فأنت لذلك تحتقرها إحتقار العاشقين .
يريد العاشق أن يبتدع لأنه يحتقر ، وما له أن يدّعى الحب إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب . توغل فى عزلتك، يا أخى. سِر فلا رفيق لك إلاّ حبك و إبداعك . إنك ستسير طويلا قبل أن تقفو العدالة أثرك متثاقلة متعارجة . اذهب إلى عزلتك فأننى أشيعك بدموعى يا أخى ، لأننى أحب من يتفانى ليوجد فى فنائه من يتفوَّق عليه . هكذا تكلم زارا
الشيخة والفتاة
لماذا تدلج مختفياً فى يازارا ؟ وما هى الذى تخفيه بكل إحتراس تحت ردائك ؟ أكثر وهبيه أم طفل رزقته ؟ وإلى أين تتجه على طريق اللصوص ياصديق الأشرار ؟ ،
فاجاب زارا -: والحق يا أخى ، أن ما أحمل إنما هو كنز وُهبتُه ، فهو حقيقة صغيرة طائشة كالطفل ، ولولا أننى كممت فمها لصاحت بملء شدقيها . بينما كنت أسير اليوم منفرداً فى طريق عند الغروب ، التقيت بشيخة ناجتنى قائلة -: لقد كلمّنا زارا مراراً نحن النساء ، ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة .
قلت لها -: يجب ألايتكلم عن النساء إلا للرجال. فقالت -: لك أن تتكلم أمامى عن النساء لأننى بلغت من العمر أرذله فلن تستقر أقوالك فى ذهني . وقبلت رجاء المرأة العجوز فقلت لها -: كل ما فى المرأة لغز ، وليس لهذا اللغز إلا مفتاح واحد وهو كلمة ( الحبّل ) ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة ؛ أما غايتها فهى الولد ، ولكن ما تكون المرأة للرجل يا ترى ؟ إن الرجل الحقيقى يطلب أمرين : المخاطرة واللعب ؛ وذلك ما يدعوه إلى طلب المرة، فهي أخطر الألعاب.
خلق الرجل للحرب ، وخلقت المرأة ليسكن الرجل اليها ، وما عدا ذلك فجنون ، ولايحب المحارب الثمرة إذا تناهت حلاوتها، فهو لذلك يتوق إلى المرأة لأنه يستطعم المرارة فى أشد النساء حلاوة تفهم المرأة الطفل باكثر مما يفهمه الرجل، غير أن الرجل أقرب إلى خلق الطفل من المرأة ، في كل رجل حقيقى يحتجب طفل يتوق إلى اللعب . فلتعمل النساء على اكتشاف الطفل فى الرجل .
لتكن المرأة لعبة صغيرة طاهرة كالماس تشع فيها فضائل العالم المنتظر .
ليتوهج الكوكب السنى فى حبك أيتها المرأة ، وليهتف شوقك قائلا : لأضعن للعالم الانسان الكامل . ليكن في حك استبسال تتسلحين به لاقتحام من يثير الوجل فى قلبك . ضعى شرفك فى حبك ، وما تعرف المرأة من الشرف إلا يسيراً غير أن الشرف فى حبك هو الخلق الذى يجعلك تبادلين المحبة بأكثر منها فلا تنحدرين إلى المقام الثانى
ليحذر الرجل المرأة عندما يستولى الحب عليها ، فهى تضحى بكل شىء فى سبيل حبها ، إذ تضمحل فى نظرها قِيَمُ الأشياء كلها تجاه قيمته ، ليحذر الرجل المرأة عند ما تساورها البغضاء ، لأنه إذا كان قلب الرجل مكمنا للقسوة ، فقلب المرأة مكمن للشر
إلى من توجه المرأة أشد بغضائها ؟ والجواب فى قول الحديد للقوة الجاذبة : - إن أشد كرهى موجه إليك لأنك تجتذبين ولا طاقة فيك لتربط على ما تجتذبين . إن سعادة الرجل تابعة لأرادته؛ أما سعادة المرأة فمتوقفة على إرادة الرجل .
تقول المرأة وقد استسلمت لحبها العميم : لقد اكتمل العالم ولا بد لها أن تخضع وأن ترى أعماقا على سطحها ، لأن روح المرأة سطحية ، فهى صفحة ماء متماوجة تداعبها الرياح ،فى حين أن روح الرجل أعماق تز مجر أمواجها فى المغاور السحيقة القرار، وقد تشعر المرأة بقوة الرجل ولكنها لن تفهمها
عندئذ قالت العجوز : لقد تكلم زارا عن أشياء طريفة أجدر بسماعها من النساء من لم يزلن في مقتبل العمر . ومن الغريب أن ينطق زارا بالحق عند ما يتكلم عن النساء وهو لا يعرفهن إلا قليلا . أفتكون إصابته ناشئة عن أن ليس فى حالة المرأة شىء ممتنع
والآن اصغ إلى يا زارا ،فاننى سأعلن لك حقيقة صغيرة مكافأة على ما قلت ، وكبر سني يجيز لى أن أعلنها لك، فاسترعها وأطبق شفتيك عليها لئلا يتعالى صراخها من فمك فقلت هاتها ، هذه الحقيقة الصغيرة أيتها المرأة . وهذا ماقالت العجوز :- - إذا ما ذهبت إلى النساء فلا تنس السوط . هكذا تكلم زارا ...
( يتبع )
