قدمت لصديق لي العشرات من وجوه البر التي تستحق كل ثناء وتقدير منه ، وآخر الأمر جاءني يوما يفترض مبلغا ليس معي ، فاعتذرت له ، فقاطعني ، وذهب موقفي الأخير بكل مواقفى السابقة .
شكوت ذلك لصديق لي ، فقال : إن هذا شأن الناس جميعا في كل الصور ؛ فقد ربيت ابني ولم أكتف بتعليمه التعليم الثانوي فعلته التعليم العالي ، ولم أكتف بذلك فأرسلته إلى فرنسا ، وكان لي أربعة قدارين بعتها في الإنفاق بل تعليمه، وأخيرا طلب مني مبلغا من المال للقيام بمشروع له ، فأطلعته على حالتي واعتذرت له ، فقاطعنى وعقبني ؛ وليس هذا فقط ، بل إن الموظف يحسن في وظيفته أيما إحسان ، وتمر عليه السنون وهو بخير يؤدي عمله كأحسن ما يكون ؛ فلا توضع في علقة أية شهادة بعمله الخير ، ثم يزل مرة زلة فتنسى جميع حسناته ولا تحصى عليه إلا زلته الأخيرة ، فيؤدب ويعاقب ، ورئيس الوزارة تصدر على بدء عظائم الأعمال ويشكره البرلمان أيما شكر ، ثم يخطئ مرة فيصوت البرلمان ضده ، وإذا هو خرج من الوزارة أسوأ خروج ؛ ألا تري الرجل يتعبد السنين ذوات العدد
فلا يسمع عنه إلا خير ، ثم يشاهد مرة مفطرا في رمضان فينسي الناس حسناته كلها ، ويؤاخذونه على إفطاره في رمضان مرة من غير أن يسألوه عن عذره في ذلك ، فلعله مريض أو لعله على سفر أو لعله ولعله . ولكن الناس لا يرحمون ، وكان الواجب أن يكونوا في أحكامهم خاضعين لقوانين الرياضة في عمليات الجمع والطرح ؛ فمن زادت حسناته على سيئاته كرم ، ومن زادت سيئاته على حسناته أهين .
والعكس صحيح أيضا ، فقد يكون الرجل عيبا لا يحسن الخطابة ثم يجيدها يوما فيصفق له تصفيقا حادا ، ويخطب آخر خطبا جميلة بلسان طلق ، ثم يحصر مرة فيرمي بالعي ويهزا ؛ وكذلك الشأن في كل أديب يؤلف أحسن التأليف ، أو يكتب أحسن المقالات ، أو يقول أرق القصائد ، ثم لايحكم إلا على عمله الأخير ؛ فما أصدق المغني إذ يقول : "يا سلام على الناس من ظلم الناس "
