بنيت عشا للطيور فوق سطح بيتي ، وحشدت فيه من جميع الأصناف ، بطا وإوزا وديكا رومية ودجاجا بلديا وحلا لي من حين لآخر أن أصعد إليها وأشاهد منظرها . فرأيت الديك الرومي لا يأكل من حب في الأرض ويترفع عن ذلك ، وكيف له بفخفخته أن يتنزل إلى هذا الحد ؟ إنما يأكل يوم يقدم إليه على يد صبي أو صبية .
وأبلغت أن فرخه الصغير إذا خرج من البيضة لابد أن يطعم دقيقا معجونا بالزبدة أو السمن حتى ينعم زوره ، أما الدجاج البلدي فيفضل أن يأكل من الحب ينثر في الأرض ولا بأس أن يكون قذرا ، بل ربما استحسن القذر واثره على النظيف ، ويفضل العش متربا على العش مبلطا .
فقلت في نفسي : هكذا الأمم ، يأتي الأجانب إلينا لا يأكلون إلا نظيفا ولا يأكلون إلا جيد الطعام - وقلت : لعل قومي كانوا يأكلون كما يأكل الديك الرومي ، ولا يأكلون كما يا كل الدجاج البلدي ، ولا يأكلون من فتات الأجانب . ولعلهم يترفعون عن ذلك كله ويرقون إلى
درجة الأجانب ، فهم أحق بذلك منهم ، لأن البلاد بلادهم والخير خيرهم ، فما لهم يرضون بالدون وبالقليل ، ولا يرضي الأجانب إلا بالحسن وبالجليل .
تلك أمور مرتبطة بعزة النفس وضعتها ، وعلو الهمة وسقوطها ، وقد عملت عوامل كثيرة في ذل نفوسهم وضعف همتهم ؛ فكر أني عليهم من ظلم الحكام ، وكم خطب فيهم الخطباء يوم الجتمع ليرضوا بالقليل في الدنيا ويكتفوا بالأمل في الأخرى ، وما المانع أن يتمتعوا بالدنيا والأخري معا ! كالذي حدثت أن رجلا كان يخشى الأماكن القذرة ويقول إني على مذهب مالك ، فقال له رجل : لم لا تكون مالكيا ونظيفا ؟ !
ورأي الجاحظ مرة حمارا يحتمل عليه الحمل الثقيل ، فقال : لو هملج هذا ما حمل عليه . إنما الشعر بالشاعر ، وطلب الرفعة بالتعالي . ومن أشعر نفسه الرفعة ترفع ، ومن رضي بالدون تدني .
وهذا كان أول درس من عش الطيور تعلمته ، وكم فيه من دروس .
