ليس التشاؤم والتفاؤل من صفات الفلاسفة وحدهم فان الفلسفة ليست إلا صورة واحدة من صور أخرى كثيرة يحرز فيها الانسان موقفه من الوجود الذى يؤلف هو جزءا منه ، ومظهرا واحدا من مظاهر متعددة يعبر بها الانسان عن فكرة من أشد الفكر تأصلا فى نفسه . فان الانسان إذا تملكته فكرة من الفكر
فأخذ يؤيدها بالبراهين والحجج ، واستسلم لأساليب الاستدلال وتقديم المقدمات ، واستنتاج النتائج ، جاءت هذه الفكرة فلسفة . وإذا غلب عليه الوجدان والعاطفة المتصلان بهذه الفكرة فاضت شعرا أو موسيقى أو صورة أخرى من صور الفن . فجوهر الفكرة واحد ومظاهرها مختلفة .
كذلك نرى التشاؤم والتفاؤل فى شعر الشعراء ، وألحان الموسيقيين ، ومنتجات أصحاب الفن ، فى صور لا تقل روعة ووضوحا وتأثيرا عن أية نظرية فلسفية قال بها فيلسوف متشائم أو متفائل .
بل التشاؤم والتفاؤل عامان فى الناس جميعا ؛ إذ ما من الناس إلا من هو متشائم أو متفائل ، وإن لم يضع فى وجهة نظره مذهبا أو قصيدة أو لحنا . هما دين أو جزء من دين يعتنقه كل فرد من أفراد البشر ، ويشكل حياته بمقتضاه ، إذ هما تقديران للحياة ، أو هما - إن
شتت معنيان للحياة . والإنسان عاجز عن أن تمضى فى حياته على غير قاعدة ، ويأتى ما يأتى به من الأفعال إزاء نفسه وغيره وإزاء الله على غير أساس ، فهما ذلك الأساس الذى يبنى عليه الفرد صرح أعماله ، والأصل
الذى تصدر عنه فلسفته وفنه ، وبه يتشكل إلى حد كبير خلقه ودينه ومعاملته . وكما أنه مهما بلغ به الإلحاد لا بد متخذ لنفسه إلها ما يرضى به نزعة ملحة فى طبيعته كذلك لا بد له من أن يتخذ لنفسه موقفا من العالم يرضى به نفس تلك النزعة الملحة ، ويزن به قيم الأشياء وقيمة نفسه ، ويصوغ بمقتضاه سلوكه .
فكل إنسان بهذا المعنى فيلسوف متشائم أو متفائل ، إذا فهمنا الفلسفة على أنها وجهة نظر مطردة في الحياة أو الوجود . وربما كان هذا هو المعنى الذى أشار إليه " هيجل " عند ما قال : " إن كل إنسان فيلسوف بفطرته . وإن الحيوان وحده هو الذي لا يتفلسف " وذلك لأن الحيوان ليست له وجهة نظر معينة فى الحياة .
وتحمل اللغة شواهد لا حصر لها عما يشعر به الانسان من نفاؤل أو تشاؤم إزاء الوجود بأسره ، أو إزاء حياته الخاصة ، أو قيمته ، والدور الذى يقوم به فى هذه الدنيا أو إزاء الله - فلا تسأل الرجل العادى فى مسألة من المسائل إلا نطق بعبارة أو عبارات تكشف عن وجهة نظره فى الحياة وفى نظام الكون والعناية الالهية ، وفى طبيعة الانسان ، وفى الخير والشر في العالم ، وما إلى ذلك مما هو فى الحقيقة وجوه متعددة لمشكلة واحدة هى مشكلة التفاؤل والتشاؤم .
هل لهذه الحياة قيمة ؟ هل فى هذا الوجود نظام وتدبير ؟ هل الناس سعداء حقا ؟ أفى الحياة أمل لتحقيق سعادة كاملة ؟ هل الشقاء عنصر ضرورى فى الوجود ؟ هل الألم من لوازم اللذة ؟ هل هذا الوجود أكمل وجود يمكن للعقل تصوره ؟ ما معنى الحياة والموت ، واللذة والألم ، والنظام والفوضي ، والله والطبيعة ؟ كل هذه أسئلة تدور بخلد الناس جميعا ، فلاسفتهم وغير فلاسفتهم ، وكلهم يحاول الاجابة عنها
بقدر ما تتسع له ثقافته ، لأنها أسئلة تتصل بمشكلة الانسان الكبرى التى هى مشكلة وجوده وحياته ومشكلة النظام العام الذى يعيش فيه .
ولايمتاز موقف الفلاسفة فى هذه المشكلة من موقف غيرهم إلا بما قدمنا من أنهم أقدر من سواهم على الالمام بأطراف المسائل التي يبحثونها ، والوصول منها إلى نظريات عامة يدافعون عنها بما يملى به العقل من أدلة وحجج : ولكنهم فى هذا إنما يترجمون عن الفكر البشرى فى جملته ويدافعون عن وجهة نظر له فى هذه الناحية أو تلك فنظرياتهم أكثر تحديدا وأعظم شمولا وأدق وأعمق مما يستطيع غيرهم أن يأتى به .
ومبعث التشاؤم والتفاؤل فى الانسان أمران : أولهما الحقائق الواقعية التى تجري فى الكون على مرأي منه ومسمع ، لاسيما ما يتصل منها ويكون لها أثر فيه . وثانيهما حالته النفسية العامة ( أو حالته فى ظرف معين ) وهى الحالة التى يفسر فى ضوئها وقائع الوجود والحياة التى يعيش فيها ، ويعللها ويحاول وضعها فى نظام عام يستوحى منه فكرته ، عن الوجود كله متشائما أو متفائلا . فالتشاؤم والتفاؤل إذا نتيجتان لتقدير العقل البشرى للحوادث . أو معنيان يقرؤهما ذلك العقل فى النظام الكوني فى محاولته
وضع تفسير أو تعليل لتلك الحوادث . وقد تكون محاولة الانسان وضع نظرية عامة فى طبيعة الوجود على مثل هذا الأساس ضربا من ضروب الغرور الانسانى . ولكن هذه هى الفلسفة ، والتفلسف جبلى فى الانسان كما قال هيجل ، لأنه لابد له من نظرة فى الحياة ونظرية فى الحياة . وقد لا يكون الانسان برما بنفسه وبحياته ولاساخطا عليهما ، ولكنه برم ناقم منه ، فيراه في مرآته المحدودة أولا ثم تنعكس صورة العالم كله على هذه المرآة الصغيرة فيقول هو ذاك ! ويخلع عليه من الصفات ما يتفق وطبيعة مرآته
الصغيرة التى لا يرى العالم ولا يستطيع أن يرى العالم إلا فيها .
أما الحالة النفسية التى أشرت إليها ، والتى إليها يرجع ذلك التفسير و التعليل ، فحالة متعددة النواحى كثيرة العناصر معقدة التركيب ؛ إذ هى التكوين العقلى العام الذى تتمثل فيه مبادئ الانسان الخلقية والاجتماعية ، وعقائده الدينية وآراء العلمية ، بل وخرافاته وأوهامه وأحلامه ومزاجه البدنى ، وصحته مرضه وغناه وفقره ، وما إلى ذلك من العناصر التى تربو علي الحصر .
فلا غرابة إذا قلت إن عقيدة واحدة من عقائد الدين أو نظرية من نظريات العلم أو مذهبا من مذاهب الأخلاق ، أو مرضا من الأمراض ، أو عقدة من عقد النفس ، كافية لأن تكون النواة التى تنمو حولها فلسفة فيلسوف فى التشاؤم أو التفاؤل . فليس بعجيب مثلا أن يقف المسيحى من العالم ومن الانسان موقف التشاؤم ، لأن دينه علمه أن المادة بكل أنواعها ومظاهرها شرور وآثام ، وأن الانسان يولد فى هذا العالم وهو يحمل فى دمه آثار الخطيئة ؛ ولا بعجيب أن يقف المسلم من الدنيا موقف التشاؤم لأن دينه علمه حقارتها وزهده في زخرفها
ونعيمها ، وحذره من مكرها وغرورها ؛ ولا بعجيب أن أن يقف العالم الطبيعى من العالم موقف التشاؤم ، إذا لم يرقبه إلا المادة وجزئياتها وذراتها ، ولم يدرك فى ذلك نظاما ولا تدبيرا ولا حكمة ولا عقلا ولا قانونا ؛ أو يقف من العالم موقف التفاؤل إذا أقدمه بحثه العلمى بوجود الغاية فى كل شئ والنظام والقانون فى كل شئ ؛ وليس بعجيب أن يتشاءم " شوبنهور " وقد اعتقد أن الارادة الالهية والانسانية عمياء ، وأن العالم والإنسان يتخبطان فى الفوضى التى لا حد لها وأن يتفاءل " كنت " وقد اعتقد أن الارادة الانسانية خيرة فى ذاتها وأنها تسمو على جميع
القوانين والأوضاع وتشرع لنفسها ، ولا بعجيب أن أن يكون تشاؤم " نيتشه " وفلسفته التى لا تعرف حدا للعنف والقسوة وليدى ذلك المرض العضال الذى لازمه طول حياته . بل العجيب حقا ألا تكون لكل هؤلاء فلسفاتهم فى التفاؤل أو التشاؤم ، وألا تصدر عنهم على النحو الذي صدرت .
والظاهر أن فلسفة التشاؤم أقدم الفلسفتين وأهمهما و أكثرهما ذيوعا فى العالم القديم والحديث على السواء . وفى جميع مراحل التفكير الإنسانى ؛ فقد ظهرت فى الشرق والغرب فى أقدم العصور ، فى حين أن فلسفة التفاؤل لم تظهر إلا فى عصر خاص من عصور الفلسفة الغربية .
وربما كان السر فى ذلك أن فلسفة التشاؤم أدنى إلى التعبير عما يدركه الانسان عادة من قيمة الوجود ، إذا اعتبرنا أن الغاية القصوى التي يسعى كل إنسان إلى تحصيلها هي السعادة والخلو من الألم ، وأن السبيل إلى تحقيقها محفوفة بالمكاره مملوءة بالعقبات ، وأن الناس يصابون فى أمانيهم وأحلامهم وغاياتهم أكثر مما يصيبون منها فى حياتهم القصيرة المحدودة .
بل ربما كان الموت - وهو أهم ظاهرة فى الوجود ، وأشمل قانون يخضع له الانسان - أعنف الصدمات التى تحمل الناس على الوقوف من العالم موقف التشاؤم ؛ إذ الموت مهما قدم العهد ، وطال تفكير الانسان فيه ، يفجأ المبتلى فى كل حادثة يقع فيها ، كأنه حدث غريب جديد ، يطلق الفكر فى النظر في هذه الحياة وقيمتها وأمدها . ومن النظر فى الكون خلال ظاهرة الموت ، تتولد فلسفة التشاؤم ، لأن الانسان مجبول على حب الحياة ، والموت حد للحياة ، ومجبول على طلب اللذة والغنى والشهرة ، وعلى أن يفرض نفسه على الوجود فرضا بكل ما يستطيع من وسيلة ، وهى أن يسعى إلى تحقيق معانى الوجود فى نفسه بما يعمل وما يفكر وما يقول وما
يعقب من ذرية ، بل وبما يحلم ويأمل ويتمنى ؛ والموت حد لكل لذلك ، فهو حد لكل ما هو عزيز على الانسان ، إذ هو حد لبقاء النفس وكل ما يتعلق بها .
يرى الأحياء دور الموت يمثل بلا انقطاع على مسرح الحياة ويفجعون فى هذا الصديق أو ذاك ، وفى هذا القريب أو ذلك ، وفى آبائهم وأمهاتهم ، وأبنائهم وبناتهم ، فيدركون فى هذه المآسى الفجيعة الحقة ، وهي فجيعتهم فى آمالهم وأمانيهم ، والخيبة العظمي فى الحياة ذاتها ؛ وتبدو لهم الدنيا شاحبة ذابلة عابسة زائلة ، ويبدو لهم غرورها ، وتتمثل أمام أعينهم شرورها ، فيقرءون فى كل صفحة من صفحاتها معانى الشؤم والبؤس ، وتتمخض من كل ذلك فى نفوسهم فلسفة التشاوم .
هذه إحدى النقمتين اللتين تغنى بهما الانسان منذ فجر تفكيره ، ولا يزال يتغنى بهما إلي اليوم ، وأرجو أن أسمعك فى مقال آخر شيئا من لحن المتفائلين ، وأن أضع أمامك بعض صور التفاؤل والتشاؤم الفلسفى .
(للبحث بقية )

