من المعروف أن العرب لما بدأوا فى ترجمة التراث الإغريقى لم يقصروا جهودهم على الفلسفة ، بل تناولوا الأدب ونظرياته ، فترجموا - فيما ترجموا - الخطابة والشعر لأرسطو . وقد انتفع مترجمو أرسطو من محدثى الأوربيين بترجمات العرب ونقلوا عنها . وإذا فقد عرف العرب نظرية أرسطو فى الشعر وكلامه فى الملحمة والتراجيديا والكوميديا ؛ وكان من المنظور أن يظهر لهذه الأنواع أثر فى الأدب العربى فى العصر العباسى وما بعده ؛ ولكن ذلك لم يكن ، ولا يزال تعليله مجال بحث بين العلماء . وفى رأى (( مرجليوث )) أنه لما كانت الدراما غير معروفة للعرب ، أو لم يكن لها مقابل عندهم ، فقد صرفوا أنواعها إلى ما وجدوه من فنونهم الأدبية قريبا منها ؛ فخلطوا التراجيديا بالمديح ، والكوميديا بالهجاء ؛ وساعدهم على هذا الخلط لغة أرسطو فى تفريقه بين هذين النوعين ، فهو يقول : إن الشعر يبدأ إما شعرا حماسيا أو هجائيا ، ومن الحماسى ( أي شعر الملاحم ) ، تنشأ المأساة ، ومن الهجائى تنشأ المهزلة . ويقول فى موطن آخر : إن التراجيديا تقليد لما هو جدى وأحسن من الواقع ، والمهزلة تقليد لما هو وضيع وأسوأ من الواقع . وقد ترتب على هذا الفهم الذى اتجه إليه العرب أن كادت الكوميديا الإغريقية تفقد عند العرب خاصيتها فى إثارة الضحك ، وأصبحت هجاء وإقذاءا ، ولم يعد تأثيرها يتوقف على ما قد تثيره من مرح وإمتاع .
وأشعر أن هذا التعليل الذى يفترضه (( مرجليوث ))
لا تطمئن إليه النفس تماما ؛ فالهجاء فن قديم عند العرب ، وقد كان منه المحنق والمضحك ؛ وفى الكتابات النثرية العربية ما يقرب كثيرا من طبيعة المهزلة الأغريقية . ولم يقم لدينا دليل على أن العرب قصدوا إلى إدخال هذه الأنواع فى أدبهم ، وخلطوا بينها وبين فنونهم المعروفة . فمسألة الهجاء والمهزلة إذا ليست إلا جزءا من ظاهرة أوسع لا تزال تحتاج إلى البحث والتحليل ، وهى صلة الأدب العربى بالأدب اليونانى ، وما كان لكل منهما من خصائص ، ثم ما كان لكل منهما من أثر على الآخر .
يستشهد (( مرجليوث )) لفرضه السابق بشواهد : منها أن (( بنى حزم )) جردوا من ضياعهم فى أيام الوليد لبيتين قالهما الأحوص فى هجائهم ( ولم ترد إليهم أملاكهم إلا فى عهد الخليفة المنصور ) والبيتان هما :
لا تأوين ؟ لحمى رأيت به
ضرا ولو ألقى الحزمى فى النار الناخسين لمروان بذى خشب
والمقحمين على عثمان فى الدار
وسواء أكانت هناك فى الأصل علاقة بين الهجاء والسحر أم لا ، فان تأثير الهجاء الناجح كان شديدا ، وكان ضحاياه ينوءون تحت الذلة والعار . ولقد اتخذ الخلفاء والولاة نحو الهجائين مواقف مختلفة ، فمن ذلك ما يرويه الأغانى عن حماد الراوية ، قال : سأل أعشى همدان شجرة ابن سليمان العبسى حاجة فرده عنها فقال يهجوه :
لقد كنت خياطا فأصبحت فارسا
تعد إذا عد الفوارس من مضر
فان كنت قد أنكرت هذا فقل كذا
وبين لى الجرح الذى كان قد دبر وإصبعك الوسطى عليه شهيدة
وما ذاك إلا وخزها الثوب بالأبر
قال : وكان يقال إن شجرة كان خياطا ، وقد كان
ولى للحجاج بعض أعمال السواد ، فلما قدم على الحجاج قال له : يا شجرة أرنى إصبعك أنظر إليها . قال : أصلح الله الأمير ، وما تصنع بها ؟ قال : أنظر إلى صفة الأعشى . فخجل شجرة . فقال الحجاج . . . إذا أتاك امرؤ ذو حسب ولسان فاشتر عرضك منه .
ومن ذلك أن معاوية أمر مروان أن يرد على النابغة الجعدى ما كان قد أخذ منه من أهل ومال قائلا : (( ما أهون والله عليك أن يتجحر هذا فى غار ، ثم يقطع عرضى على ، ثم تأخذه العرب فترويه ، أما والله إن كنت لمن يرويه ، أردد عليه كل شىء أخذته منه )) .
وقد اضطر صلاح الدين الأيوبى أن ينفى من دمشق أبا المحاسن شرف الدين الأنصارى ، لأنه كان مولعا بالهجاء وثاب أعراض الناس ، وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقا كثيرا من رؤساء دمشق سماها (( مقراض الأعراض )) فلما خرج من دمشق قال :
فعلام أبعدتم أخا ثقة لم يقترف ذنبا ولا سرقا
انفوا المؤذن من بلادكم إن كان ينفى كل من صدقا
وفى بعض الأحيان كان النقد يقصد به إثارة الضحك لا الإغاظة ؛ فمن ذلك أبيات فالتها عائدة الجهنية تهجو بها أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخى لما ولى الوزارة ، وتعيبه بقصر قامته :
شاورنى الكرخى لما بدا النير ـروز والسن له ضاحكة
فقال : ما نهدى لسلطاننا من خير ما الكف له مالكة
قلت له كل الهدايا - سوى مشورتى - ضائعة هالكة
أهد له نفسك حتى إذا أشعل نارا كنت دوباركة
( تشير بذلك إلى العادة التى كانت متبعة عند أهل بغداد ، حيث كانوا يحتفلون بعيد رأس السنة الفارسية ، فيلبسون الدمى لباس الزواج ويجلسونها على سطح المنزل ، ويلعبون بها ، ويخرجونها فى زى حسن ، ويخفق بين يديها بالطبول والزمور ، وتشعل النيران ، والدوباركة
كلة أعجمية ، ومعناها الدمية ، أو العروس الصغيرة ) .
وهناك مجال أوسع للتندر والفكاهة فى الأعمال الفنية التى لا تتألف من أشخاص بل من أنواع ؛ ومن أحسن الأمثلة على ذلك مقامات بديع الزمان الهمذانى ، الذى عاش فى القرن الرابع الهجرى ، وهذه المقامات أقرب الأنواع الأدبية العربية للكوميديا ؛ وفى رأى (( مرجليوث )) أن أصح ما يطلق على هذه المقامات هو الكلمة الاغريقية الأصل Mimes ( ومعناها الهزليات التى تصور فيها مناظر من الحياة تصويرا تقليديا ) .
ومع أن الغرض الأصلى من المقامات هو الترويح والإمتاع فليست كلها من هذا النوع ، بل إن منها ما يعتبر أدبا تثقيفيا رفيعا ، ويتجلى هذا على الخصوص فى مقامات الحريرى . وربما كانت أطرف مقامات البديع مقاماته المضرية والحلوانية . وهو فى الأولى يقلد أسلوب شخصية ليست مجهولة فى أيامنا هذه ، أسلوب الشخص الذى يعتز بكل ما عنده وما يتصل به ، ويعتبر كل إوزة إوزا عراقيا ( كما يقول الانجليز ) . وفى الثانية يقدم إلينا عيسى بن هشام ، وقد قفل من الحج ونزل حلوان ووجد شعره طويلا ، وبدنه قد اتسخ قليلا ، فطلب من غلامه أن يختار لهما حماما وحجاما ، ووصف له ما يجب أن يكون عليه الحمام والحجام ، ثم أخذا طريقهما إلى الحمام ، فما دخلاه حتى دخل على أثرهما رجل وعمد إلى قطعة طين فلطخ بها جبين عيسى بن هشام ووضعها على رأسه ثم خرج ، ودخل آخر فجعل يدلكه ذلك يكد العظام ، ويغمزه غمزا يهد الأوصال ، وما لبث أن دخل الأول فحيا أخدع الثانى بمضمومة فعقصت أنيابه ، وقال : يا لكع ! مالك ولهذا الرأس وهو لى ! ثم عطف الثانى على الأول بمجموعة هتكت حجابه وقال : بل هذا الرأس حقى وملكى وفى
يدى ، ثم تلاكما حتى عيبا ، وجاء صاحب الحمام ليفصل فى القضية ، وقال لعيسى : يارجل لا تشهد بغير الحق وقل لى : هذا الرأس لأيهما ؟ فقال عيسى : يا عافاك الله ! هذا رأسى قد صحبنى فى الطريق ، وطاف معى بالبيت العتيق ، وما شككت أنه لى . فقال له صاحب الحمام : اسكت يا فضولى . . . . . . )) .
وبعض هذه المقامات تصور حيل اللصوص تصويرا بارعا . ولكن الجانب الفكاهى من حيل اللصوص لا يتجلى هنا كما يتجلى فى كتاب ( فشوار المحاضرة ) لمؤلف معاصر للبديع هو القاضى التنوخى ( ١ ) . كان التنوخى معتزليا صميما ، وكان لذلك يشك فى الأرواح خيرها وشرها . لهذا تراه يتخيل مواقف طريفة يظهر فيها اللصوص فى ثياب الملائكة أو الشياطين بين جماعات الناس . ومن هذه حكاية يقول فيها الراوى : (( كان فى بلدنا عجوز صالحة كثيرة الصيام والقيام ، وكان لها ابن صيرفى منهمك على الشرب واللعب ، وكان يتشاغل بدكانه أكثر نهاره ، ثم يعود عشيا إلى منزله فيخبى كيسه عند والدته ، ويمضى فيقضى الليل فى مواضع شربه ولهوه . وذات ليلة تقفاه لص وهو لا يعلم ، ودخل وراءه الدار ، وراقبه حتى سلم الكيس وخرج ، وكان للعجوز فى دارها بيت مؤزر بالسياج إلى أكثر حيطانه عليه باب حديد ، تجعل قماشها وكل ما تمتلكه والكيس فيه - فخبأت الكيس وجلست تفطر ، وظن اللص أنها ستأكل فتكسل فتنام ، وينزل هو فيفتح الباب ويأخذ الكيس والقماش ، فلما أفطرت قامت إلى الصلاة وأطالت تهجدها وقيامها حتى نفد صبر اللص ، وخاف أن يدركه الصبح ولا يظفر بشىء ، فطاف فى الدار فوجد إزارا جديدا وجمرا ، ووقع فى يده
شىء له دخنة طيبة ، فلبس الإزار ، وأشعل ذلك البخور وأقبل ينزل على الدرج ، ويصبح بصوت غليظ ، وتعمد أن يجعله جهوريا لتفزع العجوز ، وكانت معتزلية جلدة ، ففطنت لحركته وأنه لص ؛ فلم تره أنها فطنت ، وقالت : من هذا ؟ بارتعاد وفزع شديدين . فقال لها أنا رسول الله رب العالمين . أرسلنى إلى ابنك هذا الفاسق لأعظه ، وأعامله بما يمنعه من ارتكاب المعاصى . فأظهرت أنها قد ضعفت ، وغشى عليها من الجزع ، وأقبلت تقول : ياجبريل سألتك بالله إلا رفقت به ، فإنه واحدى . فقال اللص : ما أرسلت لقتله ، بل لآخذ كيسه وأولم قلبه بذلك ، فاذا تاب رددته إليه . وعندئذ تنحت العجوز عن الباب ، وما هو إلا أن دخل اللص حتى أقفت الباب عليه من الخارج . فأخذ يدور فى الحجرة لا يجد منفذا ؛ وأخيرا طلب إليها أن تفتح له الباب ليخرج ، فقالت : يا جبريل أخاف أن أفتح الباب فتذهب عينى من ملاحظتى لنورك ! فقال : إنى أطفئ نورى حتى لا تذهب عينك ؛ فقالت : يا جبريل إنك رسول رب العالمين ، لا يعوزك أن تخرج من السقف ، أو تخرق الحائط بريشة من جناحك وتخرج فلا تكلفنى أنا التغرير ببصرى . . . وبقى حتى طلعت الشمس ، وجىء بصاحب الشرطة فقبض عليه . ))
ويروى أن لصا دخل بيت معتزلى ؛ فلما رآه صاحب البيت اندفع وراءه ليمسك به ، فجرى اللص حتى نزل فى بئر فى المنزل ، فأمسك المعتزلى بحجر وهم بالقائه عليه ، فصاح اللص : الليل لنا والنهار لكم ( يشير بذلك إلى أنه من الجن ) فأجابه المعتزلى : (( إذا فعليكم نصف الأجرة )) .
ومن الموضوعات المستملحة فى القصص الفكاهية موضوع البخيل ، وقد قام مؤلفون مشهورون بجمع مجموعات من قصص البخلاء ؛ ومن أشهر المؤلفين فى هذا الموضوع الجاحظ ، وحكاياته مشهورة ، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل ، ونضيف هنا واحدة قصيرة ، وذلك أن
يخيلا افتقد بعض لحم كان عنده ، فسأل زوجته فأخبرته أن القطة قد أكلته ، فأخذ القطة ووزنها ثم قال : هذا هو اللحم فأين القطة ؟
ومن الأنواع الطريفة كذلك ما يسمونه ( Parody ) وهو تقليد القصيدة المشهورة فى أفكارها وعباراتها تقليدا ساخرا من نوع ما تنشره الجرائد الهزلية عندنا أحيانا من تقليد المعلقات ، أو تقليد قصيدة معروفة مثل ( فتكات لحظك أم سيوف أبيك ) ، وهذا النوع منبع فياض من منابع التندر والتملح عند كثير من الأمم ، ولكن (( مرجليوث )) يرى أنه لم يلعب دورا كبيرا فى الأدب العربى .
هذه أهم نواحى الفكاهة فى التأليف العربى . والواقع أن كل واحدة منها جديرة بالبحث والتفصيل .
