الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 122الرجوع إلى "الرسالة"

١ - مدينة الزهراء، وحياتها الملوكية القصيرة, بين المعجزة والعلم

Share

قرأنا منذ حين في بعض الأنباء الخارجية أن بعض الهيئات  الأثرية في إسبانيا تعنى بالبحث لاكتشاف معالم مدينة الزهراء  الأندلسية، وأنها قد وفقت بالفعل إلى اكتشاف بعض أسس  قديمة في ضاحية قرطبة يظن أنها من أسس قصر الزهراء؛  وجدير بمثل هذا النبأ أن يثير شجناً في نفس أولئك الذين  يستعرضون تاريخ الأندلس، وتاريخ قاعدتها الملوكية الشهيرة  التي غاضت من صفحة الوجود حتى لم يبق من أطلالها اليوم  ما يدل على مواقعها ومعالمها.

كانت الزهراء من أعظم القواعد الملوكية التي عرفها التاريخ،  ولكنها لم تعمر طويلاً ولم تقم في تاريخ الأندلس بدور ذي  شأن، ولم ينزلها سوى مؤسسها الناصر وولده الحكم وابنه  المؤيد، ولم تعمر كقاعدة ملوكية أكثر من نصف قرن؛ ومن  غرائب القدر أنه في الوقت الذي أكملت فيه الزهراء في عهد  الحكم المستنصر، وضعت أسس قاعدة ملوكية إسلامية جديدة  قدر لها أن تؤدي في تاريخ الإسلام وتاريخ الحضارة الإسلامية  أعظم دور؛ تلك هي القاهرة المعزية التي أخذت تتفتح عظمتها  وبهاؤها في نفس الوقت الذي ذوت فيه عظمة الزهراء وعصفت  بها حوادث الدهر؛ ولم تكن الزهراء أول قاعدة ملوكية في  الأندلس، ولم تكن القاهرة أول قاعدة ملوكية إسلامية في  الشرق أو في مصر، فمن قبل أنشأ هشام بن عبد الملك رصافة  الشام لتكون منزلاً ملوكياً لبني أمية، وأنشأ المعتصم سامرا  لتكون منزلاً له ولعقبه من بني العباس، وأنشأ ابن طولون مدينة  القطائع بمصر لتكون له ولعقبه قاعدة ملوكية إلى جانب الفسطاط  عاصمة مصر الإسلامية؛ وفي الأندلس أنشأ عبد الرحمن بن معاوية  مؤسس ملك بني أمية بالأندلس ضاحية ملوكية في قرطبة سماها  الرصافة تشبهاً برصافة جده هشام؛ وسطعت كل من هذه القواعد

الملوكية الإسلامية حيناً من الدهر، ولكنها اختفت جميعاً من  صفحة الوجود، إلا القاهرة فإنها استحالت إلى عاصمة الإسلام  في مصر، وما زالت تقطع الأحقاب قوية راسخة، تحمل حتى  اليوم عمرها الألفي أعظم ما تكون الحواضر العظيمة والمدن  الغراء ضخامة وفخامة وبهاء.

كان عصر عبد الرحمن الناصر أعظم عصور الإسلام في  الأندلس، وكانت قرطبة عاصمة الأندلس، قد بلغت يومئذ  أوج العظمة والإزدهار، وأضحت تفوق بغداد، منافستها في  المشرق، بهاء وفخامة، ولكن قرطبة كانت بمعاهدها ودورها  وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك  عظيم كملك الناصر من استكمال الفخامة الملوكية والقصور  والرياض الشاسعة؛ بل كانت تضيق بهذه الأبنية الملوكية منذ  عهد عبد الرحمن الداخل حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون  له منزلاً ومتنزهاً ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً  سنة العروش القوية الممتازة؛ فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد  من توطيد ملكه وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن  يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار  قرطبة ضاحية ملوكية رائعة، فأنشأ مدينة الزهراء؛ ولإنشاء  الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط  بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر  رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين فأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية،  ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية  الملوكية هي جاريته وحظيته     (الزهراء)  ؛ وأنه ورث من  إحدى جواريه مالاً كثيرا فأمر أن يخصص لافتداء الأسارى  المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسارى من يفتدى، فأوحت  إليه     (الزهراء)   بأن ينشئ بهذا المال مدينة تسمى باسمها  وتخصص لسكناها. بيد أنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر  إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك والترفع  بمظاهره وخصائصه عن المظاهر العامة لعاصمة مكتظة زاخرة.

والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء كان يحفز  الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت  المنشآت والهياكل العظيمة على مر العصور مظهر الملك الباذخ

والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها  في هذا المعنى:

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان

إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان

وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة  على قيد أربعة أميال أو خمسة منها في سفح جبل  يسمى جبل العروس؛ وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس وعشرين وثلثمائة   (نوفمبر سنة ٩٣٦م) . وعهد الناصر إلى ولده  وولي عهده الحكم بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة،  وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء،  ولا سيما من بغداد وقسطنطينية، وجلب إليها أصناف الرخام  الأبيض والأخضر والوردي من المريه وريه، ومن قرطاجنة  أفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية؛ وكان يشتغل في  بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل ومن الدواب  ألف وخمسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ستة آلاف  صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار  كل عام طوال عهد الناصر أعني مدى خمسة وعشرين وعاماً،  هذا عدا ما أنفق عليها في عهد الحكم وابتنى الناصر في  حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه  وزخرفته حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به  رياض وجنان ساحرة؛ وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلاً سمي بقصر  الخلافة صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب  من جوانبه ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس  المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور  البديعة وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس  إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة؛

وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء وهو الجناح الشرقي المعروف  بالمؤنس، بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير  الذي أهدي إليه من قيصر قسطنطينية، وأقام عليه اثني عشر  تمثالاً من الذهب الأحمر المرصع بالجوهر، وهي تمثل بعض الطيور  والحيوانات وتقذف الماء من فيها إلى الحوض. وقد دون هذه  الروايات والأوصاف العجيبة التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة  المسحورة عن قصر الزهراء، أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد  عيان، وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في  الروعة والأناقة والبهاء.

وأنشأ الناصر في الزهراء أيضاً مسجداً عظيما تم بناؤه في  ثمانية وأربعين يوماً، وكان يعمل فيه كل يوم ألف من العمال  والصناع والفنانين، وزود بعمد وقباب فخمة ومنبر رائع الصنع  والزخرف، فجاء آية في الفخامة والجمال، وأنشئت بها مجالات  فسيحة للوحوش متباعدة الساح ومسارح للطير مظللة بالشباك،  ودار عظيمة لصنع السلاح، وأخرى لصنع الزخارف والحلي؛  والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية  حقة تجمع بين فخامة الملك الباذخ وصولة السلطان المؤثل، وعناصر  الإدارة القوية المدنية والعسكرية.

وفي إقامة هذه المنشآت الباذخة وبذل هذه النفقات الطائلة  ما يستوقف النظر، ويحمل على تأمل ذلك المدى المدهش الذي  بلغته الدولة الأموية بالأندلس من القوة والضخامة والغنى؛ وقد  انتهت إلينا في ذلك أرقام مدهشة، منها أن جباية الأندلس بلغت  لعهد الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف ألف   (أعني خمسة  آلاف مليون)  وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق  والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار؛ هذا عدا  أخماس الغنائم العظيمة التي لا تحصى؛ وقيل لنا إن الناصر خلف  وقت وفاته في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف   (خمسة آلاف  مليون)  دينار؛ وكان يقسم الجباية من أجل النفقة إلى ثلاثة  أثلاث، ثلث لنفقة الجيش، وثلث للبناء والمنشآت العامة،

وثلث يدخر للطوارئ، ولم يتردد المؤرخ الحديث في قبول  هذه الأرقام حتى أن دوزي ينقلها، ويقدر أن الناصر ترك عند  وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب ويقول لنا ابن  حوقل الرحالة البغدادي الذي زار قرطبة والزهراء في ذلك العصر  إن الناصر وبني حمدان ملوك حلب والجزيرة هم أغلى ملوك العالم  في ذلك العصر؛ وهذه أرقام وروايات تشهد بضخامة الدولة  الأموية وطائل غناها وبذخها في عصر الناصر، وتفسر لنا  كيف استطاع الناصر إلى جانب حروبه وغزواته الكثيرة أن  يضطلع بأعباء هذه المنشآت العظيمة الباهرة.

واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر أعني  حتى وفاته في سنة خمسين وثلثمائة؛ واستمر معظم عهد ابنه الحكم  المستنصر؛ واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين  سنة. ولكنها غدت منزل الملك والخلافة، مذ تم بناء القصر  والمسجد؛ وقد كان ذلك فيما يظهر في سنة تسع وعشرين وثلثمائة  ففي شعبان من هذا العام تم بناء المسجد، وأقيمت به أول جمعة  رسمية؛ وكان الناصر قبل ذلك بنحو عامين قد اتخذ سمة الخلافة  وتسمى بألقابها   (سنة ٣٢٧هـ) ، فكانت الزهراء بذلك أول  منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس.

للبحث بقية    (النقل ممنوع)

أخي س: .  . . لم أكن أتوقع من صروف الدهر مهما أسرفت في  عبثها، أن تُخرج منك، وأنت القديس المتبتل في يفوعتك،  زنديقاً يكفر بما كان يؤمن به قلبك ويدين!! حتى جاءتني هذه  الرسالة منك، ففضضتها وأجلت فيها البصر سريعاً، فإذا  بصفاتك تختفي وتتنكر، وإذا بك تبدو لعين صديقك إنساناً  غريباً يشك بعد يقين، وينكر بعد إيمان! لقد مضيت في  كتابك لي ترفض كل ما يزعمه الناس من المعجزات وخوارق  الطبيعة، وتلوح في كل سطر بالعلم وقوانين العلم، وتعتز في كل  سطر بالفلسفة ونتائج الفلسفة؛ ثم ختمت الرسالة بهذه العبارة  أخذتها من كتاب سبينوزا   (في الدين والدولة) :   (يظن  الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجليان بوضوح إلا بالحوادث  الخارقة التي تناقض الفكرة التي كونوها عن الطبيعة. . . إنهم  يظنون أن الله يكون مُعَطَّلاً ما دامت الطبيعة تعمل في نظامها  المعهود، وعكس ذلك صحيح، أي أن قوة الطبيعة والأسباب  الطبيعية يبطل عملها ما دام الله فعَّالاً؛ وهم بذلك يتخيلون  قوتين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله وقوة الطبيعة؛  والواقع أن الله وقوانين الطبيعة شيئ واحد) . ولقد ساءلتني  بعد ذلك قائلاً:   (ما حاجتك إلى التمسك بالمعجزات وخوارق  الطبيعة ما دام العلم يفسر لنا كل شيئ بقانون؟!)

وإني لأستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة  واحدة حين أُذكّرك بما انتهى إليه هذا العلم نفسه، من أن  الطبيعة المادية لا تسير وفق قانون صارم كما يذهب بك الظن،  بل إنها قد تغير سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، كالكائنات الحية  سواء بسواء؛ وإن هنالك بين أساطين العلم من يزعم أنه ليس في  الطبيعة كلها ذرة واحدة تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل  الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع،  فكما أنني لا أستطيع أن أتنبأ بما أنت فاعله غداً، كذلك

لا يستطيع العلم أن يقطع جازماً بما ستؤول إليه هذه الذرة  أو تلك، لأنها يا سيدي تتمتع بشيء مما تتمتع به أنت من حركة  وإرادة، وليست مجرد آلة صماء في يد القانون!! ولكن يجب  أن أسارع إلى القول بأنه وإن تكن الذرة الفردية على شئ من  الحياة التي تغير في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون  إلى النظام الدقيق في سيرها، كما أن الإنسان الفرد حُرٌّ في  تصرفه إلى حد بعيد، ولكنه في المجموع يسير وفق أسس  وقواعد لا تكاد تعرف الشذوذ.

نعم أستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة  حين أُذكّرك بهذه الحقيقة العلمية التي تعترف للطبيعة بإمكان  التغير في بعض جوانبها، فذلك وحده كفيل بتعليل أي تبديل  في نظام الكون المعهود، ولكني سأفرض معك أن قوانين  الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييراً  ولا تبديلاً عما رسمه لها قانونها الأعلى، فمن ذا الذي زعم لك  أن المعجزة كسر لقانون الطبيعة، وإنه لذلك يجب اطراحها  ونبذها؟ نحن نسلم معك أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل  الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها سقطت من  فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هب يداً  امتدت إلى التفاحة أثناء طريقها إلى الأرض فلقفتها فحالت  بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسراً للقانون؟ كلا!  القانون لا يزال قوياً سليماً، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه  لا أكثر ولا أقل. . . أإذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة في  أرض غرفتك ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر  المكتب صفوفاً منظمة، أفنقول إن قانون الجاذبية قد انقلب  رأساً على عقب لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى بدل أن  تستقر على الأرض منجذبة بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة  بأن شخصاً بشرياً قد تدخل في الأمر بإرادته وحال بين قانون  الجاذبية وبين تنفيذه حيناً، فأمكن للكتب بذلك أن تفلت  من يده، ولكن القانون لا يزال قائماً لم يخدش ذلك من قوته  وشموله؟! لا أحسبك مرتاباً في صحة هذا القول، فأنت موافقي  ولا شك أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون  وبين تطبيقه فتعطله دون أن تبطله، نعم إنك موافقي على ذلك،

ولكني لو حورت العبارة قليلاً سائراً بها نحو الأقوم والأصح  فستغضب للعلم وكرامة العلم؛ لو زعمت لك أن لله إرادة حرة كهذه  التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حيناً قد  يقصر أو يطول ولكنه يظل قائماً معمولاً به لا يصيبه عطب ولا  خسارة، كان ذلك الزعم مني في رأيك جهلاً وحماقة، يا رعاك الله! أفتستطيع أن تحدثني بما يبرر عندك أن يكون للإنسان  ما ليس لله؟!!

معذرة، يا صديقي، فسأقص عليك حديثاً عن كلبي،  وللحديث صلة بموضوعنا، فقد وضعت كتاباً بالأمس على مقعد  إلى جانبي، فجاء الكلب يتحسس ويتجسس ويشم الكتاب،  وأظنه قد حسبه قطعة من الجماد لا خير فيها، فترك الكلبُ  الكتاب وانصرف؛ وإذا فرضنا أن التفاهم مع الكلب  ممكن، ثم جئت تقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم  واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلاً  على عدم وجوده، نفر وسخر وأكد لك أن حواسه مقياس  للحقيقة لا يخطئ. . . وإني لأحسب الكون يا صديقي كتاباً  مفتوحاً فيه من المعاني السامية ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي  البصيرة السليمة. ولكني أؤكد لك أن هنالك طائفة من الناس  ستمد أيديها وأنوفها إلى جوانب الطبيعة تتحسسها، ثم تجزم في  يقين لا يعرف الشك ولا التردد بأن هذه الطبيعة جماد في جماد  يسيره هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة معلومة لن تشذ  فيها خارقة ولا معجزة. . . وأعجب العجب أن تكون هذه  الطريقة الكلبية علماً، وأن يكون كل ما عداها تخريفاً وجهلاً. نشدتك الله إلا حدثتني كيف جاز لك أن تقطع أن ليس في  الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولم  لا يكون في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منا عقلاً وأحد  ذكاء فيستطيعفي كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى  لو أتانا الله حاسة سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بتلك  الحواس الزائدة، أم تظل أبواباً مغلقة لأن العلم قد نفد؟!

تعال معي إلى الكون نحتكم إلى ظواهره لنرى هل استطاع  العلم أن يعللها جميعاً، أم أن هناك ألوفاً وألوفاً يقف أمامها العلم  مكتوف الأيدي ولا يمكن فهمها إلا أن تكون   (خوارق)   فوق العلم وقوانينه. أم تُراك فاعلاً كما يفعل ذوو النزعة المادية

الضيقة، فتطأ بقدمك كل الظواهر التي تستعصي على العلم وتنكر  وجودها حتى لا ينثلم العلم ولا ينخدش، أو تطلب إلينا أن  نصبر وأن ننتظر حتى تتم للعلم قوته وفتوته فيشمل الكون كله  بالتفسير والتعليل؟ وفي الحق أن هذا السلاح الذي يشهره الماديون_ سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم  يتمكن منه اليوم_يمكن استخدامه في كل حين، فليس بيننا  وبينهم موعد يبطل بعد التسويف، ولكنها مماطلة متجددة  لا تنقطع ولا تفرغ؛ فإذا فرضنا أن رجلاً استطاع أن يحز رأسه  ويحمله فوق يديه سائراً به في الطريق، ثم سألت الماديين رأيهم  في هذا أجابوك: اصبر فإن الزمن كفيل للعلم أن يبرهن على هذه  الظواهر وأشباهها، فليس ذلك على العلم بعزيز. . . ولكن هل  يتفق وروح العلم أن نلجأ إلى دليل غير موجود؟ أم أنه أحجى  وأقرب إلى الصواب أن نعلل الظواهر بالأدلة التي بين أيدينا،  حتى ولو تعارض ذلك مع آرائنا؟ فماذا يمنع أن نفرض أن هنالك  قوى غير مادية تفعل فعلها وتؤثر في مجرى الطبيعة فتنتج كل هذه  الخوارق والمعجزات؟

ولكن الماديين يركبون رؤوسهم ويحاولون أن يعللوا  بقوانين العلم كل شئ، فإن عجزت أمهلونا إلى المستقبل القريب  أو البعيد. والعجب أن لهؤلاء الماديين   (شطحات)  في التفكير  تدعو إلى التأمل، فأنت إذا سألتهم مثلاً كيف نشأت هذه  الخلائق؟ أجابوك: تسلسلت نوعاً عن نوع وجنساً عن جنس،  وأصلها كلها خلية واحدة. . . حسن! وكيف نشأت هذه الخلية  الواحدة؟ إنها تولدت بطريقة تلقائية آلية من الجماد! فانظر  إليهم كيف تجيز لهم عقولهم صدق هذا النبأ مع أنه على فرض أنه  صحيح فقد حدث في ماض بعيد سحيق، ولم يشهده شاهد  ولا سجله مسجل، ولكنهم مع ذلك يقبلونه راضين مختارين؛  ثم إذا عرضنا عليهم خارقة من خوارق الطبيعة مما يقع على مرأى  منا ومسمع، أنكروها في حمق مع أنها حاضرة بين أيديهم  وليست بالماضي البعيد، وهي مشاهدة ومسجلة فكانت أجدر  بالتسليم والقبول من تلك   (الخارقة)  البعيدة_ونسميها  خارقة لأنه ليس من قوانين الطبيعة فيما نظن انبعاث الحياة من  الجماد! ولكن القوم يختارون من الآراء والعقائد ما يتفق مع  مذهبهم، كما يتخير النساء أزياءهن لكي تلائم ألوانهن وأجسامهن.

هب يا صديقي جماعة قد ارتطمت سفينتهم على جزيرة مهجورة  لا أثر للحياة فيها، ولكنهم ألفوا على أرضها آثار أقدام ليست  من آثارهم هم، فبماذا يعللون هذه الظاهرة إلا أن أناساً غيرهم  كانوا بالجزيرة منذ حين؟ أظن هذا منطقاً لا صعوبة فيه ولا  التواء: لكل أثر مؤثر، فإن رأينا أثراً ولم نجد بيننا مؤثره أيقنا  أن هذا المؤثر لا بد أن يكون موجوداً في غير مكاننا. وها نحن  أولاء ننظر فنرى أنفسنا فوق هذه الجزيرة المهجورة التي تسبح  بنا في الفضاء، ثم ننظر فإذا بآثار لا يحصيها العد تفرض علينا  فرضاً أن أحداً غيرنا قد اتصل بهذه الجزيرة وهو يتصل بها في  كل حين ليحدث هذه الآثار.

ولست أدري ماذا يضيرك أن تعلل بالعلم ما يمكن العلم أن  يعلله، وأن تُرجع إلى القوة التي فوق الطبيعة كلَّ ما تصادف من  خوارق ومعجزات؟ يقول الماديون إن إدخال   (الله)  في مجرى  الطبيعة عجز وقصور عن التعليل الصحيح، ويزعمون أن الإنسان  الأول كان يفسر كل شئ بقوة الآلهة لقلة محصوله من العلم،  فكان إذا اكتسب شيئاً من العلم يعلل به ظاهرة ما، أسقط  هذه الظاهرة من دائرة نفوذ الله وأدخلها تحت سيطرة العلم؛  وهكذا أخذ العلم ينمو ويتسع كما أخذت العقيدة في تأثير الله على  سير الطبيعة تضؤل وتضيق، وهم يرجون أن يطرد نمو العلم حتى  يشمل الكون جميعاً ويفسر   (الظواهر)  كلها بغير استثناء؛  وهم بناء على ذلك يرفضون رفضاً قاطعاً أن يعللوا شيئاً إلا على  أساس واحد: هو قانون الطبيعة ويلفظون من حظيرتهم كل من  يحاول أن ينسب شيئاً إلى قوة أخرى غير قوة الطبيعة وقانونها!  وقديماً كان العالم أو إن شئت فقل الكاهن يفسر كل شئ بقوة  الآلهة وحدها، وينبذ كل من يحاول أن يفسر شيئاً على غير هذا  الأساس! فهل ترى فرقاً بين الكاهن القديم والعالم الحديث؟  كلا، فكلاهما متعصب محدود الفكر، ضيق النظر، ولعمري  إن العالم الماديِّ الحديث لم يزد على أن ارتدى رداء سلفه الكاهن  مقلوباً ظهراً لبطن!

لعله أقرب لروح العلم الصحيح أن نتناول الأبحاث أحراراً  من كل قيد، فلا نفرض لأنفسنا أساساً معيناً للبحث لا نمدوه،  أعني أنه لا ينبغي أن نحتم على أنفسنا أن تفسر كل شئ بكذا أو  بكذا؛ وإلا كنا كعلماء الفلك الأقدمين الذين كانوا ينظرون في

السماء ويبحثون في النجوم على شرط أن يكون بحثهم مقصوراً  على ما هو معروف من النجوم، فإن ظهر كوكب أو نجم جديد  أنكروه ورفضوه!! أردت يا أخي أن تكون حراً في البحث فكبلت نفسك  بالأغلال والقيود! فارفع عن بصرك هذه الغشاوة عسى أن يهديك  الله سواء السبيل.

اشترك في نشرتنا البريدية