الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 462الرجوع إلى "الثقافة"

١ - الجامعة العربية

Share

ترجمة : فؤاد طرزى

ليست للجامعة العربية ، إذا ما عدنا بها إلى تاريخ العرب الحديث ، بداية ولا نهاية . فهي ليست فكرة مستحدثة خرجت إلى حيز الوجود خلال الحرب الأخيرة لتشير إلى تحول جوهري في مجري الشئون العربية ، ولا هي كذلك النهاية القصوي في عملية ممتدة في الزمن لا يرتجي بعدها تطور ولا تقدم . إن الجامعة العربية في الواقع مرحلة في سلسلة من التطورات ، لا يمكن بأي شكل من الأشكال

أن تنتهي . وإذا ما نظر إليها على أساس صلتها بأحداث تاريخية معينة ، فإنها تعتبر خطوة أولى مهمة من حركة مزدوجة ترمي إلى تحرير العرب وتوحيدهم ، ابتدأت منذ الثورة العربية عام ١٩١٥ ، وهي إلى مدى ما ، في الحقيقة ، إتمام لما لم ينفذ من أهداف تلك الثورة .

إن القضية العربية ، أو اليقظة العربية كما تسمى في بعض الأحيان ، يمكن تعريفها بأنها مجهود لإعادة بناء وتوحيد المجتمع العربي ، ولإحلال هذا المجتمع في وطن أ كبر ، وإصلاح الثقافة التي هي إلى الآن " جامعة " و " عربية " حديثة ، ولها صلة بالماضي . فهي بهذا الوضع حركة مركبة ، تروم من جهة تحرير الأقاليم والممالك العربية من السيطرة الأجنبية الخارجية ، وتهدف من الجهة الأخرى إلي توحيد العرب في كل الشئون ضمن المنطقة

العربية ؛ ولذلك فإن الكفاح في سبيل الوحدة بين العرب لا يمكن فصله عن كفاحهم في سبيل الاستقلال .

ومع أن العرب طوال الأربعمائة سنة التي كانوا فيها جزءا من الإمبراطورية العثمانية لم تكن لهم سلطة كبيرة داخل أوطانهم ، إلا أنهم ظلوا محافظين على إحساسهم بقوميتهم . فإن لهم ماضيا مشتركا يفتخر به كافة العرب ، ويساهمون جميعا فيه . ولهم دين مشترك ، احتفظ بمميزاته طوال أكبر فترة من فترات التاريخ العربي ، فحدد الخصائص الرئيسة للمجتمع العربي وللطابع العربي ، ولهم لغة مشتركة وأدب ضخم قادر على تغذية العقول وحفظها نشطة منتجة . ولهم تراث اجتماعي وتشريعى مشترك ، وطريقة في الحياة مشتركة . وكل هذه العوامل حافظت على الشخصية العربية ، وأفردتها بخصائص واضحة ، وطمعتها بقوة كافية لمقاومة الضغط الأجنبي ، وهزيمة عوامل الفرقة .

وعند ما انبعثت الحركات القومية في العالم من تلقاء ذاتها في مفتتح القرن التاسع عشر حافظ العرب على " شخصية " و " شعور " كانا كافيين لتوجيه حركتهم نحو الاستقلال القومي . لقد تحدث الناس عن الوجوه المختلفة لحركة التطور العربي ، وكل هذا ضروري للاشارة إلي أن الجامعة العربية ليست إلا حلقة في سلسلة من التطورات ، وأنها مجموعة من الصلات ترتبط بها مجموعة من الأحداث ، منها : ظهور مصر الحديثة بقيادة محمد علي ، وظهور الوهابين في وسط الجزيرة ، والنشاط الأدبي في سوريا ولبنان ، وحركة التجديد الإسلامية مقترنة باسم محمد عبده ، والمؤتمر العربي في باريس عام ١٩١٣ ، وثورة العرب عام ١٩١٥ وانهيارها الجر في عام ١٩٢٠ ، والثورة المراقبة عام ١٩٢٠ ، والتثورة السورية عام ١٩٢٥ ، والثورة الفلسطينية عام ١٩٣٦ ، ومؤتمر الرابطة العربية عام ١٩٣٧ ، والمؤتمر البرلماني الدولي في القاهرة عام ١٩٣٨ ، ومؤتمر

فلسطين فى لندن عام ١٩٣٩ وهو المؤتمر الذي ساهمت فيه كافة الحكومات العربية .

إن السهولة التي استطاع بها العالم الخارجي أن يقسم الأقطار العربية إلى ممالك متفرقة في نهاية الحرب العالمية الأولى أ كبر دليل على ضعف العرب ، وقد زادتهم ضعفا الانقسامات السياسية التي أعقبت تمزيق وحدتهم . وإن الحكم العثماني ، مع كل عيوبه ، حافظ على المظاهر الخارجية للوحدة ، لأن البلاد العربية تحت السيطرة العثمانية وإن لم تحكم نفسها بنفسها فهي مع ذلك قد حكمت من مركز واحد ، وكان التعويض الذي حصلت عليه في مقابل دخولها في امبراطورية واسعة هو اتحاد أجزاء الوطن العربي ، في حين أن الانقسامات السياسية في العالم العربي بعد الحرب لم تقدم مثل هذا التعويض ، بل على العكس قسمت العرب وفصلت بينهم ماديا وإداريا واقتصاديا . وقد أدي وجود أنظمة تعليمية مختلفة إلى خلق أنماط متباينة من أنماط التفكير ، وأخضع الشباب العربي إلي تأثيرات خارجية متفرقة ؛ ومن أجل هذا ظهر لبعض الوطنيين العرب أن أستقلال عدد من الدول العربية الصغيرة الضعيفة الذي اشتري بثمن فادح عاق على الدوام إمكان توحيد العرب توحيدا نهائيا .

ولكن في الوقت الذي أدت فيه الأحداث التي أعقبت عام ١٩١٧ إلى تجزئة العالم العربي ، كانت كافة قوي التاريخ - الداخلية منها والخارجية - تعمل في اتجاه معاكس . فالثورة التي حدثت في وسائط النقل وطرق المواصلات أثر ا كتشاف السيارة والقاطرة والطيارة ، قربت بين كل أجزاء الإقليم العربي . فقويت فجأة روابط النسب والدم والتجارة والمسش ؛ وأدى انتقال الآراء والأفكار إلي نمو مصالح مشتركة . وفي نفس الوقت قدمت مطابع بيروت والقاهرة مواد للقراءة إلى العالم العربي بأسره فقدت الأساليب المشتركة في الكتابة والتفكير . ثم كان احتراع الراديو خطوة أخرى أوسع ، إذ كان ذا

تأثير هائل لا على انتقال الأفكار والمعارف . بل حتى على لغة الحياة اليومية . وأحدث نمو صناعة السينما في مصر نفس التأثير . وأخيرا جعل التليفون والتلغراف والطيارة كل ركن من اركان المنطقة العربية ضمن مدى قريب من مركز إداري واحد ، فلا توجد اليوم مدينة مهمة في العالم العربي لا يمكن الوصول إليها في أيام معدودة .

وفي هذا التاريخ كانت شعوب العالم في الخارج تتجمع في شكل جماعات قوية جبارة ، وصار مصير الشعوب الصغيرة قلقا . وإن البلاد العربية تكون كتلة قوية لها قيمة إذا اتحدث ، ولكنها مجزأة لا يمكن أن يحسب لها حساب . ولهذا فإن نشوء الجامعة العربية تعبير طبيعي عن الاتجاهات السائدة ، فلا يمكن الادعاء بانها ليست حدثا منتظرا .

وإن الخطوة الأولى في سبيل تكوين الجامعة العربية قد بدأها نورى باشا السعيد رئيس الوزارة المراقبة آنذاك ؛ وقد تبع هذه الخطوة التوقيع على ميثاق الجامعة في القاهرة في آذار من عام ١٩٤٥ وفي ختام ١٩٤٢ وضع نورى السعيد كتابا عرف بالكتاب الأزرق طبع في بغداد عام ١٩٤٣ ولكنه لم ينشر . ويحتوي الكتاب الأزرق على رسالة موجهة إلى الستر كيسى ، وزير الدولة البريطاني في القاهرة بعد ذلك ، تتضمن " ملاحظات حول استقلال العرب وحول الاتحاد مع إشارة خاصة إلى فلسطين" ويحتوي الكتاب كذلك على عدد من القررات الجريئة .

هناك فكرتان رئيسيتان وراء المقترحات التي وضعها نورى السعيد : الأولى مجملها أن إنشاء " سوريا كبري " واتحادها مع العراق في شكل " جامعة " سيساعد على حل قضية فلسطين ، وذلك بالقضاء على المخاوف التي تساور العرب في فلسطين بأنهم سيصبحون أقلية ، لأن اشترا كهم في كيان سياسي أ كبر سيزيد طاقتهم في مقاومة الصهيونية . وأما الفكرة الثانية فتقوم على أساس

أن " الوحدة العربية " يجب أن تبدأ على شكل " اتحاد " بين الأقطار التي هي أ كثر تقاربا في أهدافها السياسية العامة وفي عاداتها الاجتماعية - كأقطار الهلال الخصيب مثلا ، لأن مثل هذا الاتحاد سيكون قويا لأنه سيبتدىء متلاما ؛ ولأجل إنجازه أ كد وجوب " التضحية بالسيادة والمصالح المكتسبة " .

وعلي كل فإن الجامعة العربية ، كما أرادها نوري السعيد ، لم تظهر إلي الوجود . فقد ظهر لبعض الوطنيين العرب أن هناك عددا من العيوب والأخطاء في هذه المقترحات . فإن نوري بإشا وإن أكد بأن ضم فلسطين إلي اتحاد أوسع سيقلص من أخطار الصهيونية ، إلا أنه يمكن للباحث أن يتصور أن عكس ذلك قد يكون ممكنا . فالحركة الصهيونية التي تحاول الاندفاع في كل اتجاه ، من الممكن أن تجد الفرصة أ كبر للتوسع في هذا الاتحاد . يضاف إلي ذلك أنه ليس من الممكن في سوريا الكبرى التمييز بين العرب والمواطنين اليهود ، ولهذا ستتمكن الجالية اليهودية من مد نفوذها الاقتصادي داخل منطقة أوسع مما كانت لها قبلا . وأ كثر من ذلك أن الاقتراح الرامي إلي تقرير وضع لليهود كوضع الحوارنة في جبل لبنان داخل هذا الاتحاد ليس هو بالاقتراح العملي . فعلاوة على الاختلاف الموجود بين المسألتين ، نظرا لأن وضع الحوارنة قد تقرر قبل عام ١٩١٤ ، فإن نفس الوضع ، وضع الحوارنة ، ليس وضعا مأمونا ، إذ لا تزال إلي اليوم بعض المخاوف تراود جمهورا من المسيحيين من أنهم " سيبتلعون في دولة عربية مسلمة " كما أن فساد النظام هناك أثار شعورا بالانفصال . وأخيرا فإن بعض الوطنيين العرب اعتقدوا بأنه ليس من الحكمة ولا هو بالشئ العمل التمييز بين الأقطار العربية المختلفة بحجة " المشابهة " و " التقارب " بين بعض هذه الأقطار كما أنه ليس من الحكمة بشكل خاص إنشاء جامعة لا تكون مصر عضوا فيها منذ البداية ، لأنه من الصعب بعد ذلك

إقناع مصر بالانضمام إليها . وفوق ذلك قد ظهر أمام أنظار هؤلاء الوطنيين بأن مصر ستخلع على الجامعة صفة دولية ، وستقويها بشكل لا يمكن للهلال الخصيب أن يؤديه وحده .

وبعد ذلك أنشئت الجامعة ، لا بالشكل الذي أراده نوري السعيد في البداية ، ولكن على شكل نظام أ كثر عموما ، وأقل تماسكا ، تولت مصر فيه مركز القيادة . وهذا يعزي من ناحية إلى وجهات النظر السائدة التى عددناها آنفا ، وإلى حقيقة أن القاهرة غدت خلال الحرب العالمية الثانية أ كبر مركز دولي مهم بين البلاد العربية من الناحية الأخري . وأن هذه الحقيقة الأخيرة نتيجة طبيعية أدى إليها وقوع القاهرة في وسط طرق المواصلات الحيوية ، والدور الذي لعبته في العمليات العسكرية التي قامت بها قوات الدول الديمقراطية . وقد سهل تسليم زمام القيادة إلى القاهرة تقلص السيادة العراقية من بعد ثورة رشيد عالى الكيلاني عام ١٩٤١ ، والوضع الاستقلالي غير المحدد لسوريا ولبنان .

وإن أقوى قرار شعبى هو ذلك القرار الذي نص فيه على وجوب استيحاء " الرأي العام العربي" ، دائما وفي كافة الأمور . ولقد أشرب هذا القرار بروح القومية العربية الشعبية .

وقد أعترف بأن الجامعة المقترحة ليست إلا خطوة أولى في طريق وحدة أقوى ، نستطيع أن نساير اتجاه الأحداث في العالم . ولذلك يجب أن لا نعتبر الجامعة نهاية التطور ، بل إنها مرحلة تمثل مجري الأوضاع الداخلية في العالم العربي ، وتشير إلى تقدم عام نحو الاتحاد ، مصايرة للاتجاه في العالم الخارجي نحو تكوين كتل إقليمية أ كبر .

وهي تمثل " تكتلا شرقيا كبيرا " يتكون من الأقطار

العربية ويقف قبالة العالم الخارجي . وقد اتحدت هذه الأقطار لتعمل في اتجاه واحد ، ولتنفيذ كل منها العمل بسياسات خارجية متباينة ، أو تلقي بنفسها في أحضان دول مختلفة . وإن الهدف الآني من هذه الفكرة أعاق إمكان عقد كل من سوريا ولبنان معاهدات مع فرنسا تمنحها " وضعا خاصا " ما لم تفعل الأقطار العربية مثل ذلك . وإن هذا الجانب من البروتو كول هو الذي أثار شكوك الفرنسيين أكثر من غيره ، وقوي الاعتقاد بينهم بأن الجامعة " لعبة " بريطانية لطردهم من الشرق الأدنى .

وعلاوة على اعتراف الدول العربية باستقلال وسيادة لبنان بحدوده الحالية ، حاول البروتو كول أن يظهر لبعض الفرق الخاصة من اللبنانيين بأن لبنان قد قبل كعضو مساو في لجنة الدول العربية ، وان الجامعة لا تعمل بأي شكل كان ضد استقلال لبنان

وأخيرا جعل البروتو كول من قضية فلسطين قضية تقع مسئوليتها على كاهل العالم العربي بأسره دفعة . وهذا وحد العرب بشكل أ كثر قوة مما حدث سابقا في مؤتمر سان جيمس عام ١٩٣٩ .

( له بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية