تابع الفصل السادس - عاداتهم كثيراً ما يلجأ الأب والأقارب الفقراء إلى التخلص من الطفل الذي ماتت أمه ولم يفطم عندما لا يستطيعون الحصول على ظئر له. وقد يوضع الطفل أحياناً على باب المسجد ساعة صلاة الجمعة، فيحدث عادة أن تأخذ الشفقة بعض المصلين عند خروجه من المسجد فيحمله إلى منزله حيث ينشأ في أسرته كطفل متبنى لا رقيق. وقد يعتني بعضهم بالطفل حتى يجد له رجلاً أو امرأة تتبناه. وقد حدث من زمن غير بعيد أن عرضت امرأة على سيدة من أسرة يعرفها صديق لي أن تبيعها طفلاً سنة بضعة أيام وجدته على باب مسجد؛ فقبلت السيدة تربية الطفل لوجه الله رجاء أن يحفظ لها طفلها الوحيد جزاء هذا الإحسان.
ثم ناولت المرأة التي أحضرت الطفل عشرة قروش ولكنها رفضت الأجر المقدم. وهذا يبين أن الأطفال يصبحون أحياناً مجرد سلع، ويستطيع من يشتريهم أن يجعلهم عبيداً له يتصرف فيهم كما يشاء. وقد أخبرني أحد النخاسين وأكد لي غيره خبره هذا أن الوالدين قد يبيعان الصغيرات أحياناً باعتبارهن جواري مجلوبات من بلاد أخرى؛ وأن كثيراً من أولئك البنات سلمن إليه بإرادتهن ليبيعهن؛ وقد ألقى في روعهن أنهن سينعمن بالملابس الفاخرة والترف العظيم، وعلمن أن يقلن أنهن أحضرن من بلادهن في سن الثالثة أو الرابعة ولذلك يجهلن لغتهن الأصلية، وإنما يمكنهن التكلم بالعربية فقط
وكثيراً ما يحدث أيضاً أن الفلاح يضطره الضنك الشديد إلى وضع ابنه - مقابل مبلغ من المال - وضعاً أسوأ بكثير من الرق. وذلك عندما يطلب مجندون أولاد من يقتنون وهؤلاء يستطيعون أن يخلصوا أولادهم من الجندية بأن يعرضوا على الفلاحين الفقراء أن يجندوا أولادهم بدل مقابل جنيه أو جنيهين لكل ولد. ويفوزون بطلبهم عادة مع إنه حب البنوة سائد عند المصريين بقدر حب الأبناء لوالديهم. ويكره أغلب الوالدين مفارقة أولادهم عندما يجندون خاصة كما يدل على ذلك الوسائل التي يعمدون إليها لمنع تجنيدهم. وقد لاحظت أثناء
زيارتي الثانية لمصر أنك لا تكاد تجد في أي قرية شاباً صحيح الجسم ليس بأسنانه كسر "حتى لا يمكنه أن يقرض الفشكة " أو بأصابعه أو بعينيه إصابة أو عمى حتى لا يجند. ويتخذ النساء المتقدمات في السن وغيرهن هذا الأمر حرفة منتظمة، فيدرن على القرى لتنفيذ هذه العمليات؛ وقد يقوم أبوا الولد أنفسهما بهذا الأمر. ويبدو مما قيل آنفاً أن العاطفة ليست وحدها دائماً السبب الذي يدفع أهل الطفل إلى الالتجاء إلى مثل هذه الوسائل حتى لا يحرموا أطفالهم.
ولا يمكن تصوير فلاحي مصر من حيث حالتهم المنزلية والاجتماعية وشمائلهم صورة ملائمة. ويشبه الفلاحون على أسوأ الاعتبارات أسلافهم البدو دون أن ينعموا بكثير من فضائل أهل الصحراء إلا في درجة منحطة. وكثيراً ما أحدث ما ورثوه عن أجدادهم أسوأ تأثير في حياتهم الداخلية. وقد ذكرنا من قبل أن المصريين انحدروا من عدة قبائل سكنت مصر في عصور مختلفة، واصهروا إلى الأقباط، وان التمييز بين القبائل لا يزال قائماً بين سكان القرى في القطر كله. وقد انشعبت بمرور السنين سلالة كل قبيلة من المقيمين إلى عدة فروع؛ وسميت هذه القبائل الصغيرة بأسماء متميزة أطلقت على القرية أو القرى أو المركز الذي يقيمون فيه. ولم يحتفظ الذين أقاموا طويلاً في مصر بالعادات البدوية الكثيرة، ولم يصونوا نقاوة جنسهم، وإنما اصهروا إلى الأقباط الداخلين في دين الإسلام أو سلالتهم؛ ولذلك تحتقرهم القبائل التي أقامت في مصر بعدهم فيسمونهم ازدراء (فلاحين) بينما يجعلون لأنفسهم تسمية العرب أو البدو؛ ويتزوج هؤلاء الآخرون متى شاءوا من بنات الأولين، ولكنهم لا يزوجون بناتهم لهم؛ ويثأرون للدم إذا قتل شخص من قبيلة وضيعة أحدهم بقتل اثنين أو ثلاثة أو أربعة؛ وقد أشير إلى تلك الشريعة البدوية الوحشية الخاصة بثأر الدم وسيادتها بين سكان قرى مصر في فصل لاحق. فيقتل أحد أقارب القتيل من ذريته أو من سلالة الجد الأكبر لأبيه القاتل، أو أحد الأقارب المذكورين من ناحيته؛ ولذلك كثيراً ما ينشب القتال بين قبيلتي القاتل والقتيل، وقد يستمر أو يتجدد كل حين عدة سنين. وكثيراً ما يكون الأمر كذلك نتيجة إهانة يسيرة بين شخصين
ينتميان إلى قبيلتين مختلفتين. وكثيرا ما يعود الثأر بعد جيل أو أكثر من ارتكاب القتل، بينما كانت الخصومة في ذلك الوقت هادئة، وربما لم يكن يذكرها أكثر من شخص واحد. وهناك قبيلتان في الوجه البحري إحداهما (سعد) والأخرى(حرام) اشتهرتا بهذه الحروب والخصومات الصغيرة (1) ، ولذلك يطلق اسمها عادة على أي شخصين أو فريقين عدوين. ومما يثير الدهشة أن يباح في الأيام الحاضرة مثل هذه الأعمال التي إذا ارتكبت في مدينة من مدن مصر عوقب عليها بالموت أكثر من شخص. وقد أباح القرآن الثأر ولكنه قيد تنفيذه بالعدل والاعتدال. وتخالف هذه الخصومات حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " ، ويشبه الفلاحون البدو في أحوال أخرى؛ فعندما تخون الفلاحة زوجها يقذف بها هذا أو أخوها في النيل بعد أن يربط في عنقها حجر أو تقطع إرباً ويقذف ببقاياها في النهر. وقد يعاقب الأب أو الأخ العذراء التي تتهم بمنكر. ويعتبر أهل المرأة أن جريمتها تمسهم أكثر ما تمس الزوج، وكثيراً ما يحتقرون إذا لم يعاقبوها
الفصل الثامن عادات المجتمع العامة
يؤدي احترام المسلم للتجارة إلى اتساع دائرة معرفته بالناس على اختلاف درجاتهم اتساعاً عظيماً؛ وينشط قانون انفصال الجنسين حرية المعاملات بين التجار إلى مدى بعيد، إذ يسمح للتاجر أن يشارك غيره - بصرف النظر عن اختلاف الثروة أو الدرجة - دون خشية اقتران شخصين متفاوتين بالزواج؛ وتتمتع النساء مثل الرجال بسعة المعاملات التجارية مع الغير من جنسهن
ويتكلف المسلمون ويدققون في شمائلهم الاجتماعية إلى أقصى حد؛ ويقوم الكثير من عاداتهم الشائعة على تعاليم الدين، وذلك يميزهم في مجتمعاتهم من كل قوم آخرين. ومن عاداتهم تحية بعضهم
بعضاً بقولهم: "السلام عليكم"(1) فيرد من يحيونه بقوله: "عليكم السلام ورحمة الله وبركاته" (2) . ولا يوجه المسلم هذا السلام إلى من يخالفه في الدين (3) ولا بالعكس (4) ؛ ويجب على المسلم أن يحيي المسلم بهذه التحية، إلا أن إهمال هذا الواجب لا حرج فيه. ويجب رد التحية على الإطلاق؛ فالتحية (سنة) وردها (فرض) . وقد يحيى المسلم مع ذلك خطأ من يخالفه في الدين، وليس على هذا أن يرد التحية. وينقض المسلم تحيته عندما يتبين خطأه بقوله: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " ؛ وكذلك يفعل أحياناً إذا حيا مسلماً ورفض أن يرد السلام
وأهم آداب السلام كما أملاها الرسول (ص) وكما يتبعها المصريون المحدثون ما يأتي: يبدأ الراكب بالسلام على الراجل، وألعابر على الجالسين قلوا أو كثروا، والفئة القليلة أو أحدهم على الفئة الكبيرة، والصغير على الكبير، ولما كان يكفي أن يوجه السلام واحد من الجماعة فكذلك يكفي أن يرده واحد. ويجب على المسلم أيضاً أن يحيي أهل المنزل عند دخوله وخروجه؛ ويجب دائماً أن يبدأ بالتحية ثم يتحدث. وللآداب السابقة بعض الشواذ فلا يلزم مثلاً في المدينة المزدحمة تحية أكثر هؤلاء الذين قد يمر بهم الإنسان ولا في الطريق حيث يقابل المرء عدة عابرين. إلا أن العادة جرت على أن يحيي الرجل الموسر أو الحسن الهندام أو الشيخ المحترم أو أي شخص وجيه من يبدو إنه رفيع المكانة أو عظيم الثروة أو من رجال العلم ولو كان الطريق حافلاً. وعادة المهذبين أن يضع من يسلم أو من يرد السلام يده اليمنى على صدره أو يلمس شفتيه ثم جبهته أو عمامته ويسمى ذلك (تيمينة) . وتؤدي التيمينة الأخيرة، وهي أكثر احتراماً، لمن علا قدره لا مع السلام فحسب، ولكن أثناء الحديث أيضاً وبدون سلام حينئذ
ولا يؤدي من كان من الطبقة الدنيا السلام إلى العظيم دائماً وعلى الأخص إذا كان تركياً، وإنما يكتفي بأداء التيمينة. ويظهر
احترامه لمن سما مركزه بإحناء اليد إلى أسفل ثم رفعها إلى شفتيه وجبهته دون أن ينطق بالسلام. ومن العادات الشائعة أيضاً أن يقبل الرجل يد العظيم، ظهرها وحده أو ظهرها وباطنها أحياناً، ثم يضعها على جبهته لإظهار احترامه الخاص. إلا أن العظيم لا يسمح بذلك في أغلب الأحوال، وإنما يلمس اليد التي تمد إليه فيضع المحيي حينئذ يده على شفتيه وجبهته فقط. وتقبل القدمان دلالة على الخضوع والمذلة لالتماس العفو عن ذنب أو للشفاعة لشخص آخر، أو لطلب إحسان من عظيم. ويقبل الولد يد أبيه والزوجة يد زوجها والعبد والخادم الحر غالباً يد السيد. ويقبل أرقاء العظيم وخدمه كم ملابسه أو طرفها
وعندما يحيي الأصدقاء الخواص بعضهم بعضاً يتصافحون باليمنى، ثم يقبل كل منهم يده أو يضعها على شفتيه وجبهته أو يرفعها إلى جبهته فقط أو يضعها على صدره دون أن يقبلها. ويتعانقون بعد الغياب الطويل وفي بعض المناسبات الأخرى. فيقبل كل منهم الآخر على الناحيتين اليمنى واليسرى. وهناك طريقة أخرى للتحية شائعة الاستعمال بين الطبقات الدنيا. فعندما يتقابل صديقان بعد سفر يتصافحان ويهنئ كل منهما الآخر على سلامته ويتمنى له الهناءة والرفاهية مرددا عبارتي: " سلامات " و " طيبين " على التعاقب ومراراً. وعندما يبدأن هذه التحية التي تدوم وقتاً، وقبل أن يأخذا في الحديث يتصافحان كالعادة المتبعة عندنا، ويغيران وضع اليد كلما يلفظان العبارتين السابقتين فيدير كل منهما إصبعه على إبهام الآخر عندما يردد العبارة الثانية ويعود إلى الوضع عند العبارة الأولى
(يتبع)
