فصول لم نرد بها التحدث عن الفلسفة للفلسفة، ولكنا أردنا بها أن نبدي تأثير الفلسفة في تطوير الأدب الألماني، وما كان لأصحاب الفلسفة من فضل عميم على هذا التطور الذي أصاب جميع حقوله الأدبية. الكاتب
تمهيد
الفلسفة الألمانية قبل (كانت)
كانت تستمد ألمانيا مادة فلسفتها وأدبها من فرنسا طيلة القرن السابع عشر، والفلسفة الديكارتية (1) هي الفلسفة التي كانت تتطارحها الجامعات الألمانية، (وليبنيز) (١٦٤٦ - ١٧١٦) هو أول فيلسوف استطاع أن يبث الحياة في عروق الفلسفة الألمانية ويذهب بها في مضمار التقدم شوطاً بعيداً، كتب الفلسفة باللغة اللاتينية طوراً، وطوراً بالفرنسية، وهما اللغتان السائدتان يومئذ، ولعل شيوعهما واستئثارهما بالكتابات الفلسفية كان يقرب كثيراً بين المفكرين والأدباء حتى يغدو هذا التقريب أحد الأسباب العاملة على تشييد صرح اللغة وتزينه وتجميله بما يستطيع فكر ناهض أن يضعه؛ ولكن علة (ليبنيز) أنه كان يتناول المسائل الفلسفية كمادة فنية تلهو بها نفسه، وهو خلال ذلك قد يعالج المسائل الكبرى، كمسألة الحياة والوجود، وقد يوفق في الإجابة عنها توفيقاً كبيراً، ولكنه كان واحداً من كثيرين ممن يعالجون الفلسفة، ولا يعملون على لم أفكارهم حتى تكون مذهباً خاصاً يضم منها الآراء الناضجة وفكرتهم الخاصة في الحياة؛ وجل ما وصل إليه في فلسفته أن عالج الجبر والاختبار، ومعرفة الله وعلمه بالمستقبل، والعناية الإلهية ووجود الشر، وألف مذهبه في ( التفاؤل Optimisme ) الذي يرضى عن الوجود ويحبب الوجود إلى الإنسان، هذا المذهب الذي سخر منه (فولتير)
في مقطوعته زلزال (ليزبونة) (١) وفي روايته (كانديد) ، وخير كتب ليبنيز الخالدة كتابه ( la monadologie ) وفي هذا الكتاب يعلن انفصاله عن المذاهب المتقدمة ومروقه من مذهب ديكارت الذي جعل من الكون جزأين: أحدهما عالم الأرواح والآخر عالم الأجساد، فجاء ليبنيز ونقض هذا المذهب، وأحل محله مذهب (الجزء (٢) الفرد La monade ) الفرد الذي لا يتجزأ ولا يفنى، وشأنه في مذهبه هذا كشأنه في غيره يفتقر إلى ترتيب وتوفيق وتوحيد
وهذا العمل الذي كانت تفتقر إليه آثار (ليبنيز) إنما أتمَّه وشذَّبه من بعده الفيلسوف الصارم (وولف) الذي نزع عن فلسفة ليبنيز الخيال والشعر وشد وثاقها بالحقيقة، ونفي عنها شيئاً وزاد عليها شيئاً حتى غدت أجزاؤها متآلفة متداخلة كأنها أعضاء في جسد واحد. وقد كان له تأثيره العظيم في الأدب الألماني والفلسفة الألمانية بشهادة الفيلسوف (كانت) ، لأنه هو الذي خلق في الألمانية لغةً للفلسفة خاصة، وهو الذي فتح آفاقاً واسعة في التعبير والأداء لمن بعده، فهان على هؤلاء أن يجلوا وأن يحلقوا ما استطاعوا؛ ومن هؤلاء (كانت) نفسه، الذي كانت له صفحات خاصة تشدو بالمزايا التي أسداها (وولف) إلى الأدب وإلى الفلسفة
على أن الأندية الفلسفية قد تغض بصرها عن كل ما شاد هؤلاء في صرح الفلسفة، وتعتقد أن الفلسفة الألمانية إنما كانت قبل (كانت) غيهباً ممدوداً، وأن الذي محا هذا الغيهب وبعث النور في خلاله هو الفيلسوف العظيم (كانت) الذي تزعزعت له الأندية الفلسفية والأدبية، وكانت له فيهما جولات يعزى إليها كل ما غمر الحقل الأدبي والفلسفي - في ألمانيا - من خصب ومن إنتاج.
كانت (KANT) ١٧٢٤ - ١٨٠٤ حياته: فلسفته: تأثيره
حياته
كان (كانت) في التاسعة من عمره حين فقد والده، فكفلته
أمه ونشأته تنشئة عالية، فدرس في بدء عهد اللاهوت، كما هو العهد في دراسات تلك العصور، ثم درس الرياضيات، ثم الفلسفة، حتى إذا أتم عهد الدراسة عرض له هم المعيشة، الهم الذي كان يوقر ظهره في جميع أدوار حياته، فرضى بأن يدرس في مواطن خاصة، وهو خلال ذلك يتفرغ إلى الدرس، ويلم بجميع العلوم التي توائم الفلسفة. وفي عام (١٧٧٠) أُسند إليه كرسي خاص لتدريس الفلسفة، وقد عاد أمره إلى الضيق، وحريته إلى الإرهاق في عهد فردريك غليوم، إذ تدافعت عليه الوشايات يخلقها حسد القوم؛ ولكنه ظل مثابراً على العمل حتى عام (١٧٩٧). وقد كان لعهده هذا التأثير بليغ في نفوس طلابه الذين جالت براعاتهم من بعده في صحف الأدب والفلسفة، وهو الذي يوصي زملاءه في إحدى محاضراته: (بأن يحذروا كل الحذر من أن يلقوا في نفوس طلابهم أن العلم بالغ أوج الكمال، أو أن يعلموهم ما هي ماهية الفلسفة، وإنما ينبغي لهم أن يلقونهم كيف يتفلسفون، وأن يساعدوهم - لا أن يحملونهم على ظهورهم - إذا أرادوا أن يعلموهم الدروج على الأقدام) . والحق يقال أن (كانت) لم يخلق إلا ليعيش فيلسوفاً، ولم يلاق منه مذهبه إلا قريناً يحيا به ومعه، ناهيك ببعض مآثر رواها عنه القوم، تدل على ما أتصف به كانت من حب العمل والنظام والتوقيت ومواصلة الجهود الجبارة في سبيل دراساته المتتالية، فقد كان الرجل موفقاً كل التوفيق بين مذهبه وسلوكه؛ قد سن لكل شيء نظاماً، وأتبع هذا النظام كأنه الرسول يأمر وهو أول من يأتمر
وكان آخر كلمة له هذه الكلمة حين لقي حتفه عام ١٨٠٤: (أنه حسن!) كأنما يريد أن يقول (لقد عشت كما كنت أود أن أعيش)
فلسفته
بدأت فلسفة (كانت) تنمو شيئاً فشيئاً شأن كل فلسفة، وإنما تميزت من غيرها بطابع الاستقلال الذي انتحى بها ناحية جديدة، فقد تأثر كانت بمن تقدمه من الفلاسفة وأتخذ غذاءه العقلي منه، وما كاد ينشأ ويترعرع ويشتد ساعده حتى أعلن انفصاله عنه ونهج منهجاً جديداً أختطه لنفسه.
