الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 462الرجوع إلى "الثقافة"

١ - نور الدين محمود، مسلم عظيم

Share

يعرف الناس عن صلاح الدين يوسف بن أيوب شيئا كثيرا ، يعرفون أنه رجل الحروب الصليبية وواحدها ، والمفرد العلم بين الأبطال الشرقيين ، وجامع الإسلام إلي لواء الوحدة بعد طول تفرق ، وقائده أمام عدو شديد ، عبر البحر إلى بلاد المسلمين واستقر شجى في حلقها بضع عشرات من السنين قاربت القرن طولا دون أن يستطيع هؤلاء المسلمون جمع شتاتهم والسير إلى هذا العدو المهاجم والانتصاف عنه لجلال الدين وحرمة الأهل وكرامة الأوطان ، ولو قد اجتمع السلمون عاما واحدا لقضوا على العدو خلال ذلك العام . ولكن ما الحيلة وقد خلق الله قلوبنا نحن المشارقة على تفرق لا يكاد يلتئم إلا بما يشبه الصادفة والإرغام ؟ لازال هذا دأبنا ولن يزال حتى يرث الله الأرض ومن عليها ! وما بالك بيقوم يستقر بينهم عدو يغتالهم واحدا بعد

واحد ، ويفرض عليهم الجزى فريقا بعد فريق ، ويتقدم كل يوم خطوة نحو الجنوب يريد السير نحو البيت الحرام حبة قلوب المسلمين ، فلا يتفضل أمراء المسلمين إلا بحركات تشبه العبث ؛ سرية هنا وغزوة هناك ، وكتاب من هذا وتهديد من ذاك . فأما أن يتحد القوم ويبرزوا للعدو فأمر لم يكن ليخطر على البال حتى أقبل صلاح الدين ، ولم يكن من طراز معاصريه ولا من أصحاب الدعة والعافية ؛ وتطلع منذ اللحظة الأولى إلي تحقيق الوحدة ، فمن عاون عليها وانضم إلى المصبة الإسلامية فقد سلم ، وإلا فلينذر بشر مستعير ، من ثم لاغرابة في أن ينعقد إجماع الؤرخين على أن النصر في هذه الحرب عقد بلوائه وتوثق ، بسبب ما كان له من قدرة في الحرب وما تيسر له من صدق الإيمان وجلال الفروسية وهبية الرجولة وحكمة السياسة التي أيدت الإسلام ونصرت كلمته ورفعت راية الشرق بعد أن أزري به الأوربيون إزراء بالغا .

ولكن الناس يعرفون القليل عن "نور الدين محمود"

الذي سبق صلاح الدين ومهد له وجعل نصره ميسورا بل هينا ، وينسون أن نور الدين كان يمتاز عن صلاح الدين بالكثير ، فقد كان صلاح الدين كغيره من منشئي الدولات وقوار الحروب ، شديد الحرص والحرم ، لا يكاد يشتم ريح خطر من ناحية إلا تغيرت نفسه وفاضت فيها عيون الحلم والصبر ، وعصف ممن غامره الشك في أمرهم عصف من من لا بقى . وكانت مشاريعه ومطالبه متعددة لا تنتهي ، فكانت حاجته للمال لا تنتهي أيضا ، وكان عماله وجباته من أقسى خلق الله على الناس . ما مر ببلد تاجر إلا قصم الجباة ظهره ، وما بدت على إنسان علامة من علامات اليسار إلا أنذر بعذاب من رجال السلطان . وكان الفلاحون والضعفاء معه في جهد ، ما أنبتت في حقولهم ثمرة إلا تلقفها الجباة ، ولا بدت سفيلة قمح إلا استقربت في خزائن السلطان ، حتى أملق الناس في أيامه ، وخلفهم على أبواب محن ومجاعات حصدت الناس حصدا ؛ وتلك كلها صفات ما كان لصلاح الدين غنى عنها حتى يستطيع القيام بما تصدي له من جليل العمل ، وقد كان الظرف يتطلب رجلا عازما شديدا لا يكاد يحفل إلا المطلب الأسمي وهو إنقاذ الإسلام والمسلمين من خطر الهلاك على أيدي الصليبيين .

أما نور الدين فكان فارسا مسلما شديد الإيمان بضرورة إنقاذ كرامة الإسلام مما تتعرض له على يد الأعداء ؛ كان ينطوي في كل نزعة من نزعانه على إيمان صحيح لا يخالطه إفك من اساليب السياسة ولا رجس من أفاعيل النفس البشرية ، لم يكن كأبيه " عماد الدين زنكي " ينشد ملكا باي ثمن ، ولا يتردد في مصالحة الصليبيين و المغى معهم إلي حيث يريدون ، ولا يحفل وضع بدء في يد مسلم أو نصرانى ما دام الأمر ينتهي باتباع ملكه أو زيادة موارده ؛ وكان المسلمون قبيل مصر نور الدين قد تحولوا إلى شئ عجيب

لا يمكننا تصوره في بسر ؟ أصبحت غالبتهم لا تحفل للإسلام ولا ترعاه ، وكان أمراؤهم قادتهم في هذا البلاء الذي كانوا ينزلونه بأنفسهم وببلادهم ، فقد نزل الصليبيون بلاد الشام في أواخر القرن العاشر ، واستقروا وأنشأوا الدولات في قلب بلاد المسلمين . فكان هم الأمير منهم حماية أرضه والبقاء على عرشه المتواضع . يدفع الجزية للنصاري ويكاد يستأذنهم في كل عمل يأتيه . ولم يقتصر ذلك على صغار الأمراء بل فعله كبارهم في غير خجل ، فكان خلفاء الفاطميين ووزراؤهم ( العظام ) أحلافا للفرنج بل تابعين لهم يؤدون الجزية ويحمدون الله على السلامة . وكان أمراء حلب ودمشق والموصل يواصلون الفرنج ، ومهادونهم وينممون برضاهم ، ولم تكن الرعية خيرا من الأمراء : كان السلطان إراد زاد في المكس على جماعة أو مس امتيازات جماعة لوحت بالإنضمام إلي الفرنج بل انضت لهم فعلا ، وسارت في ركابهم تقتل المسلمين وتسبى نساءهم ، لا رحمة ولا إيمان ، وكان يخيل الحنامل في أحداث هذا العصر أن ساعة الإسلام قد دقت وأن زمانه قد ولي ؛ فقد أقبلت عليه جموع النصرانية تهاجمه من غرب البحر الأبيض المتوسط إلي شرقه ، والتقي المسلمون مع الفرنج في حرب هي حياة أو موت في ميدان يمتد من طرف الغار في أقصي الجزيرة الأندلسية إلي أقصي الموصل شمالا ، وأخذت جموع المسلمين تتراجع في انصال محزن ، حتى ظن أحدهم وهو رمجنالد صاحب الكرك أنه فاتح مكة والمدينة وقاض على الإسلام وأهله ، ولم تروع هذه الدعوي مع ذلك أحدا !

ظل أصحابنا الفاطميون يهنئون أنفسهم بما يجتمع في خزائنهم من قطع الذهب ، وظل امراء دمشق وحماء يتلمسون مواقع رضي ملك بيت المقدس  النصرانى ، وظل السريان في بوادي الشام يأخذون الأتاوات من الفرمح ثمنا للخيانة ، حتى جاء نور الدين فتغير ذلك

كله ؛ فقد طالع الناس بسياسة إسلامية صريحة لا تعرف الحيلة أو المداورة وعداء صريح لا يعرف مرونة السياسة مع النصارى ، وتأييد صريح متصل للمسلمين لا يعرف نوازع الطمع ولا بوادر الحسد أو نزوات الغضب .

لم يكن نور الدين بالجندي الماهة ولا بالسياسي الضليع ، وإنما كان المؤمن الذي يغنيه الإيمان الصادق عن مهارة القيادة وحنكة السياسة ، وتعينه قوة الخلق واستقامة النفس على أساليب الشطار من ثعالب الناس .

كان أبوه " عماد الدين " يهاجم أمراء المسلمين إخوانه في غير تردد إذا بدا له أن ذلك يعود بالخير عليه وعلى إمارته ، وكان يمد يده للنصاري في بيت المقدس أو في طرابلس أو في اثرها ، ويحالفهم على أن يبقي لهم على ما وقع في أيديهم من بلاد المسلمين ثمنا لسكوتهم عنه ؛ وكان يرجو أن يرث ابنه نور الدين خصاله تلك حتى يستطيع الحفاظ على إمارة الوصل ، من شر يريده بها أحد الجيران ، في عصر تواترت فيه الشرور ، وكان قد قضى حياته يحاول الاستيلاء على دمشق لأنها كانت أوسط إمارات الشام ، ومن وضع يده عليها هدد حلب وجعل الإمارات الصليبية في بيت المقدس وطرابلس في خطر ؛ وكانت دمشق تخشاه وتتطلع إلي حليف يحميها من مطامعه ، ولم يكن عرشها ثابتا ولا أسرها مأمونا ؛ ولو لم يساعفها الله بثعلب من ثعالب السياسة وهو معين الدين أثار بعد مقتل صاحبها شهاب الدين محمود ، لاستطاع عماد الدين أن يضع يده عليها في غير كبير مشقة ؛ ولكن معين الدين أثار أسرع ومد يده إلى فتك صاحب بيت المقدس ونزل له عن بانياس ، وارتضى أن يدفع له جزية في نظير ماعسى أن يقدمه له ملك من المعاونة ، واستطاع بهذا أن يحبط محاولات زنكي ، وأن يرده إلى بلاده في الموصل وحلب ، آيسا من الأمل في توسيع رقعة ممالكه في بلاد الشام ، فاتجهت أنظاره إلي إمارة الرها الصليبية

إلي غرب بلاده ، وكان صاحبها جوسلين فارسا هماما ، أجمع المؤرخون على قدرته وفروسيته ؛ وكان من فرط شعوره بالأمان لا يكاد يقيم في الرها إلا قليلا ، وإنما كان معظم مقامه في تل باشر ، وكان يقضي الوقت كله متنقلا من حصن إلي حصن في دعة وأمان وطلب للتسلية يدعو إلي العجب ؛ ولم تكن العلائق بينه وبين جيرانه النصاري أمراء طرابلس وأبطاكية على ما يرام ، ولم يكن يرجي منهم أن يمدوا له يد المساعدة ساعة الخطر . وحدث في سنة ١١٣٧ أن شغلت هاتان الإمارتان بهجوم مفاجي قام به يوحنا إمبراطور بيزنطة ، فصرف ريموند  أمير أنطاكية معظم وقته في رد هذه الغارة ؛ وظهر للعيان أن صاحب الرها واجد نفسه وحيدا بلا عون من أحد من إخوانه النصاري إذا دهمه أمر؛ فلم يكد عمار الدين يشعر بهذا حتى جمع أجناده وهاجم الرها هجمة مفاجئة استطاعت أن تستولي على الحصن المنيع بعد حصار قصير ( ٢٨ نوفمبر سنة ١١٤٤ ) وبهذ أسقط عماد الدين واحدة من الإمارات الصليبية الأربع في الشام ، وخلص المسلمين من هذا الشجى الذي كان قد استقر في حلوقهم ، وهدد حلب والوصل وبدد كل أمل في سبيل الوحدة ، فلما وقعت في يد هذا الصقر المسلم انفتح السبيل أمام أهل الموصل واستطاعوا أن يخطوا في أرض الشام بقدم ثابتة ، وأحست إمارة دمشق الموالية للصليبيين أن ساعتها قد دنت ، ولو لم يمت عماد الدين مقتولا على يد غلمانه في الرابع عشر من سبتمعير سنة ١١٤٦ لاستولى عليها ، ولكنه مضي مخلفا العرش لولده نور الدين محمود وسيف الدين غاري ، فتقاسما دولة أبيهما : لسيف الدين الموصل وما يليها ولنور الدين حلب والرها ؛ فكان على سيف الدين الإنصراف إلي حماية أملاكه من جيران المسلمين في الشرق . وأما نور الدين فقد أراد له الحظ السعيد أن يكون وجها لوجه أمام الصليبيين ، أمام العدو المهاجم المحتل ، ولم يكن

أحب إلى نفسه من عمل جليل كهذا ، فانصرف إليه كل ما ركبه اثمه في نفسه من حمية للدين وصفاء في العقيدة ؛ وما زال يقالب ويجاهد حتى خلف للإسلام دولة موحدة قوية في يدي زعيم عبقري هو صلاح الدين .

ولو قد كان نور الدين ذئبا من ذاب الأمراء كغيره من معاصريه ، أو ثعلبا من ثعالب السياسية كأبيه وجاره معين الدين أثار ، لما وفق في إدراك مطالبه البعيدة الجليلة هذا التوفيق السعيد ؛ ذلك أن استقامة خلقه ومعاملته الناس بما تقتضيه المروءة الإسلامية العريقة ، قد أوقتا في القلوب احترامه ، وأخجلتا رجاله ، وجعلتاهم لا يكادون يجرءون على غدر أو تقصير ، وإن دارت أفكار ذلك بأذهانهم ، بل كان لشخصه من المهابة في قلوب خصومه النصاري ما أيأسهم من إدراك مطالبهم منه بالحيلة أو بالخيانة ، واضطروا أن يقفوا منه وجها لوجه ، وقفة الشريف للشريف ، وهو أمر لم يعتادوه ، ولم يستطيعوا عليه صبرا ، وعجزت وسائلهم في كسب وده بالمال أو بالطاعة المدخولة ، لأن الرجل لم يكن يطلب مالا ولا طاعة ، وإنما يطلب بلاد المسلمين ليردها على المسلمين ، وقد تراجع خصومه أمامه ، وأسلموا إليه حصونهم واحدا بعد واحد ، وهم يزدادون مع الأيام إعجابا به واحتراما له ، حتى لنقرأ مديحه عند أشد خصومه النصاري تعصبا ، فيصفه وليم الصوري بأنه أمير عادل يقظ متدين معين لأبناء جنسه راع لتقاليده .

Princrps justus et providus et securdum  gentis svae traditiones teligiosus

وقد حاول من أول الأمر أن يغزع من قلوب من يعاملونه من المسلمين الخوف والشك اللذين يدفعانهم إلى الخداع والندر ، كان يعرف مثلا أن فلانا هذا من أتباعه يدبر عليه ، ولا يستحي ان يضع يده في يد أعدائه ، ولو كان أمير غيره لقبض على هذا التابع وبطش به ، ولكن نور الدين كان يعلم أن دافع هذا التابع إلى الخداع والغدر ،

إنما هو عدم الأمان الذي يشعر به ، ولو أمن لجادت نفسه بأحسن مافيها ؟ فكان لا يزال يحاسن الفلق المتردد ويعلي له في أسباب الطمأنينة حتى ينتزع الخوف من نفسه ويجعله يشعر أن نور الدين أحني عليه من والده ، ومن ثم يسلم قلبه له ولا يعود يفكر في خيانة أو غدر ؛ ولم يكن نور الدين ييأس من أول محاولة مع الناس ، بل كان يحاسن التابع من أتباعه فيصر التابع على الغدر ، فيمضي نور الدين يزيد في إحسانه ولا يزال به حتى يستل من نفسه كل خوف ، وقد كسب بهذا قلوب تابعيه على نحو لم يوفق إليه أمير مسلم في عصره ، وأصبح يبعث الواحد من رجاله في أمر من أموره . وهو لا يشك في صدقه وفي استعداده لبذل أقصى ما يستطيعه ؛ بهذا كسب قلب أمير قادر مثل أسد الدين شيركوه ، واحتفظ بود صلاح الدين ، ولو عمل كلاهما مع أمير آخر غير نور الدين لوقعت البغضاء بينهما وبينه من أول الأمر ، ولتفرقت الوحدة المرجوة أيدي سبا ، ولست تجد في التاريخ كله إلا مثلا نادرة من هذه الفضيلة الغالية التي توقظ الفضيلة النائمة في قلوب الناس ، وتنظمهم جميعا في صفوف الخير جندا مخلصين ، ولعل ذلك يأذن لنا في أن نقول إن الفضيلة إذا تمكنت من النفس كانت أقوي من ذكاء نافذ وتحايل تزول أمامه الحجب . فلو أن صلاح الدين كان في مكان نور الدين لما استطاع ما استطاع ، لأن صلاح الدين كان رجل سياسة وكياسة ، ولم يكن الوقت يحتاج للسياسي الكيس ، وإنما للزعيم المخلص ، للأب الكريم الذي يكسب القلوب ويؤمنها وينظمها في صف الجهاد عقدا ، وقد استطاع نور الدين ذلك على أجمل صورة وأدعاها إلى الإعجاب ، وخلف قلوب الناس مفتحة للجهاد مشرئبة إليه ، ولم يبق على صلاح الدين إلا أن يقود ، وقد قاد وانتهي الأمر بنصر الإسلام والمسلمين .

( له بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية